23 ديسمبر، 2024 1:04 ص

المنفى فضاء رحب لمقاومة العزلة والشيخوخة والفداحة

المنفى فضاء رحب لمقاومة العزلة والشيخوخة والفداحة

أستكشف الضوء في أكثر الأمكنة ظلاماً من خلال الأدب
العرب بحاجة إلى تلازم التنمية والديمقراطية
أنا مزيج من مدن وأنهار وصداقات
حاوره : هشام الطرشي
منذ أن اقترحنا عليه إجراء حوار مع موقع “الصحيفة”، غصنا في جرد المواضيع والتيمات ذات الراهنية والتي من المهم استحضارها في لقائنا به، وفي كل مرة نحدد فيها موضوعا نجد أنفسنا أمام تساؤلات فلسفية لمحاورِنا تفتح أمامنا أبوابا وتفريعات وزوايا معالجة تحتاج إلى الكثير من التدقيق والمراجعة والتصويب.
إن الضبط والتدقيق في المفاهيم وأبعادها لا يعادله إلا ذلك الانفتاح الفكري والفلسفي على القيم الإنسانية وقدرة محاورنا على لجمها وتطويعها خدمة للإنسانية باختلاف روافدها ومساراتها، فالدكتور عبد الحسين شعبان، موسوعي الثقافة ومتنوع الانشغالات ومنتج أفكار وصاحب مبادرات، نجفي المنشأ ويساري الفكر وكوني القيم، وواحد من أبرز الأسماء التي انتصرت لـ”المادية الجدلية”، ظل متمسكا بأهدابها مع انفتاحه على الفكر الانساني بمدارسه المختلفة، بل وعمل على إغنائها باجتهادات وقراءات متجددة للفكر الاشتراكي من زوايا انتقادية منسجمة في شموليتها مع روح العصر والتعددية الانسانية والتنوع الفكري والحضاري.
والمفكر شعبان واحد من الروّاد الكبار للعمل الحقوقي والإنساني في العالم العربي، وأستاذ محاضر في العديد من الجامعات العربية والدولية، حيث استقرّ لتدريس “فلسفة اللّاعنف” في جامعة اللّاعنف وحقوق الإنسان التي يشغل فيها منصب نائب الرئيس المعني بالشؤون الثقافية.
نستضيف في هذا الحوار الخـاص الدكتور شعبان لمحاورته في قضايا التغيير والتنوير، ثم ننتقل معه إلى عوالم بوح إنساني ووجدانيات حميمية، ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، ليكشف فيها روحه الحيّة وعالمه الخاص ومواقفه من الحب والحياة والعمل والدين والهويّة ويقدّم نقداً لكل ذلك.
د. عبد الحسين شعبان – باحث ومفكر عربي
دكتور شعبان، ننطلق معك في هذه الفسحة التواصلية مما تعرفه المنطقة العربية من متغيرات، كيف تقرأ هذا التغيير”فكريا”؟
شهدت المنطقة العربية خضّات كبيرة ضعضعت “الشرعيات” القائمة وأضعفتها إلى درجة كبيرة، بل وأطاحت بها في بعض التجارب، لكن رياح التغيير تلك التي هبّت على المنطقة، لم تستطع حتى الآن من إقامة أو بناء “شرعيات” جديدة، على الرغم من ما تركته من إرهاصات، وحسب المفكر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي “الماضي قد احتضر، أما الجديد فلم يولد بعد”.
ولكنني أستطيع القول بثقة إن الماضي مضى ولم يكن بالإمكان إعادته، فما أطلقنا عليه “الربيع العربي” بما له وما عليه من إيجابيات وسلبيات ترك بصماته موضوعياً على الواقع العربي، فمن الناحية الفكرية على أقل تقدير تمكّن من إسقاط بعض المقولات والأفكار التي سادت عقب انتهاء عهد الحرب الباردة بانهيار الكتلة الاشتراكية وقيام ما سمّي بالنظام الدولي الجديد، الذي روّج له فرانسيس فوكوياما والذي يقوم على ظفر الليبرالية على المستويات كافة، السياسية والاقتصادية والثقافية، كمنظومة قيم ونظام اجتماعي، والذي عبّر عنه في مقالة نشرها في العام 1989 تحت عنوان “نهاية التاريخ” والتي تحوّلت إلى كتاب في العام 1992 تحت عنوان “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”.
