23 ديسمبر، 2024 9:39 ص

المواريث القبلية في الطقوس العراقية

المواريث القبلية في الطقوس العراقية

( مهداة إلى الأستاذة الفاضلة والباحثة الدؤوبة الدكتورة (لاهاي عبد الحسين) المحترمة
لعله من نافل القول إن كل شعوب العالم – بصرف النظر عن موقعها على خارطة التقدم العلمي / التكنولوجي وتسلسلها في قائمة الارتقاء الفكري / الحضاري – تمتلك رصيدا”من المواريث الأسطورية والدينية والانثروبولوجية تعتزّ به وتحافظ عليه من الاندثار ، ليس فقط من باب كونها تعكس أنماط خصائصها القومية وتنوعها الثقافي وتعددها اللغوي وتشاكلها الرمزي فحسب ، بل وكذلك من منطلق اعتبارها عناصر مهمة في تشكيل وعها وبناء هويتها وتكوين ذاكرتها .
وعلى قدر أهمية تلك المواريث بالنسبة لتلك الشعوب وضرورة تمسكها بها واحترامها لها ، إلاّ أنه وللحيلولة دون تقاطعها مع سياقات واقعها الراهن وتناقضها مع متطلبات عصرها الحاضر ، وبالتالي تحولها إلى عوائق تمنعها وقيود تكبلها من الانطلاق في ركب التمدن الإنساني ، فقد جرى إدخالها في مصهر (الحداثة) لتطهيرها مما أضيف لها وعلق بها من خرافات ، وتعريضها لإشعاعات (التنوير) لتقيتها مما تراكم فوقها وحولها من أباطيل . بحيث تم استئصال واستبعاد كل ما له علاقة بتسويغ العنف في العلاقات وتشجيع التطرف في الذهنيات ، أما ما بقي من مخلفاتها وترسباتها ما اعتبر صالحا”لتقوية روابط الانتماء للمجتمع وايجابيا”لتعزيز مشاعر الولاء للوطن ، فقد جرى إحالتها إلى مخزون الماضي كثقافة شعبية وإيداعها إلى أرشيف التاريخ كفولكلور وطني . بحيث يمكن استحضارها مع كل مناسبة قومية أو دينية واستدعائها مع كل حدث سياسي أو اجتماعي ، ليس فقط من واقع صيرورتها بمثابة رمز من رموزها الوطنية ومكون من مكونات مخيالها الجمعي فحسب ، وإنما لتمتين أواصر المجايلة بين مكوناتها من السابقين واللاحقين من أبناء الشعب الواحد والوطن الواحد أيضا” .
وفي هذا السياق لا يعتبر الشعب العراقي شاذا”عن هذه القاعدة من حيث حيازته على رصيد وافر من تلك المواريث ، إن لم يكن أكثر غنى وأشد تنوع من سواه في المضامير الانثروبولوجية والاثنولوجية ، باستثناء كونه الوحيد الذي أبى أن يخضعها للنقد المعرفي ويعرضها للمساءلة التاريخية . لا بل انه لم يفتأ متمسكا”بها رغم تخلفاها وحريصا”عليها رغم انعدام صلاحيتها ، لا في مناسبات أفراحه وانتصاراته فحسب بل وفي مناسبات أتراحه وانكساراته أيضا”، وهو الأمر الذي وسمه أكثر من أي شعب آخر في المعمورة بسمات ؛ تغليب الماضي على حاضر ، وتفضيل القبيلة على الدولة ، وتقديم العرف على القانون ، وتحكيم العاطفة بدل العقل ، والركون إلى حق القوة بدلا”من قوة الحق ، الخ .
ولعل من أسوأ ما تمسك به الشعب العراقي وحافظ على استمراريته من تلك المواريث السلبية ، هو ذلك (المبدأ القبلي) المتخلف الذي يشجع الأفراد والجماعات على استعراض مظاهر القوة والتبجح بطقوسها لأغراض التباهي الشخصي والتفاخر العشائري على المستوى الاجتماعي ، بصرف النظر عن طبيعة المناسبة أو الحادثة التي تستدعي مثل هذا التصرف البدائي . ذلك لأن
