18 ديسمبر، 2024 8:43 م

المنفى والاغتراب في قصيدة” أضاعوني” للشاعر الفلسطيني بروفيسور عزّ الدين المناصرة

المنفى والاغتراب في قصيدة” أضاعوني” للشاعر الفلسطيني بروفيسور عزّ الدين المناصرة

د.
سأتعرض في هذه العجالة لقراءة في قصيدة “أضاعوني” للشاعر عز الدين المناصرة، بهدف الوقوف على الاغتراب المكاني فيها، إضافة إلى الوقوف على مظاهر المنفى والاغتراب التي بدت جليّةً في اللغة والأسلوب، وقد ارتأيت بداية أن أعرّف مصطلحيّ المنفى والاغتراب.

تعريف المنفى

استخدم العرب والمسلمون الأوّلون لفظة “هجرة” بمعنى المغادرة أو ترك المكان الأصليّ إلى مكان آخر، إمّا عقوبةً أو لأسباب أخرى، مثل: الجهاد في سبيل الله، والبحث عن مكان أفضل للعيش. ولمّا أرادوا استخدام “الهجرة” بمعنى المنفى قرنوها بعبارات، مثل: الخروج عنوةً أو ظلمًا، وبهذه المعاني وردت لفظة “هجرة” في القرآن الكريم اثنين وثلاثين مرّة.

يرى سعيد) 2000) أنّ المنفى حالة دائمة من الغربة والابتعاد والإقامة في الهامش، هو هجرة مستمرّة لا يمكن عكسها، ومن ثمّ هو صيغة من صيغ الوجود، تولّد شعورًا متواصلًا بالانشقاق عن السياق والحنين الدائم إلى ماضٍ وأرض وثقافة لم تعد كلّها موجودة في المنفى فهو الصدع الذي يصعب شفاؤه ويفصل بصورة قسريّة بين المرء ومسقط رأسه؛ بين الذات وبيتها الحقيقيّ: إنّ الحزن الجوهريّ الذي يولّده لا يمكن التغلّب عليه.

 

 

تعريف الاغتراب

إنّ الأصل اللاتينيّ للفظة “اغتراب” هو “Alienation”، وهذا الاسم يستمدّ معناه من الفعل اللاتينيّ “Alienare”، بمعنى نقل شيء ما إلى آخر، أو الانتزاع والإزالة، وهذا الفعل مستمَدّ، بدوره، من لفظة أخرى هي “Alienus”؛ أي ينتمي إلى شخص آخر أو يتعلّق به، وهذا الفعل الأخير مستمدّ، في النهاية، من اللفظة “Alius” التي تدلّ على الآخر، سواء اسمًا كان أم صفة. وهو، بهذا المعنى، يشير إلى انتقال ملكيّة شيء ما من شخص إلى آخر، وخلال عمليّة الانتقال تلك يصبح الشيء مغتربًا عن مالكه الأوّل، ويدخل في حيازة المالك الجديد. لقد ظهر استخدام هذا المصطلح، الاغتراب، لدى ماركس الذي جعل من العمل وتقسيمه وشروطه وملكيّته ووسائل انتاجه أبرز العوامل المسؤولة عن خلق ظاهرة الاغتراب.

ويرى البروفيسور قيس النوري، عالم في الانثروبولوجيا، استخدامًا آخر لمصطلح “الاغتراب” يأتي في سياق العزلة (Isolation)، وهو أكثر ما يُستخدم في وصف وتحليل دور المثقّف أو المفكّر الذي يغلب عليه الشعور بالانفصال (Detachment) وعدم الاندماج النفسانيّ والفكريّ مع المقاييس الشعبيّة في المجتمع.