ما هي إذا الفرضيات التي تؤشر لها؟
ثمة فرضيات شكّلت عائقا أمام التغيير الديمقراطي المنشود حتى بدا وكأنه استعصاءً أو وعداً غير قابل للتحقق، فالفرضية الأولى، هي أن بديل الأنظمة الوطنية حتى لو كانت تسلّطية هو الفوضى، في حين أن الأنظمة على قسوتها واستبدادها حامية للأمن والاستقرار، ومن الطبيعي أن يخلف أي عملية تغيير أو انتفاضة أو ثورة نوع من عدم الاستقرار وحتى الفوضى التي قد تندفع إلى الواجهة، وليس بالضرورة تقود إلى “الفوضى الخلّاقة” طبقاً للرئيس جورج دبليو بوش، ففي تونس ومصر على سبيل المثال، وحتى وإن برزت حوادث عنف، لكنها كانت محدودة، وهي تصاحب أي عملية انتقالية وأية سلطات مؤقتة.
أما الفرضية الثانية، فهي أن العرب ليسوا بحاجة إلى الديمقراطية بقدر حاجتهم إلى التنمية، ومصدر مثل الأطروحات بعضها خارجي عنصري استعلائي وبعضه داخلي ومحلي، فالأول يستكثر على العرب حاجتهم إلى نظام سياسي عصري، والثاني يستصغر دورهم، صحيح أن العرب بحاجة إلى الغذاء والدواء والعمل والتعليم والسيادة، ولكن من قال إن الإنسان يحيا بالخبز وحده؟
والفرضية الثالثة، هي أن الإسلام دين يحض على العنف ويدعو إلى الإرهاب، وهو دين غير متسامح، ومصدر هذه الأطروحة كذلك خارجي وداخلي، الأول يستهدف فرض الهيمنة والاستتباع، والثاني يعتقد أن الصراع الداخلي هو بين الإسلاميين والعلمانيين، وهو صراع استئصالي إلغائي.
والطرفان يعتقدان أن الإسلام دين غير متسامح وتتعارض تعاليمه مع قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومثل هذه الأطروحة تريد إخراج نحو مليار إنسان وأكثر من نصف مليار من استحقاق الديمقراطية، وهو أمر غير معقول.واستمراراً لهذه الأطروحة فالذين يتعصّبون للإسلاميين يعتبرون العلمانيين خطراً عليهم، والعلمانيون يعتبرون الإسلاميين هم الخطر على الديمقراطية، وكل يبالغ بدور الآخر سلباً ويعلي من دوره إيجاباً، في حين أن اللعبة الديمقراطية تقتضي الاحتكام إلى صندوق الاقتراع في إطار منظومة كاملة من القوانين والمؤسسات والممارسات التي تراكم التطور الديمقراطي، علماً بأن الإسلاميين ليسوا جميعهم كتلة صماء واحدة، مثلما ليس جميع العلمانيين كتلة واحدة، ففيهم اليساري واليميني، الجمهوري والملكي، الظالم والمظلوم أحياناً، ولهذا لا يمكن وضع الجميع في سلّة واحدة.أما الفرضية الرابعة، فهي أن التغيير يحتاج إلى دعم خارجي، بل إنه لن ينجح بدونه وهو اتهام من جانب القوى المحافظة للقوى التغييرية بأنها تعتمد على الغرب الذي له مصالح خاصة، انطلاقاً من نظرية «المؤامرة»، في حين أن بعض القوى الداعية إلى التغيير لم تجد بأساً من التعامل مع قوى خارجية حتى على حساب المصالحة الوطنية العليا، طالما ستنقلها إلى منصّات السلطة، فهي غير قادرة لوحدها على إنجاز عملية التغيير، ولكن ما حصل من حراك شعبي كان داخلياً بالأساس حتى وإن حصل على تعاطف أو دعم خارجي بهدف توظيفه سياسياً.ولا يمكن مصادرة كفاح وتضحيات حركة الإصلاح الداخلية لعقود من الزمان بزعم الدعم الخارجي وإثارة الشبهات حولها. وبالطبع فإن القوى الخارجية ستحاول أن تدسّ أنفها طالما كانت الجبهات الداخلية ضعيفة أو مفكّكة.والفرضية الخامسة، هي أن التغيير سيؤدي إلى تصدّع الهويّة الجامعة والمانعة للشعوب العربية، لاسيّما بصعود هويّات اثنية ودينية وطائفية وعشائرية ومناطقية، وهذا يعني بذر بذور التشطير والتشظي في جسم الدولة الوطنية.
