كتب العلماء البلغاء قديماً وحديثاً حول “إعجاز القرآن” ووجوه هذا الإعجاز وألفت في ذلك كتب شتى، فمنهم من عُني بإخباره بالغيوب، ومنهم من عُني بالنظم والعبارة والأسلوب، أو ما يسمى “الإعجاز البياني” وقد كتب فيه القدماء، مثل الباقلاني، والرماني، والخطابي، والجرجاني، والفخر الرازي، وغيرهم.
وكتب فيه المحدثون، مثل: مصطفى صادق الرافعي، وسيد قطب في كتابه “التصوير الفني في القرآن” ومثله “مشاهد القيامة في القرآن” وطبقه في تفسيره “في ظلال القرآن”، وكتاب الدكتور بدوي طبانة “بلاغة القرآن”، والدكتور محمد عبد الله دراز “النبأ العظيم” ومنهم من عُني بالإعجاز التشريعي أو الإصلاحي الذي جاء به القرآن، كما فعل الشيخ محمد رشيد رضا في كتابه “الوحي المحمدي” حيث جدد التحدي بالقرآن، وبين المقاصد التي جاء القرآن يلحقها الحياة، وأنه يستحيل أن يأتي بها رجل أمي في أمة أمية، وقد فاقت كل ما جاء به الفلاسفة والمصلحون ومثل ذلك: المقالات التي كتبها العلامة محمد أبو زهرة في مجلة “المسلمون” الشهرية المصرية، تحت عنوان “شريعة القرآن دليل على أنه من الله”.
وفي عصرنا ظهر نوع جديد أطلق عليه الإعجاز العلمي ويقصد به: ما تضمنه القرآن من إشارات ودلالات على حقائق علمية كانت مجهولة للناس في وقت نزل القرآن، وتعتبر سابقة لغيرها، ولا يتصور أن تصدر من رسول أمي في بيئة أمية، وفي عالم لا يعرف عن هذه الحقائق شيئاً، واشتهر في هذا الميدان كل من الشيخ عبد المجيد الزنداني والدكتور زغلول راغب محمد النجار وغيرهم.
والقرآن ليس كتاب علوم، فلا هو كتاب في الفلك أو الفيزياء أو الكيمياء أو علم الحياة ولكنه مع ذلك يحوي إشارات في كل تلك العلوم وموضع هذه الإشارات في كتاب الله هو تعريف الناس بقدرة ربهم التي لا تحد وبآيات قدرته في هذا الكون، ليعرفوا أنه لا إله غيره، ولا مدبر غيره، ولا رازق غيره، ولا مهيمن غيره، فيعبدوه وحده بلا شريك ويتبعوا ما أنزل إليهم.
وبعض هذه الإشارات كان معلوماً مشاهداً بالنسبة للعرب المخاطبين بهذا القرآن أول مرة، فكان ذكرها لهم، وتذكيرهم بها، مقصوداً به إزالة الغشاوة التي تغشى على بصائرهم فتجعلهم لا يدركون الدلالة الواضحة التي يجب أن تستمد منها، وهي أنه مادام الله هو الذي يقدر، وهو على كل شيء قدير، ولا أحد يقدر قدرته، ولا يدبر تدبيره، ولا يهيمن هيمنته، فالعبادة ينبغي أن توجه إليه وحده دون الآلهة المزعومة التي لا تخلق، ولا تقدر، ولا تدبر، ولا تهيمن، ولكن بعض هذه الإشارات كان جديداً على أولئك المخاطبين بالقرآن أول مرة، لا يعرفون أسرارها، أو لا يعرفون تفصيلاتها، وقال لهم الله في كتابه المنزل إنهم سيعرفونها ذات يوم.
ـ قال تعالى:” سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ” (فصلت، آية : 53).
ـ وقال تعالى:” وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ” (النمل، آية : 93).
ـ وقال تعالى:” وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ” (ص، آية : 88).
فأما الذين آمنوا فقد أخذوا هذه الإشارات بالتسليم وإن كانوا لا يعرفون كل شيء عنها، مادامت من عند ربهم الذين آمنوا به وصدقوه.
ـ قال تعالى:” فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ” (البقرة، آية: 26).
ـ وقال تعالى:” يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا” (آل عمران، آية : 7).
ولكن أجيالاً وراء أجيال كانت تتعرف رويداً رويداً على بعض أسرار هذه الإشارات، فتزيدها المعرفة إيماناً، وإن كانوا قد كانوا مؤمنين مصدقين من قبل.
وفي عصرنا الحديث هذا الذي اتسعت فيه دائرة العلوم وانكشف فيه كثير من أسرار الكون، تبينت للناس حقائق كثيرة تتعلق بالإشارات القرآنية لم تكن معلومة من قبل، فازداد الناس تعلقاً بتلك الإشارات وقامت بشأنها أبحاث متخصصة يقوم بها علماء مسلمون في شتى فروع المعرفة، وقامت دعوة تهدف إلى الإكثار من هذه الأبحاث، من أجل إقناع غير المسلمين بالإسلام عن طريق إثبات صدق القرآن، وأنه وحي منزل من عند الله، إذ لم تكن المعلومات الواردة فيه معروفة للبشرية كلها من قبل، فيستحيل أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم هو مؤلف القرآن من عند نفسه كما يزعم المستشرقون وغيرهم من أعداء الإسلام وهو اتجاه سليم في ذاته، وقد أسلم على هداه بعض الناس بالفعل… ولكن هناك في هذا الاتجاه محاذير، فبعض الناس تدفعهم الحماسة فيتلقفون كل نظرية علمية يظنون فيها تأييداً أو إثباتاً لإشارة من الإشارات الواردة في القرآن، فيسارعون إلى تبنيها، ويفسرون الآيات القرآنية على هداها، وليس كل ما يقال في الساحة العلمية حقائق، فبعضها لا يزيد على فروض علمية، وبعضها مازال في طور النظرية لم يصل إلى حد أن يصبح حقيقة علمية موثوقاً بها، فإذا ربطنا تفسيرنا للآيات القرآنية ببعض هذه الفروض أو النظريات، ثم تبين بعد حين من الوقت أنها لم تكن صحيحة، فإننا نقع من حيث لا ندري في الغلطة التي وقعت فيها الكنيسة في العصور الوسطى، إذ تبنت أفكاراً علمية كانت سائدة يومئذ ففسرت بها ما جاء في التوراة والإنجيل من إشارات كونية، فلما تقدم العلم وتبين خطأ هذه النظريات كفر الناس بالتوراة والإنجيل وكذبوا كل ما كان فيهما مما بقي على أصله المنزل، ومما حرف، ومما أسيء تأويله، فجعلوها كلها أكاذيب.
والقرآن غني بدلائل الإعجاز فيه، سواء الإعجاز البياني الذي تحدى الله به البشر جميعاً، والبلغاء في أولهم، فعجزوا عن الإتيان بمثله، أو بألوان الإعجاز الأخرى، ولا يحتاج أن نلتمس له أسانيد من النظريات العلمية المتداولة اليوم، التي قد يظهر بطلانها غداً ولكن لا بأس أن نأخذ الحقائق العلمية التي ثبتت صحتها، والتي نجدها متوافقة مع ما جاء في القرآن، أو مفسرة له فنعتمدها، ونتخذها دليلاً يضاف إلى الأدلة القائمة من قبل على أن هذا القرآن وحي رباني، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، على ألا نتعسف في ربط تفسير الآيات بكل شاردة وواردة بما يسمى علماً، كما حاول بعضهم أن يفسر قوله تعالى :” وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا” (نوح، آية : 14). بما يتفق مع نظرية التطور بينما أصحاب النظرية ذاتهم يتشككون اليوم في صدقها، وينحون في تفسير الحياة على الأرض منحى غير منحى دارون.
إن الله عز وجل ميز القرآن الكريم الذي يحمل كلمته الأخيرة للبشرية كافة بخصائص لا توجد في غيره، فقد كانت الرسالات السابقة محدودة بأقوام معينين ومحدودة بزمن معين ينتهي بإرسال رسول جديد، بينما هذه الرسالة للبشر كافة، وللزمن كله من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فكانت الكتب المنزلة السابقة تحوي احتياجات الأقوام الذين تنزل عليهم في الزمن المحدد في علم الله، أما القرآن، فقد أنزل الله فيه ما تحتاج إليه البشرية كلها، وفي الزمن القادم كله، فلا عجب أن يختلف عن الكتب السابقة في مبناه وفي محتوياته، وإن كان مصدقاً لما فيها، ولكن مهيمناً عليها، قال تعالى:” وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ” (المائدة، آية : 48).
والإعجاز العلمي كان واحداً من جوانب التميز التي تفرد بها هذا الكتاب وانكشاف الحقائق العلمية التي يحتويها الكتاب للبشر جيلاً بعد جيل هو جانب من جوانب استمرارية الرسالة التي نزل بها الكتاب، فهو ليس لجيل واحد تنتهي مهمته بعدها، أو تنقطع صلة الأجيال به، بل هو لكل الناس في كل جيل، يهديهم إلى ربهم، ويوجههم إلى الخير وإلى الحق، ويربيهم على المنهج القويم ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون.
المراجع:
1. علي محمد محمد الصلابي، المعجزة الخالدة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، ص 23:17
2. محمد الغزالي، كيف نتعامل مع القرآن العظيم، ص 34
3. محمد قطب إبراهيم الشاذلي، لا يأتون بمثله، ص 195.