19 ديسمبر، 2024 7:09 ص

الملا ضيف الجبوري..رائد اداء العتابة واسطورة العزف على الربابة

الملا ضيف الجبوري..رائد اداء العتابة واسطورة العزف على الربابة

الملا ضيف الجبوري رحمه الله فنان ريفي فطري،فهو لم يدرس فن الغناء،ولم يتلقى اصول العزف على الرباب في اكاديمية فنون جميلة،وإنما تعلمها بهواية ذاتية بما هي موروث شعبي في بيئته،فأجاد استخدامها،وبرع في التعامل معها بشكل ملفت للنظر،حتى كون له تجربة خاصة به في الضرب على وترها،واداء مختلف انواع فن الغناء الشعبي عليها.

 ولان الربابة هذه الالة الموسيقية الساحرة بنغمها الحزين، قادرة بوترها الوحيد على تحريك الانفعالات، وإثارة الشجن في نفوس ابناء البادية، وابناء الريف بشكل خاص،فقد كانت ولازالت حاضرة في الغناء الريفي،وخاصة عند اداء العتابة على نغمها.وقد اضفى اداء العتابة المتميز على الربابة من قبل الملا ضيف الجبوري بصوته الاجش الشجي،مسحة خاصة من الابداع،فكان علامة فارقة في مسيرة الغناء الشعبي على الربابة.

لذلك ظل انجذاب الجمهور للاستمتاع بتجربة الملا ضيف عزفا على الربابة،وأداء للعتابة عليها قائما.وغالبا ما يتسامى هذا الاستمتاع إلى حد التماهي المطلق مع  اداء الملا الشجي،الذي يتوغل بانسيابية مفرطة في أعماق جمهوره من دون استئذان.ولعل المعاناة التي كابدها ابن الريف في سالف الأيام بسبب شظف العيش، وقسوة الطبيعة، والتفاعل العاطفي مع المكان، وما يتركه في النفس من محطات في الذاكرة، كلها عوامل تستفز المستمع للتفاعل مع اهات هذا الفنان الفطري بصوته الرخيم، الممتزج ببحة غليظة نسبيا،تضفي على أدائه الإبداعي للعتابة مذاقا خاصا.

كما أن أداء الملا ضيف في العزف المقتدر على الربابة بنغمة حزينة متعمدة،جعلته فنانا متميزا حقا،ولا يدانيه في هذا اللون من الإيقاع المستفز لعواطف المستمعين فنان آخر ممن ولجوا هذا اللون من الغناء. 

ولعل مما يزيد اداءه رفعة في الذوق، هو منحاه الواضح في اختياره تلك النصوص من العتابة عالية النظم،ورفيعة المعاني،وسامية المدلولات، لشعراء فطاحل،وبذلك ترفع الملا ضيف عن استخدام نصوص بصياغات مبتذلة،وبمعاني هابطة،ويعوزها الوزن،أو تفتقر لعنصرالاستفزاز العاطفي لأحاسيس مستمعيه من أصحاب الذوق الرفيع،والمتلقين من ذوي الاهتمام بالنص، وهواة الأداء الصوتي الابداعي للعتابة،والعزف المتميز بألاسلوب الذي انفرد به،فكان الملا بهذا الوصف علامة مميزة بين الجميع ممن أدوا لون العتابة،سواء على سبيل الاحتراف، أو التكسب، أو طلبا للنجومية السريعة.

لقد حفر الملا ضيف، بآهاته المعروفة عند أدائه العتابة، بشقيها الغزلي المتوجد،والرثائي الحزين،مكانته في ذاكرة الأجيال، بحيث أصبح جزءا حيا،وخالدا من ذاكرة تراث الريف الغنائي،حيث لازال يحتل الصدارة في اوساط المستمعين حتى يومنا هذا. فلا تكاد تخلو مناسبة استماع إلا وتتدافع العواطف، وتختلج الأحاسيس،لتدفع بالكثير من عشاق هذا اللون من الغناء للاستمتاع، والإصغاء بتسامي عاطفي تلقائي لتسجيلاته، بحيث يشعر المستمع انه يتماهى كلية مع ادائه،ويتفاعل مع مضمون مفردات النص الذي يؤديه، ليجد نفسه من حيث لا يشعر،يحوم في فضاء الذكريات السالفة حزينة كانت،أم مفرحة. 

ولا يبدو ان الملا ضيف في إكثاره من تكرار الآهات كظاهرة ملازمة لأدائه العتابة على الربابة بذلك التكنيك المتميز الذي انفرد به عن غيره عبثيا، أو مجرد ناسخ عفوي لمن سبقوه ممن ادوا العتابة على الربابة، بل قد يكون ذلك الاسلوب مسلكا مقصودا منه من اجل الاستفزاز العاطفي، والتأثير في خوالج المتلقين من جمهوره،وهو في ذات الوقت تعبير حقيقي عن المعاناة الذاتية التي ربما كان هذا الفنان المبدع قد كابدها في صباه. ولعل أداءه للنص المشهور(خططية بالمحايل مرج أهلنا…ومثل بعض الزوابع مر جهلنا ..) وغيره من مثله مما غناه من النصوص،يعطي الكثير من الدلالات في هذا الاتجاه.

ويبقى الكثير من أصحاب الذوق الرفيع من هواة العتابة، يتفاعلون بشكل حي مع الملا ضيف عند سماعهم لأدائه،حيث يجد الكثير منهم ذاته المتوجعة متحققة في وخز نغم وتر ربابته لأعماق وجدانهم،كأنه خنجر حاد يحز اكبادهم،فيغور في أعماقها مهيجا فيهم ذكريات الماضي السارة منها، والحزينة على حد سواء.

وهكذا يبقى الفنان القدير الملا ضيف الجبوري،ظاهرة ابداعية متميزة في تراث الغناء الريفي،والعزف المتفرد على الربابة،حيث احتل بجدارة،مكانة خاصة في أعماق الذاكرة الجمعية الريفية،لا ينازعه فيها منافس،وإلى أمد قد يطول.

أحدث المقالات

أحدث المقالات