وإذا كان انتعاش الهوّيات الفرعية حقيقة قائمة فإن له أسباب موضوعية وأخرى ذاتية، فقد غذّت الأنظمة العربية بشكل عام الانقسام المجتمعي تارة لأسباب دينية وأخرى طائفية أو مذهبية أو إثنية أو جهوية أو غيرها بهدف إبقاء سلطة الحاكم طبقاً للرؤية الميكافيلية «الغاية تبرر الوسيلة»، ولعل من الطبيعي أن يعقب كل عملية تغيير انبعاث للهويّات بسبب تعصّب وتطرّف وعنف وإرهاب نال الهويّات الفرعية أو لمحاولتها التفلّت من هيمنة “الأغلبية” وسنوح الفرصة لذلك.
والفرضية السادسة، هي أن التغيير يحتاج إلى ثقافة، وهي التي ينبغي أن تتأسس لكي يحدث التغيير، وهي غائبة حتى الآن عربياً، ولكن هناك شعوباً وأمماً في العالم الثالث كما تسمى سارت في طريق التغيير الديمقراطي بالترافق مع تطوير التربية والتعليم، بما فيها على قيم الديمقراطية، فهل ننتظر أن يتم القضاء على الأمية وأن تعمّ الثقافة لكي نفكر حينها بالتغيير أم أن هذا الأخير كما أرى مساراً طويلاً مركباً تتفاعل فيه عوامل كثيرة تنموية بجميع المجالات.أما الفرضية السابعة، فهي أن التغيير يحتاج إلى حامل اجتماعي وهذا غير متوفر، أي عدم وجود قوى من الطبقة الوسطى قادرة على حمل رسالة التغيير، والشباب الذي فجّر الحراك الشعبي وقاده ليس مؤهلاً لإدارة الدولة لأنه لا يمتلك الخبرات الكافية، ولعل هذه نظرة تشكيكية استصغارية للشباب ودوره ولإرادة التغيير، ومحاولة لفرض نوع من الأبوية والوصاية على التغيير.
في حين أن الفرضية الثامنة، هي أن التغيير بحاجة إلى جهد مجتمعي شامل، في حين إن المجتمعات العربية ما تزال المرأة فيها بعيدة عن المشاركة، لكن المشاركة النسوية في تونس ومصر واليمن وليبيا دحضت إلى حدود كبيرة هذه الفرضية، فقد كانت لها تأثير كبير في التفاعل الحقيقي، بل وفي المشاركة اللّاحقة، ولا يمكن الحديث عن تغيير حقيقي في أي مجتمع دون الحديث عن مساواة حقيقية وفعلية وقانونية ومجتمعية بين الرجل والمرأة، وذلك أولاً- تمكين المرأة لكي تنخرط في العمل العام السياسي والاجتماعي والمدني، وثانياً- تتولى مهمات قياديّة، وثالثاً- لكي تشارك في إدارة الدولة وهيئاتها المختلفة.لقد جرت متغيّرات عديدة في هذا المجال، فحتى لدى دول الخليج اليوم تشارك المرأة مشاركة فعّالة وتتخطى العقبات التي كانت في طريقها وهو أمر مهم يمكن التراكم عليه لحصول التغيير الحقيقي في المجتمع، وتبقى “الثورات نقراً في السطح وليس حفراً في العمق” على حد تعبير المفكر السوري ياسين الحافظ، إن لم تنزل إلى قعر المجتمع وتحرّره وتغيّر العلاقات الإنتاجية السائدة فيه، فضلاً عن العادات والتقاليد البالية تلك التي ترسّخت على مرّ العصور، ولاسيّما في النظر إلى المرأة حيث يتم استصغار دورها والتشكيك بإمكاناتها والتقليل من قدراتها، بل إن البعض يبرّر ذلك باسم الدين باعتبار النساء “ناقصات عقل ودين”.
ولأن المناسبة شرط، لنتوقف قليلا عند المرأة..
لقد تحقق للمرأة بعض النجاحات وإن أجهض بعضها أو تعثّر، وخصوصاً حين واجهت عملية التغيير والتقدم قوىً تقليدية واسعة، وأستطيع القول أنه لا يمكن أن تحرّر المرأة بالكامل دون تحرّر المجتمع ككل، لكن هذا لا يعني ترك الحبل على الغارب وانتظار تحرّر المجتمع، بل لا بدّ من شن كفاح متعدّد من جانب المرأة والمناصرين لحقوقها مع أخذ خصوصيتها بنظر الاعتبار، ولا يمكن الحديث عن احترام حقوق الإنسان والممثلة بالشرعة الدولية دون الحديث عن مساواة المرأة بالرجل.
