18 ديسمبر، 2024 8:18 م

المنطقة العربية: الاعتماد على الشعب في الدفاع عن السيادة

المنطقة العربية: الاعتماد على الشعب في الدفاع عن السيادة

في الحرب الباردة، استخدمت الولايات المتحدة وروسيا الشيوعية، بدرجة أقل، النظام الرسمي العربي بشقيه التقدمي و(الرجعي) حسب تسميات، أو توصيفات تلك المرحلة، من أجل مصالحهما على حساب مصالح شعوب الأمة العربية. الولايات المتحدة بدعوى حماية تلك الدول؛ كانت تزرع الفتن والاضطرابات في المنطقة، ولم تأخذ بالاعتبار أمن تلك الدول، التي كان البعض منها الأداة في تنفيذ المخططات الأمريكية، على أمل أن هذا يخدم أمنها على صعيد المستقبل.
كانت أمريكا تدرك تماما المحطات النهائية لتلك الخطط؛ وهو ما نراه حاصلا في الوقت الحاضر، من تشظٍ عربي ودول عربية فاشلة، وأخرى تخوض حروبا بتخطيط وبرمجة أمريكية، حتى يتم لأمريكا والكيان الإسرائيلي احتلال ما تبقى من أرض فلسطين.
لقد شهدت الحرب الباردة انقسام العالم إلى قطبين يتنازعان النفوذ والسيطرة، هذا الاستقطاب انعكس على العلاقات العربية العربية سلبا؛ فقد انقسم الوضع العربي هو الآخر إلى قطبين، حسب توصيفات تلك الفترة؛ (تقدمي ورجعي)، ما أضر كثيرا بوحدة الموقف العربي في مواجهة العالم، وعلى القضية الفلسطينية تبعا لهذا التمحور الاستقطابي. كما أن تلك الأنظمة العربية التي تدعي التقدمية والتحرر؛ كانت في جلها أنظمة ديكتاتورية استفادت من الاستقطاب العالمي في التغطية على استبدادها وطغيانها وظلمها للشعوب العربية في الوطن العربي، إلا من بعض الاستثناءات القليلة. من الجهة الثانية؛ فإن هذه الأنظمة لم تنسجم سياسيا واقتصاديا وثقافيا مع بعضها بعضا، بل إن الصراع بينها كان هو السائد، ما أبعد كثيرا وحدة الموقف العربي من الناحية الواقعية والموضوعية في مواجهة العالم، وفي الدفاع عن قضايا العرب المصيرية، الذي قاد إلى أن تتراجع هذه القضايا في سلم الأولويات لتتقدم المصالح الذاتية على المصلحة القومية، على الرغم من الخطابات التي كانت في وقتها ترفع عاليا شعارات وحدة العرب ومصالح الشعوب العربية، وفي المقدمة منها؛ القضية الفلسطينية. هذه السياسة العربية للأنظمة التقدمية، كانت واحدة من أقوى الأسباب في إضاعة الفرص؛ باستثمار صراع الندين العالميين على السيادة في العالم وعلى المصالح؛ لصالح العرب.. هذا لا يقتصر على الأنظمة العربية التقدمية، كما كانت تسمي نفسها في حينها، بل على الأنظمة الأخرى في الجهة المقابلة، كما أن الجوار الإسلامي، خاصة إيران الشاه الذي كان يسمى أو يوصف بأنه شرطي الخليج، لحماية المصالح الغربية وعلى الرأس منها، بل في مقدمتها المصالح الحيوية الأمريكية في الخليج العربي. في خضم هذا الصراع غير المتكافئ؛ كانت دول الخليج العربي تبحث عن الحماية. في الثمانينيات من القرن العشرين اندلعت الحرب العراقية الايرانية، التي استمرت ثماني سنوات، ونزفت فيها الدماء كما الثروات والإمكانيات الاقتصادية لكل من إيران والعراق. استمرت هذه