23 ديسمبر، 2024 6:19 ص

الموت والحياة والخلود

الموت والحياة والخلود

لم يكن الانسان البدائي، وهو يرمق جثة عدوه المطروحة في الجوار، يرهق ذهنه بالتفكير في لغز الموت والحياة، لكنه كان يزهو بما حقق من إنتصار. ولم يكن يثيره لغز الموت، ولكنه كان يرفض تقبّل موت العزيز، وتتضارب ازاءه مشاعره، فهو من جهة يحبه ويعتبره جزءا من نفسه، ومن جهة اخرى كان انسانا مغايرا ليس جزءا منه وهو ما يكرهه فيه.

وهذا التقارب في المشاعر هو الذي كان يطلق طاقة البحث فيه، وهو نفسه الذي اولد علم النفس، فالإنسان لم يعد في إستطاعته ان يستبعد الموت من تفكيره لإنه ذاق اساه في موت احبائه، لكنه مع ذلك لم يستسلم تماما امامه، ورفض ان يعترف به بشكل كامل، لانه كان مايزال يتصور انه هو نفسه مقدر عليه الموت، ولذلك فقد تحايل على فكرة الموت واقنع نفسه بموقف متوسط، فقد تقبّل الموت كحقيقة، واقر بحقيقة موته هو نفسه، لكنه رفض ان يعترف بأن الموت نهاية الحياة.

مع انه ما كان ينبغي ان ينتهي إلى هذه النهاية، لان عدم الإقرار بانه نهاية الحياة معناه انه ليس نهاية حياة لعدوه مثلما هو هو ليس نهاية الحياة له هو نفسه.

وعلى اي حال فقد تصوّر ان الميت تخرج من جسده اشباح، واختلط الاسى على الفقيد العزيز بالراحة لموته بإعتبار ان الفقيد لم يكن بتمامه امتدادا له، فقد ظل به جزء يستعصي عليه دمجه فيه، جزء مغاير له اجنبي عنه، وهذا الجزء الغريب عليه هو الذي شرح صدره لموته، وملاه ذلك إحساسا بالذنب، وجعله الإحساس بالذنب يتصور روح الميت التي غادرت جسده روحا شريرة، وتخيلها عفريتا مرعبا.

 ولم يكن يعتقد في اول الامر ان الميت تخرج منه روح واحدة، ولم يكن امامه ازاء ما يلمسه من تغييرات قد استحدثها الموت إلا ان يؤمن ان الإنسان جسد وروح، وقدمت له مخيلته تفسيرا لكل ما يحدث.

ولانه يذكر المتوفي وسيظل يذكره ، صارت الذكرى الابدية اساس تصوره لانماط الحياة الاخرى بعد الموت، فتخيلها حياة ابدية تتجاوز الموت، ولكنه لم يجهد ذهنه في اول الامر فيما يحتمل ان تكون عليه هذه الحياة، وظل يحفظ لها في نفسه تقديرا خاصا، ثم جاءت الاديان المختلفة من بعد لتصور هذه الحياة الاخرى في صورة اكثر إغراء، وقارنتها بالحياة الدنيا، ووصفتها بانها الاصدق، وان الحياة الدنيا حياة زائفة مآلها الفناء.

وكان طبيعيا لنظرة ترد هذه الحياة الى عالم اسبق عليها ان تتصور الحياة تعود الى الاجسام بعد الموت، وان الاجسام تقوم يوم القيامة، وغاية هذه النظرة ان تفقد الموت معناه كنهاية للحياة.

ومن ثم نرى ان انكار الموت الذي نحسبه من تقاليد هذه الحضارة ليس سوى شيء نشأ مع الشعوب البدائية الاولى.

 هناك تطوّر متسلسل في عقائد ما بعد ألموت ونظرة ألإنسان إلى ألعالم ألعلوي وألعالم ألأسفل، وهنالك تشابه ملحوظ بين الحضارات ألرافدينية ألثلاث في هذا المجال، فألرافدينيون لم يؤمنوا بوجود ألثواب والعقاب في ألعالم ألأسفل فهناك يتساوى ألصالح والطالح ولكن مع وجود بعض ألفروقات في ألموقع والمعاملة حسب موقع ألميّت في ألحياة فألملوك مثلا لهم أماكن خاصة في ألجحيم ألرافديني، ولكنّ ألجميع في ألعالم ألأسفل يكونون في حالة شبحية.

لا يوجد في عقائد ما بعد الموت ألرافديني ثنائية ألجنّة وألجحيم، ولا ثنائية ألثواب وألعقاب،  في ألاساطير ألرافدينية نلاحظ بأنّ إله ألخصب ( أنانا أو عشتار) أو أبنها ( تمّوز أو ديموزي) يؤسر أو يُختطف من قبل آلهة ألعالم ألأسفل ويبقى هنالك لفترة معينّة ثمّ يصعد ألى ألأعلى، هذا ألتناوب له علاقة بألمواسم ألزراعية من خريف وصيف وربيع وخريف، فألإنسان ألرافديني كان همّه ألأول طعامه ألأساسي ألقمح ودورة حياته فبعد موسم ألحصاد كانت تقام ألمآتم ألتي ترمز ألى جفاف ألأرض وموت الهة ألخصب ونزولها الى ألعالم ألأسفل، أمّا في موسع ألربيع فكانت ألأحتفالات تتسم بطابع ألسعادة وألفرح لقيام آلهة ألخصب من ألموت وتحرره من ألعالم الأسفل.

عقائد ما بعد الموت والعالم الاخر في التوراة هي امتداد لعقائد السومريين والبابليين. فعالم الموتى هو عالم سفلي تذهب اليه ارواح الموتى جميعا دون تمييز.فنجد فيه القديسين والناس العاديين معا. وليست عملية الموت الّا مرحلة تقود الفرد من حالة الى اخرى من احوال الوجود، عن طريق مفارقة الروح للجسد.

انّ الارواح تكون متساوية في مصيرها كما هو الامر في ثقافة وادي الرافدين: فلا بعث هناك ولا حساب ولا ثواب ولا عقاب، بل وجود ثقيل راكد، واستمرار لا فرح فيه ولا نشوة.

عقائد ما بعد الموت الزرداشتية احدثت انقلابا فكريا في المعتقدات الدينية ونلاحظ تأثيراته في الديانات الابراهيمية (اليهودية والمسيحية والاسلام)، فلأول مرة يتعرّف الفكر الانساني على مبدأ الثواب والعقاب في ألآخرة ويطفو إلى ألسطح ثنائية ألجنّة وألجحيم.

في مسيرة المسيحية الاولى في القرون الثلاث بعد الميلاد، حيث ارتبطت بكونها فرقة يهودية جديدة، تخبّط الفكر اللاهوتي قبل ان يتوصل لقرار حاسم في البعث وخلود الروح وشمولية الثواب والعقاب، فكانت فكرة خلود الروح تقتصر على المؤمنين الذين اتّحدوا بالمسيح فأعطيت لهم به الحياة، شأنها في ذلك شأن ديانات الاسرار التي كانت شائعة في الامبراطورية الرومانية في تلك الآونة كالاورفية وغيرها، حيث كان الالتصاق بمخلّص هو (ديونيسيوس أوغيره) شرط للخلاص وللحياة الجديدة.

وأخيرا فإنّ عقائد ما بعد الموت في الدين الاسلامي وصلت إلى مرحلة ألنضج  بتأثير العقائد الزرداشتية و التاثيرات المسيحية فظهرت العقائد بصورة أوضح وبتفاصيل مضافة عجيبة عليها، كعقيدة عذاب ألقبر ومرحلة البرزخ، وكذلك عقيدة الثواب الذي ينتظر المؤمنين الصالحين في الجنّة والعقاب الذي ينتظر الكفار الطالحين في الجحيم.

إن دين ألإنسان بدأ بعبادة ألأنثى (ألأم ألكبرى) في ألعصر ألبيالوتي( قبل ميلاد المسيح بعشرة آلاف سنة) فكانت هي رمز ألخصب وألعطاء وألذي أرتبط في خيال الإنسان ألقديم بعطاء ألأرض بعد أكتشاف ألإنسان الزراعة وإنشائه ألقرى ألزراعية، ولكن بعد أنشائه ألمدن ألحضرية وألدولة وحكم ألمجتمعات ألحضرية من قبل ألملوك قام ألذكور بإنقلاب على ألأديان ألأمومية، فظهرت إلى ألوجود الآلهة ألذكور وألأديان ألذكورية كأليهودية وربيبتها ألإسلام.
مصادر ألبحث:

ألحب والحرب والحضارة والموت… سيجموند فرويد

ألتوراة

ألإنجيل

ألقرآن

ألاحاديث ألنبوية

مغامرة العقل الأولى…… فراس السوّاح

ميلاد ألشيطان…… فراس السوّاح