وتعتبر معركة المرأة في التحرّر أحد أهم وأكبر قضايا التغيير الحقيقية والتنوير الراهنة والمستقبلية، فقد كان قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لعام 1959 أحد أركان الصراع بين قوى التنوير والتغيير من جهة والقوى المحافظة من جهة أخرى في العراق، وكذلك الحال مع قانون الأسرة في اليمن لعام 1974، وفي السابق والحاضر كانت قضية المرأة في تونس مصدر نزاع مجتمعي بين التيارات الفكرية التقدمية والمحافظة، وهو أمرٌ يتعلّق بقضية المرأة في عموم البلدان العربية، وحين تحصل التراجعات والانقلابات الرجعية فإن أول شريحة تتعرّض لهضم الحقوق هي المرأة.
الحديث عن بنية وتركيبة المجتمع يدفعنا إلى الحديث عن التغيير، فهل أصبح حقيقة في ظل ما سمّي الثورة العلمية-التقنية من وجهة نظرك، وكيف تساهم هذه المحدّدات في رسم معالم التغيير المنشود؟
أكّد التغيير الذي حصل في تونس ومصر وبغض النظر عن بعض مآلات منعرجاته وتموجاته بسبب حدّة الصراع والتداخلات الخارجية في دول المنطقة عدداً من الحقائق المهمة، أولها، انكسار حاجز الخوف وحدوث التغيير في مزاج الناس، واستعدادها للدفاع عن قضايا الحريّة والكرامة والعدالة، بالنزول إلى الشارع وإرغام الحاكم على التخلي عن الحكم.
وثانيها، إمكانية التغيير باللّاعنف وعبر الوسائل السلمية، ولعلّ هذا الأسلوب الناجح هو الذي أجبر الحاكم في السودان على الانصياع بتدخل من الجيش لاحقاً، وهو الذي أرغم الرئيس في الجزائر على التخلّي عن ترشيح نفسه، وما يزال الحراك الشعبي مستمراً لتحقيق أهداف حركة التغيير، وهو الذي دفع لإجراء تغييرات دستورية وعملية إيجابية في المغرب والأردن وانعكست تأثيراته عل بعض الخطوات الانفتاحية والتي اتخذتها بعض دول الخليج أيضاً.
وثالثها، إن التغيير انطلق وحتى وإن تعثّر أو تأخر، لكن مساره مستمراً وهو مسار طويل الأمد، ويحتاج المستقبل إلى توجهات جديدة قد تأخذ أشكالاً جديدة غير مطروقة في السابق، أي أنه ما يزال في تفاعل ديناميكي.
ورابعها، إنه استحقاق داخلي، بالدرجة الأساسية وهو تتويج لكفاح طويل الأمد، حتى وإنْ حاول الخارج توظيفه أو التداخل معه، لكن ذلك لا يمنع النظر إليه باعتباره تراكماً طويل الأمد وتتويجا لتضحيات الإصلاحيين والتنويريين من التيارات الفكرية المختلفة اليسارية والعروبية وغيرها.
وخامسها، المشاركة الجماعية بما فيها من تعدّدية وتنوّع في إطار الوحدة الوطنية فلم تتأخر عنه قوة أساسية أو فئة مؤثرة، بل شارك فيه الجميع بفاعلية ووزن.
وسادسها، دور العلم والتكنولوجيا، ولاسيّما الطفرة الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي التي كانت جهازاً تعبوياً بامتياز، وهكذا كان يتم خلال لحظات التعبئة والتحريض والتنظيم، ولعلّ ذلك قد رسم معالم الطريق الجديد لإدارة الحكم وتوجهاته اللّاحقة، التي ينبغي أخذها بنظر الاعتبار، فلم تعد تنفع استمرار الأنظمة الشمولية والتسلطية واحتكار العمل السياسي والمهني، وانفتحت ثغرات في جدار السلطة في العديد من البلدان، وسيكون ذلك بروفة أولية لتغييرات قادمة خلال السنوات العشر القادمة، خصوصاً بتراكم التجربة وفي ظل ميل عالمي للتغيير.
هل من تبرير أو تفسير لحالة الانكفاء التي أصابت المفكر أو المثقف العربي عموما، ونزوحه إلى عدم التفاعل مع المتغيرات المجتمعية؟
انقسم المثقفون العرب في الموقف من عملية التغيير ومما سمّي بالربيع العربي وهو انقسام سابق، فبعضهم كان يحرق البخور للسلطان ويؤدلج له خطابه ويلمّع إجراءاته، في حين كان البعض الآخر يمارس وظيفته الأساسية وأعني بذلك النقد، ودفع مثقفون عديدون على امتداد الوطن العربي أثماناً باهظة، حتى أنك أصبحت تنظر إلى لندن وباريس كعاصمتين أساسيتين للمثقفين العرب المنفيين والمطاردين في بلدانهم، والذين يجدون فيهما وفي غيرهما فسحة التعبير عن الرأي وحرّية الإبداع دون رقابة أو تسلّط.وبتقديري إن وظيفة المثقف الأساسية هي النقد، ولا قيمة لتجربة دون نقدها، لكن بعض المثقفين كان أقرب إلى المثقفين الطقوسيين أو الإداريين الذين حاولوا إخفاء رؤوسهم في الرمال مثل النعامة، في حين تجد مثقفين لا يريدون الانخراط في العمل العام ويظهرون كمثقفين مدرسيين، وآخرين مسلكيين أو حتى ذرائعيين.
أما المثقفون العضويون حسب تعبير غرامشي، فهم من تماهوا مع الحركة التغييرية وعبّروا عنها، ليس بمواجهة السلطات فحسب، بل في مواجهة مع مثقفين معولمين أحياناً اغترابيين، دعوا لقطع صلة الواقع بالتراث، وبرروا التعاون مع القوى الخارجية بزعم مساعدتهم في التخلص من الحكم التسلطي، ومقابل هؤلاء هناك مثقفون تقليديون ظلّوا يشدّدون على استلهام التراث لدرجة الغرق فيه، بزعم الخشية من الاختراق الخارجي و “الاستعمار” الثقافي والفكري، وهناك مثقفون محنّطون وسياسيون مملّون ومملؤون بالفراغ.
متغيرات مجتمعية عديدة أبانت ضعف الفاعل السياسي على مسايرتها وإبداع الحلول لتعزيزها وتثمينها، وقد دعوت في أكثر من مناسبة إلى التأسيس لعقد اجتماعي وسياسي جديد، بحسبك، ما هي أهم مميزات هذا العقد وخصائصه؟
ثلاثة مخاوف أساسية تسلّلت إلى الواجهة السياسية أو وجدت طريقها إليها ترافقاً مع “ربيع الحرية والكرامة” المفترض الذي حلّ على العالم العربي بالرغم من المرارات والخيبات، فقد ارتفع قلق وهاجس بعض الجهات والجماعات من حضور القوى الدينية أو السلفية، إما لاعتبارات ايديولوجية أو دينية بصبغة طائفية، أو لأسباب سياسية أو اجتماعية، وهكذا.
لكن هذا القلق لم يكن الهاجس الوحيد لدى هذه القوى التي بقيت متخوّفة أو متردّدة أو حتى مرتابة من التغيير لهذا السبب، بل كان الخوف من الفوضى موازياً للخوف من القوى الإسلامية، لاسيّما بعد تجربة “الفوضى الخلاقة” التي ضربت أفغانستان ومن ثم العراق، بعد احتلالهما العام 2001 و2003، على التوالي.
يضاف إلى ذلك، الخوف الكبير والقلق العميق من محاولات الاستغلال الخارجي، لحركة التغيير، سواءً من خلال توجيهها أو التأثير عليها، بل إن أصحاب نظرية المؤامرة كانوا يقدّمون هذا الهاجس على الهواجس الأخرى التي تعتبر مكمّلة أساساً، لهذا البرزخ الذي يمكن أن يكبر، مستندين إلى الكثير من الأمثلة والأدلّة، ولعل أكثرها إثارة بالنسبة للعالم العربي ما حصل في العراق نتيجة الاحتلال.