مفهوم الاغتراب في العصر الحديث

معنى الاغتراب في العصر الحديث لا يختلف عن معناه في العصور القديمة؛ إذ يشير الشقيرات إلى أنّ مفهوم الاغتراب حديثًا يحتوي على عدّة مضامين منها:

– الاغتراب بمعنى الانفصال: يبرز هذا المضمون في كتابات هيجل تبعًا لمفهومه للكَوْن بأنّه مكوَّن من أجزاء منفصلة ومتناقضة ومتفاعلة، وهي متكاملة في الوقت نفسه؛

– الاغتراب بمعنى الانتقال: ورد هذا المضمون في البحوث التاريخيّة الإنجليزيّة، حيث كان يُقصد به نَبْذ حقوق الملكيّة المتعلّقة بأحد الأفراد، أو مصادرتها، أو نقلها من ذلك الفرد إلى شخص آخر؛

– الاغتراب بمعنى الموضوعيّة: يُقصد به نظرة الفرد إلى الآخرين بوصفهم شيئًا مستقلًّا عن نفسه، بصرف النظر عن طبيعة العلاقات التي تربطه معهم. الشقيرات يعُدُّ هذه النظرة واحدًا من أهمّ مؤثّرات الاغتراب. وتشير البحوث المُجراة على هذا النمط من الاغتراب إلى أنّ هذه الوضعيّة غالبًا ما تكون مصحوبة بالشعور بالوحدة والعزلة، بدلًا من التوتّر والإحباط؛

– انعدام القدرة والسلطة: برز هذا المضمون في نظرة ماركس لمفهوم “الاغتراب”، وقد لوحظ أنّ معنى “العجز” (Powerlessness) وعدم القدرة أو الاستطاعة هو أكثر المعاني تكرارًا في البحوث المعنيّة بموضوع الاغتراب؛

– انعدام المغزى: يعني ضياع المغزى عند الفرد؛ إذ يتطلّع الفرد إلى تحقيق غاية ملموسة؛

– تلاشي المعايير: يُقصد بهذا التلاشي أنّ المجتمع الذي بلغ هذه المرحلة يفتقر إلى المعايير الاجتماعيّة المطلوبة لضبط سلوك الأفراد، أو أنّ معاييره التي كانت تتمتّع باحترام أعضائه لم تعُد تستأثر بذلك الاهتمام والاحترام، الأمر الذي يفقدها السيطرة على السلوك؛

– العزلة: أكثر ما يُستخدم هذا المصطلح ضمن مفهوم “الاغتراب” في وصف وتحليل دور المفكّر أو المثقّف الذي يغلب عليه الشعور بالتجرّد وعدم الاندماج النفسانيّ والفكريّ مع المقاييس الشعبيّة في المجتمع؛

– الاغتراب عن الذات: هذا يعني أنّ الفرد يشعر بانفصاله عن ذاته. ويوجّه هذا المعنى الأفراد في ظروف المدينة؛ لأنّهم يصبحون أدوات، بعضُهم لبعضِهم، وتتّسع الدائرة حتّى يصبح الفرد الحضريّ منفصلًا عن نفسه. هناك معنى آخر للاغتراب عن الذات، هو افتقاد الفرد عمله الذي يقوم به وما يصاحب ذلك العمل من الشعور بالرضا والزهوّ، ممّا يخلق لدى الفرد اغترابًا وانفصالًا عن ذاته.

 

المنفى والاغتراب في القصيدة

 

كان لظاهرة الاغتراب في الأدب العربيّ حضورها الواضح، فقد عانى الأدباء والشعراء، في أقطار الوطن العربيّ كافّةً، من عدّة أنواع من الاغتراب، بينها: السياسيّ، الفكريّ، الثقافيّ، الاجتماعيّ، النفسانيّ، المكانيّ، الاقتصاديّ وغير ذلك. وقد كان للتغييرات السياسيّة، الاجتماعيّة، الأخلاقيّة والفكريّة في الوطن العربيّ تأثير واضح في الأدباء، إذ عكست تجربتهم ألوانًا من الصراعات النفسانيّة والفكريّة، وعمّقت بُعدهم عن واقعهم وعمّا تجيش به صدورهم من مشاعر وأفكار تعكس مدى غربتهم ومعاناتهم.

 

1: الاغتراب المكاني:

يتعلّق الاغتراب المكانيّ بمغادرة الإنسان وطنه طوعًا أو كرهًا، ويكون، في الغالب، نتيجة أسباب سياسيّة أو اقتصاديّة أو ثقافيّة، فيعاني المغترب من لوعة الحنين إلى وطنه.

