7 أبريل، 2024 2:50 م
Search
Close this search box.

الملك المكلوم: ج2 الملك، وقرار الشعب

Facebook
Twitter
LinkedIn

تولى صاحب الحظ العاثر أبو عبد الله الصغير مُحَمَّد بن عَليّ في حقبة تاريخية مضطربة، وأعداء شرسون يتربصون بمملكته. وقد إنحسر مُلكَه فكان أميرًا أو ملكًا على مدينة غرناطة وما حولها فحسب، وهي آخر المعاقل التي تسعى دول الشمال ألإسباني (مملكتا قشتالة وأرغون) لإستعادتها من المسلمين. فقد إكتسحت قوات تحالف الشمال معظم مناطق وحواضر الأندلس، وأخضعتها، وتقاسمتا النفوذ فيها. وجاء الدور على غرناطة. وفعلاً أطبقت قوات قشتالة التي إعتبرت غرناطة من حصتها، فضيقت عليها الخِناق، بإمدادات هائلة من الجند والعُدد الحربية، التي رُفِدَت من الممالك الغربية تحت شعارالصليب، يحدوهم الأمل، ويدفعهم الحماس، فقد تمكنوا من قبل، من استعادة وإخضاع حواضر الأندلس الكبرى، مثل قرطبة عاصمة الأمويين ، اشبيلية، بلنسية، شاطبة، جزر الباليار، مالقة، وسرقسطة وغيرها.
اللافت أننا عند الحديث عن الفردوس المفقود، نذكر الأمور السلبية لأبي عبد الله الصغير، ونُحَمّله تبعة الضياع الكاملة. ولعل ذلك يشي بطمس وتغييب بطولاته ومفاخره. فالرجل لا يخلو من إيجابيات وأعمال جليلة. ولكن ليس هنا موضع الحديث عنها. ويجب ان لا ننسى أنه في الواقع لم يكن يحكم كل بلاد الأندلس التي كانت مقسمة الى إمارات، أو ممالك. وكل إمارة كان لها سلطانها المستقل. وقد سقطت كل تلك الممالك الأندلسية، ودانت بالطاعة لممالك الشمال الإسباني. وليس من المبالغة ان نجزم أنه استلم مملكة (غرناطة) على وشك السقوط، وأنّ أحوالها كانت تنبئ بأن سقوطها بات قاب قوسين أو أدنى. وصحيح أنه قد التفّت حوله بعض مدن وقبائل الجنوب الاندلسي وساندته في فترة ما، أزاء مواجهته للتحديات الداخلية، والعسكرية الهائلة القادمة من الشمال. ولكنها تبقى مساندة محدودة وإمكانات لا تحسم المواقف المرجوة نهائيًا. فقد كانت البلاد قد إستُنزِفت إقتصاديًا وعسكريًا وصناعيًا وسياسيًا، وكُلّلَ ذلك كله بتململٍ مجتمعي من إستدامة الحرب والحصار.
وما يعنينا هنا هو الحديث عن مسؤولية أبا عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ بن الأحمر في قرار الإستسلام والتسليم، وما جرى لمقر حكمه في إمارة أو مملكة غرناطة. ولنا أن نثير التساؤل التالي: هل كان ابو عبد الله دكتاتوراً يتخذ القرارات المصيرية بنفسه؟، أم كان خاضعًا لإرادة شعبه؟، وهل وحده منفردًا من إتخذ قرار التسليم؟، فيتحمل التبعة التاريخية في وضع المشهد الأخير لنهاية حضارة ثمانية قرون، وتقرير مصير ألأمة ألأندلسية؟، أم كان قراراً جماعيًا لعدد كبير من القيادات العسكرية العليا، وأصحاب الرأي والمشورة، ووجهاء وأعيان البلد، فتكون الإدانة والتبكيت شاملة للجميع؟.
لإستجلاء الموقف وتحديد المشهد، نجد وصفًا دقيقًا للحالة يومذاك، من شاهد على العصر، وهو أحد المحاربين الذين شاركوا في معارك تلك المرحلة – حيث سطّر وصفًا دقيقًا لحالة الناس والدولة. وسأقتَطِع أجزاءً مما جاء في وصفه، مما يوضح الصورة التي كانوا عليها آنذاك، حيث يقول: (فَاجْتمع أَعْيَان النَّاس من الْخَاصَّة والعامة وَالْفُقَهَاء والأمناء والأشياخ والعرفاء وَمن بَقِي من أنجاد الفرسان وَمن لَهُم النّظر بغرناطة، وَسَارُوا إِلَى أَمِيرهمْ مُحَمَّد بن عَليّ فأعلموه بِحَال النَّاس وَمَا هم فِيهِ من الضعْف وَشدَّة الْجُوع وَقلة الطَّعَام …. وَأَن أنجاد الفرسان هَلَكُوا وفنوا، وَمن بَقِي مِنْهُم أثخن بالجراحات … وَأَن رِجَالهمْ هَلَكُوا فِي تِلْكَ الْمَلَاحِم. ثمَّ قَالُوا لَهُ: إِن إِخْوَاننَا الْمُسلمين من أهل عدوة الْمغرب بعثنَا إِلَيْهِم فَلم يأتنا أحد مِنْهُم ، وَلَا عرج على نصرتنا وإغاثتنا، وعدونا قد بنى علينا وَسكن مَعنا، وَهُوَ يزْدَاد قُوَّة وَنحن نزداد ضعفا، والمدد يَأْتِيهِ من بِلَاده وَنحن لَا مدد لنا…. وَهَذَا فصل الشتَاء قد دخل … وَإِن بَقينَا حَتَّى يدْخل فصل الرّبيع تَجْتَمِع عَلَيْهِ جيوشه مَعَ مَا يلحقنا نَحن من الضعْف والقلة، فَلَنْ يعود يقبل منا مَا نطلبه مِنْهُ وَلَا نَأْمَن نَحن على أَنْفُسنَا من الْغَلَبَة وَلَا على بلدنا مِنْهُ، فَإِنَّهُ قد هرب لمحلته من بلدنا أنَاس كَثِيرُونَ يدلونه على عوراتنا ويستعين بهم علينا.