أنت تتحدّث عن خريطة طريق عربية.. ما هي ملامحها؟
لعلّ موضوعاً من هذا القبيل يعيدنا إلى فكرة مهمة وريادية كان قد طرحها مركز دراسات الوحدة العربية في ما أطلق عليه المشروع النهضوي العربي بصيغته الأولى، التي بدأت فكرتها في العام 1988 وجاء في إطار “مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي” وكان ذلك ضمن توصية بالحاجة إلى مشروع نهضوي والتي يمكن صياغتها في إطار فكرة جديدة لعقد اجتماعي عربي وهو ما ندعو إليه، يبحث في المشتركات وفي الخصوصيات في الآن ذاته، أي وضع خريطة طريق، بتضاريسها وألوانها على بساط البحث، خاصة بالمشترك الجامع الذي ينبغي تعظيمه على حد تعبير الأمير الحسن بن طلال وتقليص الفوارق، لاسيّما بتأكيد احترام الخصوصيات التي ينبغي مراعاتها بالنسبة لكل مجتمع وفي إطاره أيضاً.ولعلّ فكرة عقد اجتماعي عربي جديد أو خريطة طريقة عربية جديدة يمكن أن تستند إلى مشروع نهضوي عربي جديد هو الآخر أصبح لا مناص منه للقوى الحيّة الحاملة لمشروع التغيير والنهوض، ناهيك عن التحدّيات المشتركة التي تواجه العرب، خصوصاً التنمية الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والأمن القومي ومواجهة التحدّيات التي تتعلق بالوجود، مثلما هي “صفقة القرن” أو “وعد بلفور الجديد”، وذلك بعد أكثر من قرن على اتفاقية سايكس بيكو – 1916 لتقسيم البلدان العربية من جانب القوى الاستعمارية.
ولعلّ الركن الأول في هذه الخريطة والمشروع هو استعادة الجانب الوجداني الجامع للعرب، سواءً أسميته بـ«الوحدة العربية» أو «الاتحاد العربي» أو «فيدراليات عربية» أو «ولايات» أو «أقاليم»، المهم تقديم منظور جديد لفكرة التلاقي والتواصل العربي بأشكاله المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية وغيرها، وهذا التلاقي لا بدّ أن يكون متوافقاً عليه ديمقراطياً وبأسلوب ترتضيه الأطراف المختلفة، متجاوزاً فكرة جامعة الدول العربية التي كانت مهمة ومفيدة، لكن الظروف العالمية تجاوزتها وهي بحاجة إلى أفكار جديدة وتفاهمات جديدة وصولاً إلى وضع أهداف جديدة لها.
أما مضمون الوحدة، فهي مطلب للمجتمعات وليس حكراً على طبقة واحدة، لكنه دون أدنى شك ينبغي أن يصب في مبادئ العدالة الاجتماعية باعتباره أحد أركان المشروع النهضوي العربي الجديد، ولعلّ نقيض التخلف والنمو القاصر في ظل العولمة هو التنمية المستدامة المستقلة باعتبارها ركناً من أركان المشروع النهضوي.وإذا كانت التنمية قد فشلت في تحقيق التقدم في مرحلة ما بعد الاستقلال، وظل الاقتصاد العربي بجميع أقطاره يعاني من التخلف والتبعية في بلدان اليُسر وفي بلدان العُسر، وازداد الاعتماد على النفط ومشتقاته، الأمر الذي عمّق الطبيعة الريعية للاقتصاد العربي، الذي يقوم على المضاربات العقارية والمالية، وتراجعت القطاعات المنتجة الزراعية والصناعية، وقد ازدادت المجتمعات العربية فقراً على الرغم من زيادة مردوداتها.والتنمية المستقلة حسب المشروع النهضوي العربي لا تقوم على فرضيته الأولى «الاكتفاء الذاتي»، و «الانقطاع عن العالم»، أو الفرضية الثانية أي «الاندماج في السوق العالمي»، بل تعني الاعتماد على القوى الذاتية للمجتمع في المقام الأول، وفي مقدمة ذلك القدرات البشرية والمدخّرات الطبيعية، والتعامل الصحيح مع العولمة.
دعنا نأخذ منك اعترافات للبوح بجمل قصيرة.. وهنا نبدأ بالرؤية، ماذا عن رؤيتك؟
أحاول أن أستكشف الضوء في أكثر الأمكنة ظلاماً من خلال الأدب.
أين أنت من التاريخ؟
أنا سليل رحّالة وجغرافيين ممن عرفتهم المنافي، وحفيد الشيخ حبيب شعبان أحد أبرز شعراء الغري الذي هجر الدراسة الحوزوية في النجف وغادر الحضرة العلوية واختار الشعر والمنفى، ليجد ملاذه في بومبي، حيث عاش ومات ودفن فيها.
