23 ديسمبر، 2024 9:29 ص

المواطنة العراقية والمشاريع الفيدرالية

المواطنة العراقية والمشاريع الفيدرالية

عادة ما يكون الجهل بالتفارق بين المفاهيم ، والتغاير بين المصطلحات ، والتباين بين المقولات ، قرينا”لتعثر الفكر في اكتناه حراك الواقع ، وتلكؤ الوعي في محايثة تغير المجتمع . الأمر الذي أفضى – وسيفضي على  الدوام – إلى غموض المعاني المراد استخلاصها ، وارتباك الدلالات المطلوب استيحائها ، وتشوش الرموز المنوي استذكارها ، وبالتالي الإخفاق في التوصيف والفشل في التشخيص والعجز في المعالجة . ولهذا فقد سبق للفيلسوف الألماني (فردريك نيتشه) أن سلط الضوء على الأهمية التي تحتلها المفاهيم ، ليس فقط في تطور النوع الإنساني فحسب ، وإنما في اغناء الأحكام وإثراء الاستنتاجات المتمخضة عن ذلك التطور بالقول ((لقد أصبحت آلية المفاهيم والأحكام والاستنتاجات ، منذ أيام سقراط تعتبر النشاط الأرقى للإنسان ، واعتبرت أروع هبة تقدمها الطبيعة مقارنة بالملكات العقلية الأخرى)) . ولما كان العقل الجمعي العراقي مسكون بشتى ضروب ؛ الارتكاس في قدراته المعرفية ، والالتباس في خياراته المنهجية ، والاحتباس في تطلعاته الإبداعية . فقد وجد الفرد العراقي أن لا تثريب عليه ولا مؤاخذة ، حين يعمد للتعاطي مع ظاهرة معينة أو واقعة ما ، استخدام مفهوم / مصطلح شائع بدلالة مفهوم / مصطلح متداول آخر، بصرف النظر عما إذا كان هذا الأخير مناسبا”للتعبير عنها والإشارة إليها . وذلك دون أن يأخذ بالحسبان طبيعة ومستوى الاختلاف النوعي القائم بين تلك المفاهيم والمصطلحات ، لجهة السياق الذي وردت فيه والدلالة التي توحي بها . مثلما انه لم يعد يساوره الإحساس بالحرج ، حين يضفي على بعض المقولات / التعابير معاني ودلالات ، قد لا تنطبق عليها أو تنسجم معها ، بقدر المعاني والدلالات التي صيغت لها وأضفيت عليها بالأصل . وهكذا نلاحظ إن معظم العراقيين حينما يشرعون بالحديث عن (الهوية) ، فالغالب إن المقصود في ذهنهم (المواطنة) وبالعكس ، بمعنى إن الثانية قد تحل محل الأولى وتنوب منابها كمرادف في المعنى في الدلالة ، الشيء الذي جعل من كلا المفهومين / التعبيرين ، يتسمان في بنى الوعي التقليدي بطابع من الالتباس في الإيحاء والتلابس في الإحالة . ولكي لا يبدو تناولنا للموضوع كما لو انه ضربا”من الحذلقة السفسطائية ، فان توضيحا”موجزا”لما نعنيه بكل من (الهوية) و (الموطنة) يغدو شيئا”لازما”وضروريا”، لاسيما وان هناك سيلا – تتباين جودته – من المساهمات والمقاربات ، التي تصدت لمعالجة مثل هذه الظواهر السياسية والاجتماعية . وعليه فإننا نقصد (بالهوية) هنا ذلك الإحساس المفعم (بالكينونة الجمعية) المشتركة ، التي تضفي على الكائن الاجتماعي طابع الخصوصية الايكولوجية (الارتباط بجغرافيا معينة) ، والتميّز السوسيولوجي (الانتماء لمجتمع ما) ، والفرادة التاريخية (الاحتكام لذاكرة خاصة) ، والقيمية (الاحتكام لثقافة معلومة) . بحيث تطرح ، في خضم ديناميتها ، مسألة (الآخر / الغير) بشدة وإلحاح ، مما يستتبع تبلور الشعور بالوحدة العضوية ، وتمظهر الوعي بالأنا الجمعي . ولتأكيد هذه الخاصية فقد كتب العالم الاجتماعي البريطاني (مايك كرانغ) يقول ((من المستحيل تماما”التفكير بتمعن في طريقة اكتساب الناس للهوية ، بمعنى كيف يمكن تحديد المميزات المشتركة دون حل ، بالتالي ، لمسألة إقصاء الآخرين – كيف إن الهوية تنشأ من التمييز . وبتعبير بسيط ، أنها وضعية (نحن) و (هم) . ومن الصعب إن نتصور كيف سنحدد أنفسنا كمجموعة (نحن) بأي طريقة كانت دون آخر مغاير)) . هذا في حين نقصد (بالمواطنة) تلك العلاقة السياسية والقانونية التي تؤطر التزامات الدولة حيال الفرد ، مثلما تحدد توجهات الفرد إزاء الدولة . بعبارة أخرى أنها تلك الرابطة التي ترسّم الحدود ما ببن حقوق وواجبات الحاكم من جهة ، وما بين حقوق وواجبات المحكوم وبالعكس من جهة أخرى . ولهذا فقد لاحظت العالمة الاجتماعية (حنّة آرندت) انه ((بمجرد ما يحرم من حق المواطنة (الجنسية) وبالتالي من الهوية القانونية ، يصبح الشعب الذي لا دولة له بأفراده ضحايا  للأعمال البوليسية التعسفية وهي تصرفات خارج حكم القانون)) . والجدير بالذكر إن ( المواطنة) التي نقصدها هنا تختلف نوعيا”ودلاليا”، عن تلك التي دعوناها في مكان آخر(بالمواطنبة الحضارية) ، التي تعتبر بمثابة طور أعلى ومرحلة متقدمة من أطوار ومراحل التعاطف الإنساني والتضامن الأخلاقي ، الذي يتخطى عما في القوميات من حواجز عنصرية ، ويتجاوز عما في الثقافات من موانع تعصبية ، ويتخلى عما في الهويات من حدود نرجسية . فبينما يتمحور مجال الأولى (المحلية) ضمن إطار البلد / الوطن الواحد ، بحيث تبقى شغالة وفعّالة طالما أقتصر نطاقها على أبناء ذلك البلد ، لجهة التمتع بالضمانات القانونية والحريات السياسة والحقوق المدنية ، التي توفرها صيغة العقد الاجتماعي المبرم (دستوريا”أوعرفيا”) بين صاحب السلطة (الدولة) والرعايا(المواطنين) . بحيث نجد إن على من تسقط عنه (الجنسية) ، لأسباب سياسية أو إيديولوجية أو دينية ، حزم أمتعته لمغادرة وطنه واللجوء إلى بلد مهجر يأويه. ولهذا فقد حرص قانون إصلاح النظام القانوني في العراق عام 1977 (القانون رقم 35) ، حرصا”شديدا”على أن يستثني من حق نيل الجنسية العراقية ((كل شخص يتخذ موقفا”عدائيا”من الثورة وبرنامجها ، سواء على الصعيد السياسي أم الاقتصادي أم الفكري)) . بينما نلاحظ إن تأثير الثانية (الحضارية) يتعدى نطاق الإقليم الوطني المحدود ، ليمتد إلى حيث توجد أوطان مغايرة وشعوب مختلفة وثقافات متنوعة وهويات متباينة ، إنما ليس على المستوى المادي (السياسي والقانوني) كما في الحالة الأولى ، ولكن على الصعيد المعنوي (الفكري والنفسي والأخلاقي) . ولعل ما عبر عنه المفكر والناقد الفرنسي (تزفيتان تودوروف) يعكس صورة حية ونموذج ناطق في هذا الإطار ، حيث كتب يقول ((إن الانتماء إلى الجنس البشري أي إلى الإنسانية بما هي صفة كونية هو أكثر أصالة من الانتماء إلى هذا المجتمع أو ذاك)) . والحقيقة إن مفهوم (المواطنة) يعتبر من مقومات (الشخصية الاجتماعية) أكثر مما يعد من مكونات (الهوية الوطنية) ، باعتبار إن الأولى (الشخصية) تشير إلى وحدة الخصائص / المشتركات الوضعية والرمزية لشعب ما أو مجتمع معين – كما سبقت الإشارة – . هذا في حين تجسّد الثانية (الهوية) نمط التجانس الحضاري والثقافي والتاريخي لذلك الشعب أو المجتمع من جهة ، وتعكس ، من جهة أخرى ، صيغ التخالف في المرجعيات والتغاير في الذهنيات ، التي تجعل من التنوع في الثقافات ، والتعدد في الأديان ، والتباين في الحضارات ، والتشاكل في اللغات ، وقائع متواضع عليها وظواهر مسلم بها . واللافت في هذا المقام هو إن حالة الجهل بالخصائص النوعية ، لكل من (الهوية) الوطنية و (المواطنة) العراقية ، لم تقتصر فحسب على البسطاء من الناس ، ممن حالت ظروفهم الشخصية وأوضاعهم الاجتماعية دون الحصول على تعليم مناسب ، يؤهلهم لحيازة بعض المعارف السياسية والقانونية ، القمنية بإرشادهم صوب التمييز ما بين مكونات الأولى من جهة ، وبين عناصر الثانية من جهة أخرى . بل إن عدوى هذه الحالة السلبية قد سرت – ولعلها مصطنعة ومقصودة – على بعض المتعلمين ، ممن يحمل مؤهلا”علميا”/ أكاديميا”، فضلا”عن تمتعهم بقسط  معقول من الثقافة العامة ، يفترض انه يتيح لهم إدراك ما بين هذه وتلك من اختلافات وأولويات وأواليات . بحيث ما أن تستثار أزمة تتعلق بحقوق السلطات السياسية ، أو تفتعل مشكلة تتصل بحدود الصلاحيات الدستورية ، حتى ينبري الخاصة قبل العامة بخلط الحابل بالنابل ، وجعل الأمور تبدو على غير حقيقتها وخلافا”لماهيتها . وهو الأمر الذي يضاعف من تأزم المواقف وتشنج العلاقات وتهيج الخطابات ، وخصوصا”إذا  كانت  القضايا المطروحة تتعلق بمصير العباد ومستقبل البلاد . وهكذا فقد وجد بعض (فطاحل) القانون – دع عنك (جهابذة)  السياسة – إن مطاليب فيدرالية المحفظات ، التي أثارت كل هذا اللغط والجلبة بين الحكومة الاتحادية ومجالس المحافظات ، يمكن حسمها عن طريق إحالتها إلى جمهور المحافظات الراغبة بتشكيل إقليم فيدرالي ، ليقرر عبر (الاستفتاء) فيما إذا كان يؤيد إقامة مثل تلك الأقاليم من عدمه ، وذلك استنادا”إلى الحق في الاختيار الذي أقره الدستور الديمقراطي !. وقد فات هؤلاء وأولئك إن حق الاستفتاء على مثل هذه القضايا المصيرية ، ينبغي أن يكون في إطار نظام ديمقراطي فعلا”لا زعما”كما هو شأنه في العراق حاليا”، حيث كل جماعة اثنية أو تجمع عشائري أو تكتل طائفي ، يروم إقرار حقوقه الجزئية بنفسه دون أخذ حقوق المصلحة العامة بالاعتبار ، حتى وان استلزم الأمر الذهاب بمصير العراق إلى الجحيم ، هذا أولا”. وثانيا”إن الاستفتاء لكي يكون (شرعيا”) يستدعي ، أولا” وقبل كل شيء ، ألاّ يكون المستفتي قد امتلك شروط الوعي بماهية المواطنة فحسب ، إنما – الأهم من ذلك – أن يكون قد اجتاف قيمها وتمثل أخلاقيتها وتماهى بروحها ، لا أن تكون النعرة الطائفية والفزعة القبلية والحمية العنصرية ، هي من يحدد مواقفه ويؤطر وعيه ويقرر خياراته . بحيث تحال القضايا والمسائل المستفتى عليها ، من صيغتها الدستورية المؤسسة إلى طابعها السياسي المفتعل . ولذلك فقد شدد الفقيه الفرنسي (جورج بوردو) على إن ((السيادة الشعبية لا يكون لها دور ايجابي في حالة الاستفتاء السياسي ، بل مجرد دور سلبي . فهي لا تقرر ، وإنما تقتصر على الموافقة في ظروف يكون من الصعب عليها أن تفعل غير ذلك)) . فعلى الرغم من وجاهة ترويج فكرة المشاريع الفيدرالية ، ضمن إطار الإقليم العراقي الوطني الموحد – من وجهة نظر ديمقراطية طبعا”- إلاّ إن توقيت طرحها بالصيغة الحالية وضمن طبيعة الظروف القائمة ، يشكل خطيئة لا تغتفر من الناحيتين السياسية والقانونية . ليس فقط لأن  الداعين إليها والمطالبين بها يجهلون ألف باء السياسة الوطنية فحسب ، وإنما لخطورة التعويل على إقامتها ، فضلا”عن إنجاحها ، وسط جماعات / كيانات سيطر على ذهنيتها التعصب القومي / العنصري ، واخترق  وعيها التطرف الديني / المذهبي ، وامتلك زمام أمرها الهوس الجهوي / المناطقي ، واستوطن نفسيتها التفاخر القبلي / العشائري . فعلى افتراض إن دعاة الأقاليم الفيدرالية حققوا مبتغاهم ونالوا مرادهم ، فما هي الضمانات التي يمكن أن يقدموها للحيلولة دون انخراطهم لاحقا”، بمشاريع ظاهرها الاستقلال الذاتي (فيدرالي) وباطنها الانفصال الفعلي (كونفيدرالي) ؟! . وهو ما سوف يؤسس لتطلعات تفكيك الجغرافيا الوطنية إلى غيتوات ومعازل وفقا”للانتماءات الجهوية والمناطقية ، وتمزيق السوسيولوجيا العراقية إلى جماعات وتجمعات وفقا”للولاءات الاثنية والطائفية ، (وهاكم الدليل حيث تقدم كل من قضائي الدجيل وبلد بالانفصال عن محافظة صلاح الدين) !! . والحال كيف سيبدو شكل المواطنة العراقية الأثيرة على قلوب المتاجرين بالسياسة – دع عنك حال الشخصية الاجتماعية المندثرة والهوية الوطنية المندرسة – التي لم يفتأ الجميع يلهج باسمها ويخطب ودّها ويعظم شأنها ، كما لو أنها تعويذة أو عصا سحرية يكفي مجرد ذكرها إنقاذ العراق من الكوارث التي تحيق به وانتشال شعبه من الفواجع التي تنهال عليه ؟؟ . وهكذا فامتطاء مثل هذا المسعى المتهور يتطلب – من جملة ما يتطلب – ليس فقط الحفاظ على وحدة العراق أرضا”وشعبا”، واعتبارهما من المحرمات التي ينبغي إبعادها عن ألاعيب السياسة وأكاذيب السياسيين فحسب ، كما ليس فقط الإقرار بعلوية السيادة الوطنية وسموها على كل دعاوى التنطعات الجانبية والهامشية والفرعية ، التي يمكن أن تتحجج بالدستور وتتلفع بالشرعية ، لتمرير مشاريعها المشبوهة وتبرير تطلعاتها المرائية فحسب ، إنما فضلا”عن ذلك ، أن تترسخ أركان دولة المؤسسات ، بدلا”من دولة الجماعات الفوضوية بكل أصنافها . وان تتكرس دعائم سلطة القانون ، بدلا”من سلطة الزعمات الكارزمية بكل ألوانها . وتترصن أسس مبدأ المواطنة ، بدلا”من اعتماد حضوة العلاقات الاستزلامية بكل أطيافها .
[email protected]