23 ديسمبر، 2024 9:53 ص

الملك وغزلان وزمزم

الملك وغزلان وزمزم

الشريط الحدودي بين العراق وأيران والممتد من قضاء بدره وحتى قضاء كلار هذه كلها عباره عن تلال عالية  جرداء هي من بعض تضاريس سلسلة حمرين ويفصلها عن المرتفعات الايرانية المقابلة في عيلام وكيلان غرب سلسلة من الاودية والعميقة والتلول وشكلت هذه الوديان ارضا حراما اثناء الحرب العراقية ــ الإيرانية.

بعض خدمتي في الجيش كنت هنا مخابر مدفعية وكل مهامي هي الجلوس في المرصد المتقدم وفحص الجهة المقابلة حيث الوديان العميقة والاشباح البعيدة لجنود المخافر العراقية ايام كان العراق يعيش اجواء الحرب الباردة في زمن الشاه الذي يدعم فصائل بيشمركه الملا مصطفى البرزاني.

في تلك التضاريس حفظتُ مسميات الامكنة والمثابات والدعامات الحدودية واسماء المخافر ، ويبدو أن اغلب المسميات كانت ترتبط بموضوعة او حدث فمثلا هناك وادٍ طويل شمال خانقين يسمى وادي النجف وعندما تسأل عن السبب تجد ان الايرانيين ومنذ مئات السنين يُهربون من هذا الوادي نعوش الموتى لتدفن في النجف تقريبا لضريح الامام علي ع .

وهناك فتحة اسمها موسى الكاظم يُقال أن اميرة قاجارية استراحت في هذا المكان في طريقها لزيارة المراقد المقدسة فأتاها طيف الامام موسى بن جعفر ع ليحقق امنيتها ، وهناك تل في ضواحي خانقين يسمى تل الملك يُقال أن ملكا من الازمنة القديمة دفن  كنوزه فيه .

أنتهت خدمة الاحتياط وعدت الى وظيفتي معلما في الاهوار ونسيت تلك الامكنة ، ولم يعد صداها اليَّ بعد سنوات إلا عندما تطوع ( أفريح شنيار ) احد تلاميذ الصف الخامس ليكون نائب عريف مخابر ونقلوه في لواء حدودي يعسكر بين قزانية وبدره امام جبل ميمك الايراني وتلك المنطقة اطلق عليها اسم سيف سعد بعد اندلاع الحرب الايرانية ــ العراقي ، وحتى انشط ذاكرة تلك الايام واستعيد محنة العطش فيها وقلة الارزاق كونها مناطق جرداء وليس فيها قرى ومدن وبشر ، فكان يتحدث لي ويبدو ان محاضراتي الجغرافية جعلته ينتبه للاماكن وكأنه آخذ بقول كنت اردده : الامكنة نحفظها بمزاج ارواحنا وليس بثقافتنا.

مرة كان القصب يستمتع بقبلات الريح على حوافه عندما كنت استمع لحكايات جندي الحدود ( أفريح ) عن تلك الامكنة عندما جاءنا موظف الخدمة ريكان وهو يندب حظه الحزين لأن احد اولاده ومن دون أن يقصد شرب ماء زمزم الذي كان يدخره لغسيله يوم منيته حيث اوصى جاره الحاج ماهود بجلبه من مكة وهو عباره عن حاوية معدنية بحجم الكف تباع في مكة وفيها ماء زمزم للتبرك.

قال فريح لريكان :عمي ريكان لا تحزن أمام مخفرنا في ميمك عين ماء يسمونها زمزم الغزلان ، سأجلب لك منها ماءً في المرة القادمة وحتما هي مباركة حين تروي عطش العزلان في تلك التلول الرملية القاحلة .

قال :لا ياولدي زمزم مكة لا تعوض بأي زمزم اخرى لان النبي أسماعيل  شرب منها وفجرته قدم الملك جبرائيل.

سألت فريح عن هذه العين التي لم اشاهدها واسمع بها بالرغم من انني خدمت في تلك الامكنة.

فقال من شيخ من ابناء قزانية أن الملك فيصل الاول كانت يختار اياما من الربيع ليجيء الى مندلي  ويمارس هواية الصيد في هذه المناطق بعد أن يتم اخبار المخافر الايرانية والعراقية بقدومه وكان يخيم هو ومن معه لأيام في تلك المكان وهو من اكتشف هذا النبع وطوره وسوره وجعل له مسنيات صخرية حتى تنزل اليه الغزلان وترتوي ،وكان يمنع صيد اي غزال يقترب من النبع وكان يقول :هذا ريم سقيناه الماء فكيف نقتله. وقريش كانت تقول اعداءنا الذين يشربون زمزم فهم يستجيرون بنا .

ومن يومها اطلق على المكان زمزم الغزلان و لو كان الملك يعلم بهذه التسمية لما رضى بذلك المقارن ، فهناك فرق بين بئر يباركه نبي وبئر يباركه ملك.

ليل الاهوار تسكنه عذوبة ماء زمزم وحنان الملك ونظرة غزال ، أضحك واقول لفريح شكرا لذاكرتك وشكرا لأن زمزم الملك اسكتت ظمئنا في هذا الليل..!