هذا المبدأ / العرف يعكس تماما”نمط الشخصية العراقية التي لا تحسن الإفصاح عن لواعجها ولا تجيد التعبير عن معاناتها إلاّ عبر طقوس العنف هذه .
ولعل ما يؤيد وجهة نظرنا في هذا الأمر ، هي ظاهرة استخدام السلاح الناري – أو أي وسيلة أخرى تعكس مظاهر البأس والقوة بالنسبة للجماعة – من قبل الإنسان العراقي للتعبير عن مشاعره في حالتي الحزن والفرح ، لا بل إن (إفراطه) و(تطرفه) في إظهار هذه المظاهر العنيفة يعد من قبيل صدق المشاعر ونبل العواطف التي يكنها للجهة التي يواسيها بأحزانها أو يشاطرها بأفراحها . وهكذا ما تحل مناسبة عامة أو تقع حادثة خاصة حتى يسارع إلى امتشاق ما بحوزته من أسلحة (مسدس أو بندقية أو رشاشة) مطلقا”لفوهاتها العنان لتعبّر بأصواتها الحادة والمفزعة عما يجيش في وجدانه من مشاعر وأحاسيس متزاحمة ، كما لو أن لغات العالم قاطبة باتت عاجزة عن ترجمة تلك اللواعج والانفعالات . وعلى ما يبدو فان الأبناء والأحفاد استورثوا هذا العرف القبلي السيئ من ذويهم ، بحيث لا تمر مناسبة دون أن يكون لهم نصيب فيها من خلال استخدام المفرقعات بشتى أصنافها وأحجامها ، والتي أضحت مصدر رزق للكثير من أصحاب المحال التجارية في كل مكان .
وللتدليل على الأصل القبلي لهذا التصرف البدائي ، فاني أستقي أحد الأمثلة التي عايشتها شخصيا”حين قضيت شطرا”من الزمن – سنة تقريبا”- في أرياف المنطقة الغربية ، حيث شاهدت خلالها إن أفراد العشائر التي كانت تقطن تلك المنطقة يعمدون في حالات رغبتهم بالإخبار عن كلا حالتي الفرح (زواج) أو حزن (وفاة) ، إلى رفع علم – بيرغ كما يسمونه – فوق سطوح بيوتهم المتواضعة ، بحيث يكون في موضع يمكن لجميع ساكني تلك القرى رؤيته من مكان بعيد . ومنذ اللحظة التي يرفع خلالها العلم يبدأ سيل منهمر من الاطلاقات النارية باتجاه ذلك العلم ، تعبيرا”من ذوي العلاقة عن تعاطفهم مع صاحب المناسبة وإشعارهم إياه بالدعم والمؤآزرة .
وإذا ما كان النظام السابق قد وضع بعض القيود وسن بعض القوانين التي كانت تحد من استشراء هذه الظاهرة – خصوصا”في مدينة بغداد – فان رفع تلك القيود وإلغاء تلك القوانين بعيد سقوط ذلك النظام ، كان بمثابة الإعلان عن السماح للجميع على استعادة وممارسة ذلك العرف ، دون مانع من سلطة أو رادع من قانون أو وازع من أخلاق . ولهذا فان حلول المناسبات العامة والخاصة – أعياد الميلاد الأخيرة على سبيل المثال لا الحصر – سرعان ما تتحول إلى مضمار للتنافس بين الكبار قبل الصغار ، للتعبير ليس فقط عن طبيعة المناسبة التي تستوجب الاحتفاء فحسب ، وإنما لإظهار مكامن الموروث القبلي الرابض في السيكولوجيا العراقية ، حيث (الرجولة المدجنة) تترجم إلى مظاهر من العنف والقوة ، و(الذكورة المخصية) تترجم إلى أنماط من التباهي والتفاخر .