18 ديسمبر، 2024 11:51 م

الموسيقى الأجنبية والرشوة

الموسيقى الأجنبية والرشوة

في مسيرة الحياة تصادف الأنسان منذ طفولته الى سنوات متقدمة من العمر أحداث وحكايات تبقى عالقة في الذهن لايمكن أن تزول مهما حدثت حكايات أخرى خلال مسيرة العمر تلك. من ألأحداق التي لايمكن أن تزول من ذاكرتي تلك المعاناة التي كانت تسبب لي إحراجاً وألماً نفسياً كبيراً على الرغم من حداثة سني في ذلك التاريخ. في بداية السبعينات لم يكن لدينا جهاز تلفزيون في البيت لأسباب تتعلق بالمادة . كنت في المرحلة المتوسطة من الدراسة. إعتدتُ أن أذهب الى المقاهي القريبة من قريتنا وهناك نستطيع أن نشاهد مايبثهُ التلفزيون العام الذي كانت مقتصراً على قناتين فقط بالأسود والأبيض. البرامج الرئيسية التي كان شباب وصبيان القرية يذهبون لمشاهدتها تقتصر على ألأفلام التي تعرض يوم الخميس والجمعة بعد الظهر وكذلم الرياضة. بالنسبة لي الموضوع يختلف تماماً . إضافة الى ماتقدم ذكرهُ أعلاه …كنتُ أنا الوحيد من قريتنا الصغيرة يواجه مشكلة كبيرة على المستوى الشخصي – طبعاً بالنسبة للآخرين لاتشكل أي أهمية تذكر لا بل العكس كانت موضوعاً تافهاً جداً – كنتُ الوحيد الذي يعشق الموسيقى ألأجنبية ولذلك كنتُ حريصاً على متابعة النصف ساعة التي تُبَثْ في التاسعة والنصف ليلاً من يوم ألأحد والأربعاء على القناة السابعة . كانت نصف الساعة تلك بالنسبة لي كابوساً ومعانة لايمكن وصفها. حينما يأتي الوقت المخصص للبث أحاول بكل الطرق إقناع صاحب المقهى والجالسين من الزبائن أن يسمحوا لنا بمشاهدتها. أحياناً يوافقون وأحياناً أخرى يعترضون وتبريرهم الوحيد هو أنهم لايفهمونها ولايستسيغونها. في بعض ألأحيان كانت تحدث بيني وبين البعض سجالات كلامية تصل الى الصراخ من جميع ألأطراف المتنازعة. هذا ألمر دفع بصاحب المقهى أن يلجأ الى الديمقراطية وعملية التصويت . العدد المتفوق هو من يحصل على القناة التي يريدها في تلك النصف ساعة. في بعض المرات يتفوقون علي ولذلك أنسحب وأعود الى البيت على دراجتي وأنا في أشد حالات الحزن واليأس المطلق. أنام وأنا أفكر بشكل جدي في كيفية حل هذه المعضلة المروعة لي. لانستطيع في البيت شراء تلفزيون ولاأستطيع دحر ألأعداد الهائلة التي تقف ضدي في ذلك التصويت. كنتُ أحدث نفسي وأمنيها أنني يوماً ما حينما أتخرج من الجامعة سأضع تلفزيون في كل غرفة حتى في حديقة البيت وأشياء أخرى مضحكة. على حين غرة خطر ت على ذهني فكرة مكلفة جداً بالنسبة لي وهي شراء ألأصوات عن طريق دفع قدح الشاي البالغ سعره في ذلك الزمن – 10فلوي- أي مايعادل 250 دينار في الوقت الحاضر.
هنا تواجهني مشكلة كبيرة وهي كيف أستطيع شراء عشرة أصوات على ألأقل كي يصوتوا معي.؟ كل مرة أذهب الى المقهى أصطحب معي عشرة فلوس فقط وهو الثمن المخصص لي من والدتي للذهاب الى المقهى…أحتاج إذا الى 90 فلس أخرى كيف سأحصل عليها من والدتي وهذا مستحيل بسبب الظروف المادية التي كنا نعيش فيها. إذن كان أمامي طريقان لاغير أما السرقة أو الكذب وقد مارست الحالتين ونجحتُ في كسب ألأصوات وتمتعتُ لمرتين. ..إلا أن تعذيب الضمير راح يطاردني ليلاً ونهاراً. الطريقة التي سرقت فيها النقود كانت من جيب أخي – هادي – حينما كان مدرساً في الكوفة في ذلك الوقت ولم أقل له حتى هذه اللحظة. ..سرقت من جيبه 100 فلس عام 1972 . الطريقة الثانية كذبتُ على والدتي أن تمنحني المبلغ لشراء كتاب مهم ولم تجادلني لأنها قالت لي يوماً أي شيء تحتاجه للمدرسة أوفره لك وإن بعت شيئاً من البيت. توصلت الى حل متعب بعض الشيء وهو الذهاب سيراً على ألأقدام والعودة من القرية الى المسيب مايقرب من 4 كيلوات من ألأمتار وسأوفر أجرة السيارة مع مصرف المدرسة البالغ 50 فلس يومياً ونجحت الفكرة إلا أنني كنتُ أعود للبيت في أشد حالات ألإرهاق. سيطرت على الوضع وكنتُ أشتري ألأصوات كل يوم أحد وأربعاء. كان البعض يتهمني بالجنون إلا أنني كنتُ سعيداً بذلك الجنون. عملت المستحيل للعمل كمرافق للصحافة ألأجنبية حينما تخرجت من الجامعة وتسرحت من الجيش كي أكون قريباً من الناس ألأجانب. .زفي كان التعيين المركزي قد أرسل أسمي للعمل كمفتش في الكمارك ورفضت ذلك. كان من الممكن أن أكون مليونير لو بقيت كمفتش في الكمارك إلا أن عشقي للموسيقى ألأجنبية هو الذي دفعني لتغيير وظيفتي. منذ عام 1987 الى سقوط بغداد كنت أسعد إنسان على وجه الكرة ألأرضية لأنني حققت ما أريد. لم أعد أطيق الموسيقى العربية مهما كانت. اليوم وأنا أكتب هذه الكلمات وأستمع الى موسيقى عالمية هادئة تنقلني الى عالم جميل أدركت أن ألأنسان يستطيع أن يحقق أهدافه مهما كانت صعبة إذا كان مثابراً وجاداً في تحقيق ذلك الهدف.

ملاحظة : أعدت المبلغ المسروق من جيب أخي هادي عن طريق هدايا تعادل ملايين أقداح الشاي والحمد لله.