يختلف مفهوم “الموت الحميد“ عن “الموت الرحيم“، فهذا الأخير (Necrosis) يحدث عندما يَقدُمالطبيب على إنهاء حياة المريض لينقذه من الآلام أو البؤس الذي يعيش فيه فيكون الموت هو الخلاص من تعاسة يعيش فيها فيصبح الموت أسرع الطرق لإنهاء معاناته المريرة. في المقابل فإن الموت الحميد هو مختلف تماماً (موت الخلايا لأسباب مرضية)، وهو مصطلح علمي – بيولوجي (الموت المبرمج للخلية (programmed cell death apoptosis يطلق على “خلايا” الجسم الحي عندما تقوم بتدمير نفسها بذاتها لأنها تمر بحالة لا يمكن استمرارية نظامها الداخلي بصورة سليمة. فتكون عملية التدمير ليس من أجل القضاء على مكونات الخلية وموتها، ولكن الأجزاء تبقى فاعلة وحيوية ولا تموت، وإنما يمكن استثمارها في عمليات أخرى في الخلية ليبقى الجسد كله حيوياً وسليماً، كما أن للموت الحميد دوراًهاماً في الوقاية من الأمراض والقضاء على الأورام، وبناء كيان “خلوي” جديد مكان القديم الذي ليس له ديمومة ولا يأتي بنفع وفاعلية. فالموت الرحيم إذن هو القضاء على الحياة ويقوم بها عامل خارجي، بينما الموت الحميد إنما هو فعل ذاتي من أجل إستمرارية الحياة وبناء نظام حيوي جديد وفاعل من الأجزاء الحية الباقية.
الموت الحميد هو بالفعل ما يمر به النظام السياسي في العراق، فهو في حالة من التدمير الذاتي لوجود خلل في نواته الحاكمة وفجور في كيانه الإداري وفسق في أجزائه التي يعمل بعضها ضد الآخر بصورة سوف تهدم البناء (النظام) على الجميع.
الإنتخابات البرلمانية الأخيرة وكأنها آخر الحلقات الهدامة التي بدأت تسرع في عملية التدمير الذاتي للنظام، ليس فقط لأن نسبة المشاركة فيها وصلت الى أدنى مستوياتها حتى ضمن النسب الرسمية المعلنة، ولكن أن من يقومون بالتدمير هم القائمون على سلطات النظام وأجهزته بصورة تكاد تكون شاملة ستؤدي الى إنهياره بصورة حتمية ومؤكدة عاجلاً وليس آجلاً، كما تصفه الآية: ولكل أمة أجلفإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. ويطلق السيد الشهيد محمد باقر الصدر على هذا الموت الجماعي بأنه جزء من السنن التاريخية الحتمية، فيقول: ان التاريخ له سنن تتحكم به وراءالسنن الشخصية التي تتحكم في الافراد بهوياتهم الشخصية.
فمن آخر مظاهر هذا الموت الحميد للنظام السياسي، نرى أن المفوضية العليا للإنتخابات تعلن نتائج الإنتخابات النهائية حتى قبل إكمال عدها النهائي، فيقوم البرلمان (ومن ضمنهم الأعضاء الخاسرين في الإنتخابات) بإصدار توجيه الى المفوضية بإعادة الفرز اليدوي لـ (عشرة بالمائة) من الأصوات، فالبرلمان هو المسؤول المباشر عن المفوضية ضمن القانون، فيقوم رئيس الجمهورية (وهو غير معني بالموضوع دستورياً) بالكتابة الى المفوضية بعدم العمل بتوجيهات البرلمان، ويصدر القضاء بمحكمته العليا بالنظر بالخروقات في عملية الإنتخابات، فيصرح رئيس المفوضية بأن هذا سيقود الى حرب أهلية، فيثير هذا التصريح رد غاضب من قبل رئيس الوزراء على هذا التنويه بالحرب الأهلية ويصدر مجلس الوزراء توجيهاته الى المفوضية فترد عليهم كلهم بأنها غير ملزمة بكل ما تصدره السلطات الثلاث. وهنا أصبحت المفوضية سلطة “مستقلة“ فوق سلطات النظام السياسي الثلاث، فهي فوق القانون، وأصبحت بالفعل مفوضية “مارقة” عن النظام وخارجة عن الدولة وغير معنية بالشعب. وإذا أخذنا بالإعتبار نظرة الشعب الى عدم شرعية الإنتخابات لأن الغالبية منه لم يشارك فيها، فإن العراق مُقدِم على حكومة هزيلة فاقدة لشرعية الشعب الذي هو مصدر السلطات، وهي كذلك محفوفة بالأخطار الخارجية والتدخلات الدولية، وتتسم بتردي أدائها في جميع المجالات والمهام الحيوية التي على عاتقها، فيستمر ترهل القائمون عليها بمرض الفساد الإسطوري (السرطاني) الذي استشرى في كل مؤسسات الدولة. فالثابت هو أن الفاسدين لا ينتجون إلا الفساد في أي عمل يقومون به، وأية عملية ينتجونها إن كانت انتخابية أو إجراءات تنظيمية أو تعليمات إدارية، ولا يمكن أن نتوقع غير هذه الحتمية المطلقة، فالإناء ينضح بما فيه.
إن النظام السياسي ليس مقدساً، وكذلك عمليته الإنتخابية. وسقوط النظام لا يعني بالمرة إنهيار الدولة، وأن فشل العملية السياسية لا يؤدي الى نشوب حرب أهلية. فالعملية الإنتخابية أداة يجري من خلالها إختيار قيادات ومسؤولي هذا النظام، والعملية السياسية هي أداة وإجراءات لتنظيم عمل هؤلاء القادة والمسؤولين. ما يمر به العراق هو عملية تدمير ذاتي للنظام من قبل القائمين عليه من قوى وأحزاب وقيادات، وكذلك من قبل أجهزة دولية وكيانات إجتماعية وسلطات سياسية. ولكن هذا التدمير الذاتي لا يعني بأنه سوف يمحي العراق من وجوده، فالوطن هو العراق منذ القدم، وشعبه هو الذي عاش على ربوع وادي الرافدين منذ فجر التاريخ، لم ينمحي على الرغم من كل الإنقلابات التي حدثت في تاريخه من سيطرة وإنهيار الحكام الأباطرة والأنظمة الشامخة والدول العتيدة والحضارات العملاقة، ولكن بقي الشعب وبقى الوطن خلال العشرة آلاف سنة الماضية. فتلك الأيام ندوالها بين الناس، وما اهلكنا من قرية الا ولها كتاب معلوم، واذا اردنا ان نهلك قرية امرنا مترفيها ففسقوا فيهافحق عليها القول فدمرناها تدميرا. فهذا هو تدمير ذاتي يقوم به الفاسقون في النظام، وهو مظاهر الموت الحميد الذي عندما يصيب الخلل والفسوق النواة الحاكمة فتتآكل بقية أجزاء النظام لإعادة تشكيل كيان جديد فيه الحيوية للقيام بوظائفه ومهامه وتستمر فيه الحياة.
فالموت الحميد لهذه العملية السياسية أو النظام القائم يجري بصورة متسارعة وهذا هو أمر حتمي ضمن السنن التاريخية فينتج من أجزائه نظام جديد ودولة لما هو أفضل لمستقبل العراق.