كيف تنظر إلى المنفى؟
المنفى فضاء رحب لمقاومة العزلة والشيخوخة والفداحة، وأنا كائن حركي، لأنه في الأصل كانت الحركة وهي القاعدة، أما الثبات والاستقرار فهو مؤقت واستثنائي. وصرتُ أعرف نفسي أكثر في المنفى والدليل إليها هو وريقاتي التي تهبّ عليّ مثل ذكرى هي حاضر، والحاضر هو ذكرى أيضاً.
أي المدن أحب إلى قلبك؟
أنا مزيج من مدن وأنهار وصداقات لي في النجف السعيد وبغداد الروح ودمشق الحميمة وبراغ الذهبية ولندن التنوّع وبيروت الخلود، منازل وغرف ومقاهي ومكتبات وصديقات وأصدقاء، ولأنني تعدّدي فإن روحي منثورة بين هذه المدن وقلبي موزّع بين نسائها.
كيف تنظر للحياة؟
أحتفل بالحياة وأنا متولّهٌ بها محفوف بكل أنواع الموسيقى والألوان والقصائد.
هل أنت حائر؟
حيرتي وجودية، وهي حيرة مستمرة ومتحركة، وحسب ابن عربي، فالهدى في الحيرة، لأن هذه حركة والحركة حياة.
كيف ترد على خصومك؟
أجد نفسي مترفّعاً في الكثير من الحالات، فأتردّد من منازلة بعض من لا يستحق المنازلة، ولن أرتضي لنفسي الخوض في البذاءات والهبوط إلى مستوى التفاهات. لا أستطيع أن أرفس الحصان إذا واجهني.
أجدك دائماً مع المظلوم.. لماذا؟
لم أقف مع “المنتصر” في الغالب وقد أتحالف مع الخسارة، خصوصاً حين يكون الثمن الذائقة الجمالية والمعيار الأخلاقي والكرامة الشخصية، ولذلك لم أنخرط في جوقة السمسرة لبيع البستان، فأي شجرة رمان فيه أو غصن مشمش أو فسيلة نخل تساوي عندي كل ثروات الأرض.. ولا طاقة لي بمجاراة من يغالي في اغتيال القيم. ولن أقبل لنفسي أن أكون جزءًا من مرابي الثقافة ومتصيّدي الفرص.
أين ترى بهجتك؟
بهجتي روحية وسعادتي حلقات متّصلة والنقد والمصارحة مع الذات أول مصادرها، وبالطبع أنا عاشق ورائحة العشق تملأ حياتي.
متى تكشف ما عندك؟
أعرف الكثير من الأسرار المثيرة للفضول، لكنني حريص على عدم البوح بها واحترم خصوصيات الناس وقد ائتمنت على الكثير منها.
لهذه الأسباب أنت تعاني؟
معاناتي من معاناة الناس وأعرف كم هي همومهم وعذاباتهم، وأدرك معنى أن يكون شعباً بأكمله عرضة للاستلاب والقهر، والحروب والحصار، لتأتي الحقبة الاستعمارية الجديدة بكل رموزها وتداخلاتها الدولية والإقليمية فتكشف هشاشة ما تبقى وتظهر حقيقة المستور.
هل أنت متحالف مع القدر؟
قضيتُ حياتي أبحث عن عطر الورد وأنام في حديقة الأمل لأستنشق الحرية.
وأين أنت من الفلسفة؟
احتفيت دائماً بالفلسفة ووقفت عند مداخل التاريخ ومخارجه، وأتوق دائماً إلى الذكريات وكأنها المستقبل.
بماذا ساعدتك الثقافة؟
الثقافة ساعدتني في اجتراح المعقول وغير المعقول في زمن ضاعت فيها الحدود. والثقافة هي التي عوضتني عن كل الخسارات ومنحتني هذه القدرة العجيبة على «ارتكاب» الأحلام.
أنت وطني كبير، كيف تأسس ذلك؟
نزعتي الوطنية رضعتها مع الحليب وهي بوصلتي في كل شيء وسفينتي لن ترسو في الشواطئ الغريبة.
كيف اجترحت كل تلك الآلام؟
الصبر نعمة ربانية وهو حصيلة حكمة الزمن المحسوس والمعيش، والبساطة جزء من تكويني وفيها أجد الصفاء المشتبك بالمصير الإنساني.
متى تهدأ روحك؟
مرفأي لن يهدأ وأغاني الروح لن تستكين، وهناك علاقة تكافلية وحيوية بيني وبين الناس.
وماذا عن الحب بعد السبعين كما تقول؟
الحب والحرية متلازمتان ولا أستزرع الأفكار في غير بيئتها ولا أستنبت التجربة إلّا في أرضها الصالحة، والعشق قيثارتي الأبدية وأنا عاشق لم يفرغ قلبي يوماً، ومع محمود درويش أردّد: لا أتذكر قلبي إلّا إذا شقّه الحب نصفين أو جفّ من عطش الحب.
ما هي أحب الأشياء إلى نفسك؟
العدل والمساواة، فقد آمنت بهما كمتوالية مع روح الإخاء الإنسانية، وبقدر خصوصيتي فأنا جزء من عالم متنوّع، والخصوصية لا تفترض التحلّل من الروابط الإنسانية العامة.
إلى أين ستمضي؟ فقد خسرت الكثير في حياتك، فمتى تتوقف؟
سأواصل وحدي المشوار حتى لو توقفت القافلة عن المسير أو أضاعت الطريق ولن أشعر بالوحشة. حين أصل إلى غايتي أشعر بالفراغ، ولذلك أبحث عن الريح لتبقى الحركة، كثيرون ما زالوا يعيشون في الماضي، لأنهم لا يريدون مواجهة الحاضر، أما أنا فحتى في الماضي كنت أتطلّع إلى المستقبل. لم أعتد أن أبلع لساني وكانت لي آرائي واجتهاداتي باستمرار، أخطأت أم أصابت، فأنا مفطور على النقد. وقد أبدو شيوعياً من قماشة أخرى، وربما أقرب إلى الغرابة، لكن النور الداخلي سبيلي إلى هذا القضاء المحيّر.
ماذا لو غابت العقلانية؟
العقلانية قيمة عليا وغيابها يعني حلول الجانب المظلم من الحياة، والاكتشافات العلمية منحت الفرص أكثر للبشر ليكونوا خيرين أو شريرين. ومقابل العقلانية يوجد نقيضها اللّاعقلانية (الشيء وضدّه) الأحاسيس والعواطف والأحلام والرغبات والصبوات يتم التعبير عنها من خلال الدين والجنس وسرديات التاريخ والأحلام، والضِدّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِدُّ.والطريق إلى العقلانية ليس واحداً وحسب ابن عربي «الطريق إلى الحقيقة تتعدّد بتعدّد السالكين»، وقد يصل الإنسان إليها بهزيمته أو كبوته، فيحاول معرفة أسبابها ويتعامل معها بروح نقدية ودون مكابرة، وينبغي التوقف عند الهزائم والانكسارات لأنها لا تمرّ سريعاً أما الانتصارات فغالباً ما تكون مؤقتة، وقد تقود العقلانية إلى نقيضها بثورة عنيفة لا عقلانية.
ماذا عن الثورات؟
«الثورات» لا عقلانية حتى وإن كان هدفها الوصول إلى العقلانية. والسعي وراء العقلانية قد يفجّر موجة من اللّاعقلانية. اللّاعقلانية هي القاعدة في الدين والجنس والحرب والموسيقى والفن والسياسة، لكنها تولد نقيضها. وتنمو العقلانية في رحم اللّاعقلانية.
من هم أعظم ثلاثة شعراء عرب معاصرين تربعوا على عرش الشعر؟
محمود درويش وأدونيس وسعدي يوسف.
وماذا عن الجواهري؟
الجواهري مثّل الحلقة الذهبية الأخيرة في الشعر الكلاسيكي.
أجدك كثير التأني وكثير التدقيق.. لماذا؟
الشجرة المُثمرة هي التي تطالها الحجارة، وهناك فرق بين وقفات التأمل النقدي والأحكام المتسرّعة.
كيف تمكنت من صياغة خطاب بلا ضغائن ولا اتهامات أو تخوين وأنت ابن الايديولوجيا؟
علينا الاعتراف بقانون النسبية، ونحن نخطئ ونصيب، لقد فعلت كل ما فعله أقراني من الماركسيين، لكنني لم أغلق أبوابي مطلقاً، وحاولت منذ وقت مبكّر أن أضع مسافة بيني وبينهم، وقد فضلت الوقوف في الفسحة النقدية، ولم أقصّر حتى في نقد نفسي، وقلت أكثر من مرة أنني أعتز حتى بأخطائي لأنها حميمية وهي جزء مني، فقد اجتهدت وأخطأت فـ «المجتهد إذا أصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر واحد» حسبما ورد في الحديث النبوي الشريف، ومن لا يعمل لا يخطأ.
نشر في صحيفة “الصحيفة” المغربية بتاريخ 10/10/2019