18 ديسمبر، 2024 3:48 م

المنظور الثقافي الاجتماعي للمرض والصحة

المنظور الثقافي الاجتماعي للمرض والصحة

ما هو المرض؟ قد لا نجد صعوبة في وصف إصابة شخص ما بالحادث الوعائي الدماغي او(السكتة الدماغية) ، أو شخص يعاني من ضيق شديد في التنفس بسبب الربو ، على أنهم مصابون بمرض أي وصفهم كمرضى. لكن هناك حالات أخرى قد نجد صعوبة في وصفها بالمرض او وصف الاشخاص المصابين بها بالمرضى. مثلا ارتفاع ضغط الدم هل يمكن وصف المصاب به بأنه مريض ، بالنظر إلى أن معظم الأشخاص الذين يعانون من ارتفاع ضغط الدم غير مدركين تماما لحقيقة اصابتهم و ليس لديهم أعراض. هل أن بقعة جلدية نبيذية اللون ولادية (منذ الولادة) ولكن مستقرة نعتبرها مرض؟ هل يعاني شخص ذو آذان بارزة جدا او انف كبير جدا من مرض؟ هل يمكن وصف الشخص الذي يعاني من معتقدات خاطئة أو أوهام ويتخيل نفسه على أنه نابليون بونابرت على أنه مريض؟
إن الانزعاج أو “عدم الارتياح” الذي يشعر به بعض هؤلاء الأفراد – لا سيما أولئك الذين يعانون من إصابات جلدية – يرجع إلى رد الفعل المحتمل للآخرين في المحيط حول المصاب ولا يرجع إلى السمات الجوهرية للمشكلة. وبالتالي قد تعتمد الأمراض في بعض الحالات على البيئة الاجتماعية والثقافية. في حالات أخرى ، ليس الأمر كذلك – سيظل المصاب يعاني حتى لو كان وحيدا في جزيرة معزولة.
المنظور الاجتماعي الثقافي
للمرض والصحة علاقة كبيرة بالمنظور الثقافي والاجتماعي اي المحيط الذي يعيش فيه المصاب ونظرته للمرض من واقع تطوره او تخلفه او تأثيره على المريض. تفاوتت التصورات حول المرض كثيرا على مدى السنوات ال 400 الماضية. فهناك بعض الأعراض والعلامات التي اعتبرت “غير طبيعية” في مرحلة ما من التاريخ و “طبيعية” في مرحلة أخرى. بالإضافة إلى ذلك ، تم النظر إلى بعض الأعراض في وقت واحد على أنها “غير طبيعية” في مجموعة اجتماعية واحدة و “طبيعية” في مجموعة أخرى. الأمثلة كثيرة على الأمراض التاريخية التي نعتبرها الآن طبيعية. اعتقد المفكر اليوناني القديم أرسطو أن النساء بشكل عام غير طبيعيات وأن جنس الأنثى كان في حد ذاته حالة مرضية. في أواخر القرن الثامن عشر اعتقد طبيب أمريكي بارز (بنيامين راش) أن سواد الجلد (أو كما أسماه “الزنوجة”) كان مرضا أقرب إلى الجذام. كما أعتقد الأطباء الفيكتوريون أن النساء ذوات الشهوات الجنسية الصحية يعانين من مرض النمفومانيا (nymphomania) وينصحونهن بالعلاج الجراحي.
هناك أمثلة أخرى للحالات التي نعتبرها الآن أمراضا ، والتي تم النظر إليها على أنها غير مرضية سابقا. العديد من الكتاب والفنانين في القرن التاسع عشر أعتقدوا أن السل يعزز جمال الإناث وأن الهزال الذي يسببه المرض كان ينظر إليه على أنه تعبير عن الروحانية الملائكية. في القرنين السادس عشر والسابع عشر ، كان ينظر إلى النقرس (التهاب المفاصل بسبب ترسب حمض اليوريك) على نطاق واسع على أنه أحد الممتلكات الشخصية العظيمة ، لأنه كان يعتقد أنه يحمي من أمراض أخرى أسوأ. ومن المفارقات أن البحوث الأخيرة قد استنتجت دورا وقائيا محتملا لحمض اليوريك المرتفع والذي يسبب النقرس ، في بعض امراض القلب ومرض باركنسون.
في زمن شكسبير كان ينظر إلى الكآبة (ما يمكن أن نسميه الآن الاكتئاب) على أنها حالة عصرية للطبقات العليا، ولكن على النقيض من ذلك كانت تعتبر وصمة وغير جذابة بين الفقراء. يشير عالم الاجتماع الفرنسي الحديث (فوكو) إلى أنه منذ القرن الحادي عشر فصاعدا، كان أولئك الذين أظهروا علامات على ما يمكن أن نسميه الآن مرضا عقليا معزولين بشكل متزايد في مراكز الامراض العقلية ، مع تراجع التسامح مع (اللاعقل). في حين كان ينظر إلى الأشخاص “المجانين” سابقا على أنهم يتمتعون بسلطات رائعة ومرغوب فيها (وتم إضفاء الشرعية عليهم على أنهم حمقى ومهرجون مقدسون) ، كان ينظر إليهم بشكل متزايد على أنهم مدمرون ويحتاجون إلى علاج. وتوجد أمثلة أخرى على إعادة تعريف السلوك غير المقبول اجتماعيا على أنه مرض. في النصف الثاني من القرن الماضي ، كان ينظر إلى الأمهات غيرالمتزوجات (العازبات )على أنهن مريضات وكثيرا ما كن يبقين محبوسات لسنوات عديدة في مؤسسات الطب النفسي.
بعض الأمراض قد تم أعتبارها جزءا من الطيف الطبيعي للسلوكيات البشرية ، كما تم تصنيف أمراض جديدة. تشمل الأمراض المعترف بها حديثا إدمان الكحول (الذي كان يعتقد سابقا أنه مجرد شرب الكحول) ، والانتحار (كان يعتقد سابقا أنه جريمة جنائية ، وكان غير قانوني في المملكة المتحدة حتى ستينيات القرن الماضي بحيث يتم مقاضاة حالات الانتحار الفاشلة و يالنسبة لحالات الانتحار الناجحة فيتم مصادرة جميع ممتلكاتهم للدولة) ، والامراض النفس-جسدية (كان يتم اعتباره سابقا على أنه مجرد تمارض او سوء خلق).
نشأت بعض فئات الأمراض الجديدة ببساطة لأن الاختبارات والفحوصات الجديدة اصبحت تسمح لنا بالتعرف على الاختلافات المهمة بين ما كان يعتقد سابقا أنه مرض واحد. على سبيل المثال ، توفي الكثير من الناس في الأوقات الماضية بسبب ما كان يعتقد أنه مرض واحد وهو الاستسقاء (الوذمة المحيطية) والذي نعرف الآن أنه سمة من سمات مجموعة واسعة من الأمراض التي تتراوح بين أمراض القلب الأولية وأمراض الرئة وأمراض الكلى والأمراض الوريدية في الساقين. لا تزال هناك خلافات في الطب الحديث حول تصنيف الحالات المرضية. على سبيل المثال، لا يزال الجدل قائما حول الفيزيولوجيا المرضية الكامنة وراء متلازمة التعب المزمن (التهاب الدماغ والنخاع العضلي) ومتلازمة حرب الخليج.
ويشكل السياق الاجتماعي الثقافي للصحة والمرض ولمحددات سلوك طلب الرعاية الصحية فضلا عن الآثار الضارة المحتملة لتحديد الحالات الصحية والوصمة الناتجة عن ذلك، مواضيع رئيسية تهم علماء الاجتماع الطبي وعلماء النفس.
د.احمد المغير /طبيب اختصاص وباحث
مترجمة بتصرف عن
L.N. Epidemiology, evidence-based medicine, and public health