الحرب كل تلك السنوات بتحريض ودعم على إطالتها واستمرارها من قبل القوى الدولية والإقليمية، وبالذات أمريكا والكيان الإسرائيلي؛ لتحطيم قدرة العراق الاقتصادية، على الرغم من خروجه من هذه الحرب بجيش قوي في العدة الحربية والتجهيز العسكري لجميع صنوفه. هذه الحرب ما كان لها أن تكون لولا الإعداد الأمريكي لها، ليس كما يروج له إعلاميا على أنها حدثت بالاتفاق بين العراق في وقتها وأمريكا، هذا الاتفاق لم يكن له وجود على الإطلاق، بل إن أمريكا خلقت البيئة السياسية في جوار العراق وفي المنطقة العربية؛ اللتين مهدتا الطريق لهذه الحرب أن تحدث، وهي من عملت بكل الوسائل على إطالتها.. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها بدا العالم مقبلا على تغييرات كونية هائلة؛ وقد حدثت هذه التغييرات بسقوط جدار برلين، وسقوط الأنظمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية. وسط هذه الأجواء والتغييرات والتحولات الكونية التي غيرت لاحقا مصائر الدول والشعوب، عندما أصبحت أمريكا القائدة الوحيدة للكرة الأرضية، فقد اختلت موازين القوى الدولية لصالح الغول الأمريكي بلا منازع لها. حتى الاتحاد السوفييتي الذي لم يتفكك بعد، إنما كانت جميع الدلائل والمؤشرات وقتها تشير إلى أن هذا الكيان العملاق هو في الطريق إلى التفتت، وهذا هو ما حدث لاحقا. في ظل هذه الظروف المضطربة والقلقة ارتكب العراق الخطيئة الكبرى بغزو واحتلال الكويت، هذا الغزو الذي غير بعد حين؛ مصائر الدول العربية وشعوبها، الأسئلة المهمة هنا والخطيرة في وقت واحد؛ هل أن أمريكا والكيان الإسرائيلي بعيدان عن هذه التغييرات والتحولات؟ من وجهة نظري، أن أمريكا مسؤولة بدرجة كبيرة وأساسية عن كل هذا الذي جرى، للتالي: أولا أن أمريكا عملت بكل جهدها الاستخباراتي على تهيئة الظروف السياسية لاندلاع الحرب بين إيران والعراق، وعملت تاليا على إطالتها. ثانيا أمريكا هي التي عملت بعد انتهاء الحرب على تهيئة ظروف اقتصادية أخرى؛ كان من نتيجتها أن يرتكب العراق؛ خطيئته الكبرى، عندما لم يقرأ التحول الدولي وموازين القوى الدولية وتبدلاتها وتغير تحالفاتها، قراءة صحيحة، ولم ينجح أيضا؛ في قراءة الأوضاع الإقليمية والعربية وارتباطها بالفاعل الدولي.. بطريقة صحيحة تقود، أو تفضي إلى اتخاذ القرار السليم والصحيح، فكان ما كان من دمار للعراق بحرب الخليج الثانية، وبالحصار القاسي الذي لم تشهد البشرية له مثيلا. ثالثا لم يكن بعيدا؛ إسقاط الأنظمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية، عن اللعبة المخابراتية الأمريكية في استغلال واستثمار؛ مخارج إعادة الهيكلة التي تبناها غورباتشوف.. في غفلة من القيادة السوفييتية على افتراض حسن النية لتلك القيادة في علاقتها مع أمريكا، على الرغم من أن أمريكا كانت في حينها قد بنت علاقات حسنة مع الاتحاد السوفييتي قبل تفككه. هذا لا يعني تبرئة الأنظمة الاشتراكية والقيادة السوفييتية، من مسؤوليتهم في الذي حدث لهم، بل العكس هو الصحيح تماما. بعد أن صارت أمريكا، أو أنها أصبحت هي القائد الوحيد للعالم؛ غزت واحتلت العراق واحتلت أفغانستان، إضافة إلى أعمالها العدوانية الأخرى في الكثير من دول العالم. وبسبب انشغالها بحروبها وتكاليف تلك الغزوات والحروب، وبالذات المقاومة الوطنية العراقية، التي جعلت الجسد الأمريكي ينزف دما في البشر وفي الاقتصاد وفي السمعة، وأجبرته على الخروج مدحورا، إضافة إلى أن أمريكا باحتلالها للعراق؛ فقدت الكثير من قدراتها وإمكاناتها؛ لتصحو تاليا على صعود روسيا والصين في مواجهة تغولها. لينتهي وإلى الأبد تغولها وانفرادها بالسيطرة على مقدرات الدول والشعوب في جميع أركان المعمورة. عليه فإن العلاقة مع أمريكا ليس فيها صمام أمان، بل إنها عندما تتغير الظروف تنقلب وبكل بساطة على الشريك الاستراتيجي، أو تتخلى عنه في أحسن الأحوال، إذا لم تنقلب عليه؛ بتحريك مسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان، كما هي عادتها أو ديدنها عندما تدير ظهرها للأنظمة التي كانت قبل حين موالية لها، أو حين ترى أن العلاقة مع هذا الشريك، علاقة خاسرة، وتجد الربح في الطرف الآخر المضاد لشريكها، عندما يكون هذا الآخر قد تغير سياسيا وصار بحكم الأمر الواقع في صفها؛ كنظام حكم وسياسة واقتصاد؛ وكقوة إقليمية وكلائية كبرى، تحافظ أمريكا على نفوذها في المنطقة، عبر أذرع هذه القوة، عندما تؤسس أو تعاد صياغة أنظمتها على أسس ديمقراطية ولو صورية، كما هو حاصل في الكثير من الدول، التي تدعي أمريكا وتتفاخر أنها نشرت الديمقراطية فيها، بينما الحقيقة؛ أنها نشرت الدمار والخراب والانفلات. في مواجهة هذه التطورات والتغييرات المستقبلية؛ من المفترض أن يخط العرب لهم؛ طريقا مستقلا في التالي: أولا بناء أنظمة ديمقراطية حقيقية، وليست صورية كما هي ديمقراطية أمريكا التي نشرتها في المنطقة العربية وبقية أصقاع الكرة الأرضية، ولو بالتدريج وعلى مراحل. ثانيا الاعتماد على الشعوب العربية في الدفاع عن السيادة والآمال، ببناء جيش قوي، له القدرة والإمكانية بتولي هذه المهمة ذاتيا. ثالثا تجسير العلاقة بين النظام والشعب بصورة حقيقية، وحيوية ونشيطة ومنتجة لمفاعيل التحول والتجذر والترسيخ. رابعا الوقوف لجهة الواقع الفعلي على مسافة واحدة من جميع القوى الدولية العظمى والكبرى. خامسا إشراك النخب العربية في صناعة القرار، سواء السياسي أو الاقتصادي بتقديم النصح وخرائط الطرق، من خلال إقامة مراكز أبحاث ودراسات، سواء بتمويل حكومي، أو تشجيع ودعم حكومي لتلك النخب على إقامة هذه المراكز.
الأسئلة الأخيرة؛ هي هل أن الأنظمة العربية؛ قادرة على استثمار التحولات الدولية والإقليمية لصالح شعوبها؟ وهل هي قادرة على ضبط إيقاع العلاقة مع أمريكا، بما يجعل سياسة تلك الأنظمة؛ تقف على مسافة واحدة مع القوى الدولية الأخرى؟ وهل هي قادرة على إعادة صياغة مؤسساتها على أسس ديمقراطية، بلا ضغط أو توجيه أو مشورة خارجية؟ أترك الإجابة للزمن المقبل الذي هو من يتكفل بها.