18 ديسمبر، 2024 6:55 م

ذات يوم في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين كنت جالسا على مائدة الغداء لوحدي في الكافتيريا , فاقترب مني شخص لا أعرفه وإستأذن بالجلوس معي على المائدة , وقدم نفسه على أنه من بنما ومن المهتمين بالحضارة العربية , وعرف بأني عربي وود مشاركتي الحديث , فرحبت به وبعد مقدمة بسيطة , وجدته يزفر بحسرة وألم وهو يتحدث عن الحالة العربية وما يراه سيحصل , فقال والدموع تترقرق في عينيه: المنطقة تتعرض لهجمة محق حضاري , وسيتم إعداد الممحاة الكفيلة بإنجاز ذلك!!

قلت: وماذا تقصد؟!

قال: الموضوع ليس كما يروج له على أنه كذا وكذا , إن اللعبة أكبر مما ترى!!

قلت:وماذا سيحصل؟

قال: ستباد آثاركم وشواهدكم الحضارية , ولن تجدها بعد سنوات إلا في الصور!!

قلت: ومن أين لك هذا التصور؟

قال: أنا أقرأ بمنظار آخر , وأرى آليات التفاعلات القادمة , إنها بإختصار هجمة لإلغاء التأريخ وإزالة كل ما يشير إلى أنكم موطن حضارة , وأضاف: حتى مصر وأهراماتها لن تنجو منها , وجميع ما يتصل بمعتقدات وأديان المنطقة بأسرها سيُباد عن بكرة أبيه.

قلت: أرعبتني بكلامك!!

قال: هذه هي الحقيقة المرة التي ستواجهها المنطقة في العقود القادمة!!

قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله!!

لم يفهم ما قلته , لكنه قال: وددت مشاركتك بما أرى علك توصله إلى قومك فعساهم يحذرون ويتيقظون!!

قلت: إذا كان قولك صحيحا فأن قومي هم أول المنفذين!!

قال: وكيف يكون ذلك؟

قلت: لا يمكن لأية قوة تدّعي المعاصرة أن تمحق الإرث الثقافي والحضاري للآخرين , ولكي تحقق ذلك عليها أن ترعى همجا رعاعا من أبناء تلك المجتمعات يقومون بالتنفيذ الفتاك الذي أشرت إليه.

قال: هذا لا يمكنه أن يكون , لأن الشعوب تغار على آثارها وشواهدها الحضارية.

قلت: إن قومي لا يحترمون كل ما يمت بصلة إليهم , بل يحتقرونه ولديهم الأهلية للفتك بذاتهم وموضوعهم!!

قال: أدهشتني!!

قلت: هذه هي الحقيقة المريرة!!

قال:جعلتني أرى المنطقة بلا أثر!!

قلت: أخشى ذلك وأراه سيكون ما دامت أدوات الدمار جاهزة وفتاكة!!

فوجدته دامع العينين وقد بكى بحرقة على آثارٍ يرى أنها ستزول , ومجتمعات يعتقد أنها ستغادر مواطنها وتتيه في غياهب الدنيا التي ستذيبها وتمتص خلاصة ما فيها.

لم يتمكن من إتمام غدائه , وما تمكنت , فافترقنا والحزن يفترسنا , وقد تأملت خطواته الثقيلة , وظهره المنحني , واحترت في أمره وأمرنا.

ومرت الأيام والسنون , وكأنني أرى ما قاله لي يتحقق في الواقع العربي , وكأنني أترقب المزيد من الهجمات الإمحاقية لما يمت بصلة لأية حضارة على أرض العرب.

إنه الإلغاء المبرمج للتأريخ والهوية والسمات العربية والحضارية بأكملها , حتى سيظهر جيل بعد بضعة قرون يدين بحضارة وإرادة أمة أخرى تسعى للهيمنة على الوجود بأكمله في الأرض التي سيقال عنها كانت مأهولة بأقوام يسمون عربا!!

وإنها الممحاة الحضارية , وسميها بما شئت!!

وكل أمةٍ بمسعاها رهينة!!