تبرز الغربة المكانية في قصيدة” أضاعوني “حين يشير الشاعر إلى المدن السفيهة التي يسكنها فيقول:

 

” يا هذه المدن السفيهة، إنني الولد السفيه

 

لو كنت أعرف أن نارك دون زيت

لو كنت أعرف أنّ مجدكِ من زجاج،

ما أتيت

أنت التي خلّيتني قمرًا طريدًا دون بيت”

وفي موقع آخر في القصيدة تتضح لنا غربة الشاعر وشعوره بالخوف:

” عرّجتُ صوبَ مدائن النوم الكسيحة أستغيث

الكلُّ أقسم أن ينام

قدمٌ على قدم ومثلك لا ينام”.

ويستمر الشاعر في وصف مشاعره وما يعتريها من اغتراب وألم فيقول:

” يا هذه المدن السفيهة يا مقابر يا فجاج

أسقيتني ملحا أجاج والزهو قد موّهته وولغتِ فيه”

 

كما يشير الشاعر الى غربة جده المكانية وضياعه في بلاد الروم الواسعة التي لم تمنحه الأمان فيقول:

” مضت سنتان… أرض الروم واسعةٌ

وجدّي دائمًا عاثرْ”

ترتبط الأم ارتباطا وثيقا بالمكان فهي ترمز إلى الأمن والأمان والوطن، فالشاعر في غربته يستذكر أمه فيقول:

” وأمّي، مهرةٌ شهباءُ تصهل قبل خيط الفجر

تفكُّ هنا ضفائرَها

وتلبس ثوبَها الأسود

وأمّي تقرأ الأشعارَ في الأسواق

وفي الغابات عند تجمّع الأنهر

وأمي أنجبت طفلّا، له وشمان، يشبهني…”

 

فالأم وفق باشلار، العشّ الأليف، بيت الطفولة، مركز الأحلام الأوّليّ، جدران الحماية والدخول الأوّل إلى العالم..

فلا غرو إذن أن يتذكرها الشاعر، ويعبّر من خلالها عن مدى غربته، وشوقه وحنينه لبيته ووطنه وأمه.

 

اعتمد الشاعر، إلى حدّ كبير، في هذه القصيدة، على تقنية الاسترجاع الذي يحيل إلى أحداث تخرج عن حاضر القصيدة لترتبط بالزمن الماضي، وخاصة استرجاع الأماكن، ويبرز البعد النفسانيّ للمكان داخل القصيدة، فالمكان ليس أبعادًا هندسيّة وحسب، إنّما هو المكان المصوّر من خلال خلجات النفس، وتجلّياتها، وما يحيط بها من أحداث ووقائع. إلى جانب الأبعاد الاجتماعيّة والتاريخيّة التي تكون وثيقة الصلة بالمكان، كما نجد في الأبيات الآتية:”

وسوقُ عكاظ فيها الشاعر الصعلوك

وفيها الشاعر المملوك

وفيها الشاعر-الشاعر

وأعمامي،

يلقون القصائدَ من عيون الشعر.

اللغة:

يستعين الكاتب بالتناص المأخوذ من التراث والتاريخ، ليؤكّد فكرة ما، كما فعل حين ذكر سوق عكاظ وأشار إلى قصة مقتل والد الشاعر امرؤ القيس بأيدي بني أسد:”

وأنا أريد بني أسد

قتلوا أبي واستأسدوا”

كما ورد التناص في اقتباس الشاعر للآية القرآنية:” إذهب وربك قاتلا”، وقد أراد بها الشاعر الإشارة إلى تخلّي قومه عنه، أو عن قضية شعبه الفلسطينيّ الذي وجد نفسه وحيدًا يصارع الاحتلال:” والآخرون تنكّروا: “اذهب وربك قاتلا”

وكأنهم ما مرّغوا

تلك الذقون

على فتات موائدي

“والله لا يذهب ملكي باطلا”

والله لا يذهب ملكي باطلا.

ظهر في الأبيات أعلاه، الانتقال من ضمير الغائب( والآخرون تنكّروا) إلى المخاطب(اذهب وربك قاتلا) ثمّ المتكلّم(والله لا يذهب ملكي باطلا). وعادةً لا يكون الانتقال من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلّم بشكل فجائيّ، بل يمرّ في مرحلة الخطاب. وغالبًا ما يكون الترتيب: غائب، مخاطب ومتكلّم. إنّ وظيفة تغيّر الضمائر لها علاقة بالاقتراب من باطن الشخصيّة، فضمير الغائب هو أبعد الضمائر عن الشخصيّة، وعند الخطاب يقف الراوي-القارئ في مواجهة الشخصيّة أو المخاطب، في حين أنّ تكنيك ضمير المتكلّم هو حديث الشخصيّة عن نفسها، من غير وساطة.

 

فالشاعر إذن يعبّر من خلال ضمير المتكلّم عما يجيش في نفسه المضطربة المستاءة من المقربين منها، فيشعر باغترابه وابتعاده عنهم.

كما نجد في لغة المناصرة كلمات تدلّ على المنفى والضياع مثل:” قال الشاعر المنفيّ حين بكى””

وكما في المثال التالي:

“قدمٌ على قدم ومثلك لا ينام

حجرٌ هو المنفى وصوّانٌ وشوكٌ من رخام”.

” أضاعوني، وأيّ فتىً أضاعوا”.

إجمال:

يبرز الاغتراب المكاني في قصيدة” أضاعوني”، وذلك من خلال تقنية استرجاع الأماكن، التي تُبرز البعد النفسانيّ والاجتماعي والتاريخي، وذلك باستخدام الشاعر عدّة تقنيات في اللغة والأسلوب منها، الاسترجاع، التّناص، تغيير الضمائر، وإبراز ضمير المتكلّم الذي يطلع القارئ على باطن الشخصية ومعاناتها. وقد يكون الشاعر قد تأثّر بتيار الوعي، الذي يعبّر عن غربة الإنسان في عصر يكتنفه الغموض السياسيّ، وتتخبّط فيه المعايير والمفاهيم والقيم، فيتمّ توظيف الألفاظ من أجل التعبير عن الذات وكشف مكنوناتها. ولإثبات هذه الفرضية فإنّ الأمر يحتاج إلى المزيد من الدراسة العميقة في قصائد الشاعر عزّ الدين المناصرة.
المراجع

باشلار، غاستون (1996)، جماليّات المكان، ترجمة: غالب هلسا، بيروت: المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والنشر، ط. 4.

بدوي، عبده (1984)، “الغربة المكانيّة في الشعر العربيّ”، مجلّة عالم الفكر، الكويت: د. ن.، مج. 15، ع.1.

الزعبي، أحمد (2000)، التناصّ نظريًّا وتطبيقيًّا، عمّان: مؤسّسة عمّون للنشر والتوزيع.

شاخت، ريتشارد (1980)، الاغتراب، ترجمة: كامل يوسف حسين، بيروت: المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر.

الشامي، عليّ (1986)، “أيديولوجيّة المغلوبين وموقف المسلمين من غلبة الروم”، مجلّة الفكر العربيّ، بيروت: د. ن.، ع. 42، حزيران.

شتا، السيّد عليّ (1993)، نظريّة الاغتراب من منظور علم الاجتماع، الإسكندريّة: مؤسّسة شباب الجامعة.

صالح، فخري (2010)، “المدينة فضاء لروايات غالب هلسا”، قبل نجيب محفوظ وبعده،

سلسلة كتابات نقديّة، القاهرة: الهيئة العامّة لقصور الثقافة، ص. 111-124

الشقيرات، الشقيرات، أحمد (1987)، الاغتراب في شعر بدر شاكر السيّاب، عمّان: دار عمّار.

العدناني، محمّد (1983)، معجم الأخطاء الشائعة، بيروت: مكتبة لبنان، ط. 2.

غنايم، محمود (1992)، تيّار الوعي في الرواية العربيّة الحديثة، بيروت: دار الجيل.