فَقَالَ لَهُم الْأَمِير مُحَمَّد بن عَليّ انْظُرُوا مَا يظْهر لكم وَمَا تتفقون عَلَيْهِ من الرَّأْي الَّذِي فِيهِ صلاحكم.
فاتفق رَأْي الْجَمِيع من الْخَاصَّة والعامة أَن يبعثوا لملك الرّوم من يتَكَلَّم مَعَه فِي أَمرهم وَأمر بلدهم … وجدوا لذَلِك الْكَلَام مسلكا مَعَ الْعَامَّة، فَلَمَّا بعثوا لملك الرّوم بذلك وجدوه رَاغِبًا فِيهِ، فأنعم لَهُم بِجَمِيعِ مَا طلبُوا مِنْهُ وَمَا شرطُوا عَلَيْهِ… فَلَمَّا تمت هَذِه الْعُقُود والمواثيق قُرِئت على أهل غرناطة، فَلَمَّا سمعُوا مَا فِيهَا اطمأنوا إِلَيْهَا، وانقادوا لطاعته وَكَتَبُوا بيعتهم، وأرسلوها لصَاحب قشتالة، وسمحوا لَهُ فِي الدُّخُول إِلَيّ مَدِينَة الْحَمْرَاء وَإِلَى غرناطة.) (1)
ويتساوق المؤرخ المقرّي في تأريخه، في إيراد المعنى والوصف السابق، أو قريبًا منه الى حد بعيد، حين يقول: (وقل الطعام، ثم تفاقم الخطب، فاجتمع ناس مع من يشار اليه من اهل العلم، وقالوا: انظروا في انفسكم وتكلموا مع سلطانكم، فأحضر السلطان اهل الدولة وارباب المشورة، وتكلموا في هذا المعنى، وان العدو يزداد مدده كل يوم، ونحن لا مدد لنا، وكان ظننا انه يقلع عنا في فصل الشتاء، فخاب الظن، وبنى واسس، واقام، وقرب منا، فانظروا لانفسكم واولادكم، فاتفق الرأي على ارتكاب اخف الضررين، وشاع ان الكلام وقع بين النصارى ورؤساء الاجناد قبل ذلك في اسلام البلد خوفا على نفوسهم وعلى الناس.) (2)
ما تقدم يُظهر أن أبا عبد الله لم يكن دكتاتورًا. ولم يكن منفردًا بإتخاذ قرار التسليم ، وإنّ توقيع وثيقة تقرر مصير آخر المعاقل الأندلسية،(سيأتي الحديث عن الوثيقة في الجزء التالي)، إنما هو إجراء جاء بعد استشارة وضغط شعبي واسع، وانتهى اليه إجماع عَليَّة القوم، وأهل الرأي والمشورة، وخواص الناس وعوامهم. وأما موقفه كملك فقد كان ابو عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ يدرك انه مُكبّل وحيد معزول في شبه الجزيرة الإيبيرية، وتواجه مملكته المصير المحتوم بعد صمودها الذي استمر لقرنين من الزمان. لقد كانت مستهدفة من قبل ان يتولى السيادة فيها. ويدرك تمامًا إمكانيات المقاومة المحدودة عند شعبه، والتي لا تضاهي في حجمها طوفان الجند الذي تزج به دول الشمال ضدهم. فكان حال أبي عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ بن ألأحمر حال من لا خيار أمامه إلّا خيار فناء نفسه وشعبه. أو خيار تسليم غرناطة. وكلا الخيارين مُر. والحكيم في مثل هذه الظروف القاسية، مَن يتجنب الفناء ويختار لنفسه وشعبه أخف الضررين. وبتوقيع المعاهدة بتاريخ 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 1491م، تقرر مصير أمّة الأندلس إلى الأبد. ورفع ملك قشتالة الكاثوليكي علمه فوق قصر الحمراء كرمز للنصر.

المصادر والمراجع:
(1) نبذة العصر في انقضاء دولة بني نصر وهو كتاب آخر أيام غرناطة/ لمؤلف مجهول، وهو رجل حربي عاصر الأحداث التي يرويها/ ولعله أغفل ذكر إسمه عمدًا خشية ان يلحقه الإضطهاد والتنكيل. ص 121- 123المحقق: د. محمد رضوان الداية الناشر: دار حسان/ دمشق/ الطبعة الأولى، ١٤٠٤هـ.
(2) نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب لشهاب الدين أحمد بن محمد المقري التلمساني (ت ١٠٤١هـ) ج4 ص524-525 المحقق: إحسان عباس /الناشر: دار صادر – بيروت – لبنان / طبعة ١٩٩٧.

الرابط والصفحة https://kitabat.com/author/khaladabdelmagid-com/
البريد الالكتروني [email protected]

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب