لعل العنوان يشير بالنظرة الأولية إلى الحديث عن ملحد جمع بين الصفتين أو الحديث عن تاريخ الإلحاد في هاتين الحضارتين أو قريب ذلك، لكنه واقعاً يتحدث عن شيء مختلف!
فعذراً عزيزي القارئ لأني ربما خيبت ظنك وحدسك في ماهية موضوع المقال.
السومري والفرعوني أردتهما عنواناً للتاريخ الحضاري القديم لمنطقتنا العربية والإسلامية لأنهما الأبرز، حسناً وما دخل هذا بالإلحاد؟!
تاريخ هاتين الحضارتين هو في الغالب تاريخ إلحادي أو شركي حيث العديد من الآلهة وحيث الكثير من الملوك الذين أدعو الإلوهية!
تاريخ حروب وتوسع!
تاريخ قتل فيه بشاعة كبيرة!
تاريخ ظلم وطبقية واستعمال للخرافات والأساطير لتدجين المجتمع ليس له مثيل!
تاريخ شهد إرسال آلاف الأنبياء وما ذلك إلا لكثرة الظلم وقلة الوعي البشري بمفهومه العام!
تاريخ انعدام الحقوق والحريات خاصة للمرأة!
تاريخ عانى منه العرب الويل قبل أن تكون لهم حضارة!
وغير ذلك.
لست هنا بمعرض نقد هاتين الحضارتين، ولا محاولة تشويه صورتيهما وتعظيم السلبيات، ولا نفي وجود الإيجابيات الكبيرة، ولا نفي الاعتزاز ببعض المآثر فيهما، لم ارد كل ذلك. ولكني أردت أن انبه على الجانب المظلم الذي يتعمد البعض تناسيه، متغافلاً عن إن البحث عما يمثل صوت المظلومين في بيوت الملوك ومعابد الآلهة العائدة لتلك الحضارات هو بحث غير مجدي في الغالب!
فحضارة الطين والبردي كما حفظت لنا مآثر الملوك وأساطيرهم فإنها دثرت معها صوت المظلومين الذي لم يبق منه إلا التراث الديني-على ضخامته وتشعبه والملاحظات حوله- والذي يحاول بعض المعاصرين كتمانه هو الآخر، عبر طرح نسخ بديلة، وعبر التشكيك به كلياً مع المطالبة بأن نجد اسم نبي الزمان مكتوباً في غرفة نوم ملك الزمان أو تابوته حتى نثق إن النبي كان موجوداً!!
ليس هذا موضوعي فكل ذلك كان مقدمة للموضوع لا أكثر.
موضوعي هو ذلك الملحد-وبعض العلمانيين- العربي الذي لا يرى أي إيجابية في فترة من الزمان في تاريخه ويحاول طمسها وتشويهها، واقصد فترة الحضارة الإسلامية، ويحاول بكل الوسائل والأساليب نفي الانتساب لها وقدحها، متجاهلاً بذلك كل الإيجابيات. وليس هذا وحسب بل يجهد نفسه في البحث عن سلبيات ولو مفتعلة!
وليس هذا فحسب بل يعيب على الآخرين الانتساب لهذه الحضارة، ويعد احترامها والتمسك ببعض ثوابتها ومدحها نوع من الرجوع القهقري أو التخلف!
الحضارة الإسلامية عمرها 1500 سنة ثبت هذا الرقم عندك، والإنسانية التي جاء بها الإسلام لا يمكن مقارنتها بالوحشية التي سبقتها، ومجتمعنا الآن إسلامي بتفكيره وتاريخه وعاداته-في الغالب طبعاً- وليس في ذاكرته الاجتماعية شيء مما قبل ذلك إلا نادراً. وهو-أي الملحد الذي نتحدث عنه- في نفس الوقت يرقص طرباً لأي حديث عن الحضارة السومرية أو البابلية أو الأكدية أو الفرعونية أو الآرامية أو غيرها، ليس هذا فحسب بل تراه يعتز ويفتخر بها ويذكر رموزها بمنتهى الفخر والاحترام، وقد صادفت العديد منهم ممن يختار اسماً رمزياً أو مستعاراً لنفسه له علاقة بهذه الحضارات ولهذا عنونت مقالي بـ”الملحد السومري الفرعوني”!
هذه الحضارات أقربها لنا اندثر قبل أكثر من 2500 سنة، وليس لها أثراً يذكر في ذاكرتنا الاجتماعية-إن صح التعبير- وهي على ما نوهت عليه من سلبيات -رغم ما فيها من إيجابيات- فكيف يرى هذا الملحد-غريب الأطوار- الرجوع إلى التراث الإسلامي تخلف والرجوع أبعد منه ليس بتخلف!!
وكيف يرى الانتساب للإسلام-ويمكنه أن يخرج من تراثه الموجود بصورة واقعية عنه بدل الصور السلفية والداعشية وهو يعلم إنها مجرد قراءة أو تطبيق خاطئ أو كلاهما- منقصة في حين يرى إن الانتساب لفراعنة القهر والظلم والطغيان ليست منقصة بل مدعاة للفخر؟!
إنه منطق غريب فعلاً وهو برأيي مزيج من رغبة في اللحاق بركب التطور مهما كان الثمن، ورغبة شخصية في الالتذاذ بمكاسب هذا التطور، وشعور بالدونية أمام الآخر ومحاولة الرجوع معه إلى نقطة في تراثي يحترمها هو بغض النظر عن واقعها وتقييمي لها، ورغبة لا يمكن التخلي عنها بالحاجة إلى نقاط افتخار حتى لو كانت وهمية، وغضب-عند البعض- غير مقنن من الوضع القائم، وغير ذلك.
حقيقة لازال تفكير الملحد العربي أو صاحب الأصول الإسلامية –وبعض العلمانيين- محيراً بالنسبة لي، فهو يهزأ بتراث الحضارة الإسلامية ويرى العودة لها ولقيمها تخلف في حين هو يعرف جيداً أكثر من غيره إن العرب لولا الإسلام ما عرفهم أحد إلا كبدو أجلاف، ولبقوا اريبو(1)، وساراقينوس(2)، وساراسين(3) إلى اليوم!
ولعل أفضل تعبير عن حالهم قبل الإسلام ما قالته فاطمة بنت محمد الزهراء (عليها السلام) في خطبة لها تخاطبهم ” وكنتم على شفا حفرة من النار، مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون القِدَّ والورق، أذلّةً خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تعالى بمحمد”(4).
وهو-أي الملحد- بين رغبته في الفخر وبين طموحه الإلحادي ودونيته اختار العود إلى الوراء أكثر ليكون في نظر الآخر أكثر تطوراً فصار سومرياً فرعونياً!
الهوامش:
1-أو عريبو أقدم ذكر للعرب في النصوص الآشورية بحدود القرن الثامن قبل الميلاد.
2-التسمية التي كان يطلقها الرومان على العرب وتعني حرفياً “عبيد سارة”.
3 -التسمية التي عرف العرب بها اليونان واللاتين والأوربيون القدماء، وهي على الأرجح تعني اللصوص أو لصوص الصحراء.
4–خطبة لفاطمة الزهراء (ع) تخاطب فيها المهاجرين والأنصار بعد وفاة أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله).