23 ديسمبر، 2024 10:23 ص

المقنع الكندي:تحليل قصيدته (يُعَاتِبُنِي فِي الدَّيْنِ..) نقدياً و بلاغياً وعروضياً

المقنع الكندي:تحليل قصيدته (يُعَاتِبُنِي فِي الدَّيْنِ..) نقدياً و بلاغياً وعروضياً

رؤىً جديدة اقرأوا البحث والتحليل إلى آخره رجاءً وتأملوا معي ، والليالي يلدن كلّ عجيب !!

أولاً – أبيات القصيد :
وَإِنَّ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَ بَنِــي أَبِـــي*** وبَيْنَ بَنِــي عَمِّـي لَمُخْتَلِفٌ جِـدَّا
أَرَاهُمْ إِلَى نَصْرِي بِطَاءً وإنْ هُـــمُ ****دَعَوْنِي إِلَـى نَصْرٍ أَتَيْتُهُمُ شَدَّا
فَإِنْ أَكَلُوا لَحْمِي وَفَرْتُ لُحُومهُمْ** وَإِنْ هَدَمُوا مَجْدِي بَنَيْتُ لَهُمْ مَجْدا
…………………………………………………………………
ثانياً – القصيدة :
قال محمد بن ظفر بن عمير الكندي الملقب بالمقنع الكندي ( توفي 69 هـ / 689م – العصر الأموي) قصيدته الشهيرة – قصيدة دين الكريم – من البحر الطويل :
1 – يُعَاتِبُنِي فِي الدَّيْنِ قَوْمِي وَإِنَّمَــا**** دُيُونِيَ فِي أَشْيَاءَ تُكْسِبُهُمْ حَمْدَا
2 – أَلَم يَرَ قَومي كَيفَ أوسِرَ مَرَّة **** وَأُعسِرُ حَتّى تَبلُغَ العُسرَةُ الجَهدا
3 – أَسُدُّ بِهِ مَا قَدْ أَخَلُّوا وَضَيَّعُوا***ثُغُورَ حُقُوقٍ مَا أَطَاقُـوا لَهَا سَدَّا
4 – فَمَا زَادَنِي الْإِقْتَارُ مِنْهُمْ تَقَرُّبًا**وَلا زَادَنِي فَضْــلُ الْغِنَى مِنْهُمُ بُعْدَا
5 – وَفِي جَفْنَةٍ مَا يُغْلَقُ الْبَـابُ دُونَهَـا ****مُكَلَّلَـةً لَحْمًا مُدَفَّقَـةً ثَــرْدًا
6 – وَفِي فَرَسٍ نَهْدٍ عَتِيـقٍ جَعَلْتُــهُ**** حِجَابًا لِبَيْتِي، ثُمَّ أَخْدَمْتُهُ عَبْــدا
7 – وَإِنَّ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَ بَنِي أَبِـــي**** وبَيْنَ بَنِــي عَمِّـي لَمُخْتَلِفٌ جِدَّا
8 – أَرَاهُمْ إِلَى نَصْرِي بِطَاءً وإنْ هُــمُ **** دَعَوْنِي إِلَى نَصْرٍ أَتَيْتُهُمُ شَدَّا
9 – فَإِنْ أَكَلُوا لَحْمِي وَفَرْتُ لُحُومهُمْ**وَإِنْ هَدَمُوا مَجْدِي بَنَيْتُ لَهُمْ مَجْدا
10 -وَإِنْ ضَيَّعُوا غَيْبَي حَفِظْتُ غُيُوبَهُمْ** وإنْ هُمْ هَوُوا غَيِّي هَوِيتُ لَهُمْ رَشْدًا
11 – وَلَيسوا إِلى نَصري سِراعاً وَإِن هُمُ *** دَعوني إِلى نَصرٍ أَتَيتُهُمُ شَدّا
12 – وإنْ زَجَرُوا طَيْرًا بِنَحْسٍ تَمُرُّ بِي****زَجَرْتُ لَهُمْ طَيْرًا تمُرُّ بهِمْ سَعْدَا
13 – وَإِن هَبطوا غـــوراً لِأَمرٍ يَســؤني**** طَلَعــتُ لَهُم مـا يَسُرُّهُمُ نَجــدا
14 – فَإِن قَدحوا لي نارَ زنــــدٍ يَشينُني*** قَدَحتُ لَهُم في نار مكرُمةٍ زَنـدا
15 – وَإِن بادَهونـي بِالعَـــداوَةِ لَم أَكُــن****أَبادُهُمُ إِلّا بِما يَنـــعَت الرُشـــدا
16 – وَإِن قَطَعوا مِنّي الأَواصِر ضَلَّةً**** وَصَلتُ لَهُـم مُنّي المَحَبَّــةِ وَالوُدّا
17 – وَلاَ أَحْمِلُ الْحِقْدَ الْقَدِيمَ عَلَيْهِمُ*** وَلَيْسَ رَئِيسُ الْقَوْمِ مَنْ يَحْمِلُ الحِقْدَا
18 – فَذلِكَ دَأبي فـــي الحَياةِ وَدَأبُهُم****سَجيسَ اللَيالي أَو يُزيرونَني اللَحدا
19 – لهُمْ جُلُّ مَالِي إِنْ تَتَابَعَ لِــي غِنًى*** وَإِنْ قَلَّ مَــالِي لَــمْ أُكَلِّفْــهُمُ رِفْـدَا
20 – وَإِنِّي لَعَبْدُ الضَّيْفِ مَا دَامَ ثَاوِيًـا** وَمَا شِيمَةٌ لِي غَيْرَهَا تُشْبِهُ الْعَبْدَا
21 – – عَلَى أَنَّ قَوْمِي مَا تَرَى عَيْنُ نَاظِرٍ***كَشَيْبِهُمُ شَـيْبًا وَلاَ مُرْدِهِمْ مُرْدَا
22 – بِفَضْلٍ وَأَحْلاَمٍ وَجُودٍ وسُــؤْدُدٍ*** وَقَــوْمِي رَبِيعٌ فِي الزَّمَانِ إِذَا اشْتَــدَّا
…………………………………………………………………………
ثالثاً – نظرة عروضية :
القصيدة من البحر الطَّوِيْل وزنه بحسب الدائرة العروضية:
فَعُوْلُنْ مَفَاْعِيْلُنْ فَعُوْلُنْ مَفَاْعِيْلُنْ ** فَعُوْلُنْ مَفَاْعِيْلُنْ فَعُوْلُنْ مَفَاْعِيْلُنْ
لا يستعمل هذا البحر إلا تاما وجوبا.
ضابطه :
طَويلٌ لَهُ دُونَ البُحورِِ فضائل ** فَعُوْلُنْ مَفَاْعِيْلُنْ فَعُوْلُنْ مَفَاْعِلُ
للبحر الطَّوِيْل عروض واحدة تامة مَقْبُوضَة (قبضها واجب) ، وهو زحاف جارٍ مجرى العلة ، ولها ثلاثة أضرب صحيح (مَفَاْعِيْلُنْ) ، مقبوض ( مَفَاْعِلُ) مثل عروضته ، و محذوف معتمد (مَفَاْعِيْ ) – ويستحسن قبض “فَعُوْلُنْ” الواقعة قبل هذا الضرب –
أ – قصيدة شاعرنا المقنغ الكندي : عروضها مقبوضة وجوباً، وضربها صحيح ، وهذا وزنها:
فَعُوْلُنْ مَفَاْعِيْلُنْ فَعُوْلُنْ مَفَاْعِلُنْ*** فَعُوْلُنْ مَفَاْعِيْلُنْ فَعُوْلُنْ مَفَاْعِيْلُنْ
أما الزحافات والعلل في البحر الطَّوِيْل فيجوز في حشو الطَّوِيْل:
(مَفَاْعِيْلُنْ) تَصْبَحُ : مَفَاْعِيْلُ ، مَفَاْعِلُنْ
(فَعُوْلُنْ) َتصْبَحُ : فَعُوْلُ ،عُوْلُنْ ، عُوْلُ.
ب – في هذا العجز: (طَلَعــتُ لَهُمْ مـا يَسُرُّهُمُ نَجــدا) ، قد ورد في كلّ المراجع والمصادر بهذه الصيغة ، وكان ثقيلاً مكروهاً على أذني ، ولم أرَ من أشار إليه أو قطّعه عروضيا ، والحق فيه ثلاثة زحافات تعاقبت في حشوه، أحدها مكروه ، وهي قبض (فَعُوْلُنْ) الأولى فأصبحت (فَعُوْلُ) ، وكف ( مَفَاْعِيْلُنْ) الأولى فأصبحت (مَفَاْعِيْلُ) ، وثرم ( فَعُوْلُنْ) الثانية فأصبحت (عُوْلُ ) ، التقطيع :
طَلَعــتُ لَهُمْ مـا يَسُرُّهُمُ نَجــدا
طَلَعْــتُ / لَهُمْ مـا يَ/ سُرْرُ/ هُمُو نَجْــدا
فَعُوْلُ / مَفَاْعِيْلُ / عُوْلُ / مَفَاْعِيْلُنْ
ج – البيتان الثامن والحادي عشر متشابهان في المعنى واللفظ ، وكل المصادر والمراجع التي أعتمدت عليها تدونهما ، ولكن المشكلة العروضية ، جميع ما أعتمدت عليه تكتب عجز البيت الحادي عشر هكذا : (دَعوني إِلى نَصيرٍ أَتَيتُهُمُ شَدّا)، وبهذا التشكيل يكسر الوزن إلا بحذف الياء من ( نصيرٍ ) ، لتكون ( نصرٍ) ، فيصبح العجز (دَعوني إِلى نَصرٍ أَتَيتُهُمُ شَدّا)، فيكون التقطيع :
فَعُوْلُنْ مَفَاْعِيْلُنْ فَعُوْلُ مَفَاْعِيْلُنْ
لأن لو قبلنا بما أتت به كل المراجع والمصادر التي أعتمدت عليها ، ورضينا بقبض
(مَفَاْعِيْلُنْ) في الحشو ، وسكّنا ميم فتكون (أَتَيتُهُمْ) لكانت التفعيلة الثالثة في العجز ( فَاعِلَنْ) ، وهذه ليست من تفعيلات البحر الطويل ، يعني يكون التقطيع (فَعُوْلُنْ مَفَاْعِلُنْ فَاعِلَنْ مَفَاْعِيْلُنْ).
من كل هذا أريد أن أقول إن البيت الحادي عشر منحول ، وليس من القصيدة على أغلب الظن !!!
والسؤال الأهم كيف عبر هذا البيت من يومه حتى يومنا ؟!! وتنقله المراجع والمصادر والمواقع حتى الأدبية المتخصصة ، ليس من ناحية العروض فقط ، ولكن تكرار المعنى واللفظ للبيت الثامن ، والثامن أقوى تشكيلاً.
د – في عجز البيت الثامن عشر :(سَجيسَ اللَيالي أَو يُزيرونَني اللَحدا) ، هنالك احتمالان لإعراب (أو) ، إما أن تكون عاطفة ، فالفعل (يُزيرونَني) ، تلفظ فيه النونيَن ، نون الجمع ونون الوقاية ، وتختلس الياء للكسر ، فيكون تقطيع العجز : (فَعُوْلُنْ مَفَاْعِيْلُنْ فَعُوْلُنْ مَفَاْعِيْلُنْ) ، وإما أن تكون (أو) أداة نصب للفعل المضارع ، ففي هذه الحالة تحذف نون الجمع ، وتبقى فقط نون الوقاية ، فيلفظ الفعل بنون واحدة هي نون الوقاية ، وعليك تحريك ياء المتكلم بالفتح (يُزيرونيَ) ، ويبقى التقطيع السابق نفسه ، والله خير الحاكمين .

تنويهات :
أ – لا يجوز اجتماع الكف والقبض في (مَفَاْعِيْلُنْ). والْكَفّ والْقَبْض إن وقعا في جزء أو جزأين قُبِلا، فإن زادا عن ذلك لم يتقبلهما الذوق.
ب – الْخَرْم (حذف أول الوتد المجموع أول التفعيلة) وذلك في تفعيلته الأولى (فَعُوْلُنْ) فإن كانت سالمة أصبحت (عُوْلُنْ) ويُسَمَّى هذا ثَلْمًا، وإن كانت مَقْبُوضَة صارت (عُوْلُ) ويُسَمَّى ثَرْمًا.
ج – لا تأتي عروض الطويل سالمة (مَفَاْعِيْلُنْ) إلا عند التصريع فتكون سالمة مع التصريع ومقبوضة حيث لا تصريع.
يبقى عليك تقطيع القصيدة ، فهو سهلٌ يسير على المتمرس !!
………………………………………………………………..
رابعاً – اسمه ونسبه وولادته :
جاء في (الأغاني) : ” اسمه محمد بن ظفر بن عمير بن أبي شمر بن فرعان بن قيس بن الأسود ابن عبد الله بن الحارث الولادة – سمي بذلك لكثرة ولده – بن عمرو بن معاوية ابن كندة بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب قحطان شاعر مقل من شعراء الدولة الأموية وكان له محل كبير وشرف ومروءة وسؤدد في عشيرته
قال الهيثم بن عدي أن عمير جده سيد كندة وكان عمه عمرو بن أبي شمر ينازع أباه الرياسة ويساجله فيها فيقصر عنه.”
وفي اسم أبيه خلاف، قيل: عمير، وقيل ظفر بن عمير ، وقيل عميرة.
ولد الكندي في وادي دوعن بحضرموت في قبيلة كندة اليمنية جنوب الجزيرة العربية ، من أهل حضرموت وُلد بـوادي دوعن ، ولا تعرف سنة مولده ولكنه عاصر الدولة الأموية،فهو من شعرائها ، ( توفي 69 هـ / 689م).
………………………………………………………
خامساً – لقبه :
يقول صاحب ( الأغاني) : ” المقنع لقب غلب عليه لأنه كان أجمل الناس وجها وكان إذا سفر اللثام عن وجهه أصابته العين.
قال الهيثم كان المقنع أحسن الناس وجها وأمدهم قامة وأكملهم خلقا فكان إذا سفر لقع – أي أصابته أعين الناس – فيمرض ويلحقه عنت فكان لا يمشي إلا مقنعا.”
و قيل العكس : كان من أجمل أهل زمانه وأحسنهم وجها ، وأتمهم قامة ، فكان إذا كشف وجهه يؤذى ، فكان يتقنع دهره ، فسمي لذلك المقنع.
وقيل أيضاً لأنه فارس رئيس مغطى بالسلاح كما قال الجاحظ ، وهو الأقرب للعقل و المنطق ، وهكذا ذهب التبريزي في تفسيره للقبه بقوله : ن المقنع هو اللابس لسلاحه.
………………………………………………………………………………..
سادساً – حياته :
يقول أبو فرج الأصفهاني في ( أغانيه) ” ونشأ محمد بن عمير المقنع فكان متخرقا في عطاياه سمح اليد بماله لا يرد سائلا عن شيء حتى أتلف كل ما خلفه أبوه من مال فاستعلاه بنو عمه عمرو بن أبي شمر بأموالهم وجاههم وهوي بنت عمه عمرو فخطبها إلى إخوتها فردوه وعيروه بتخرقه وفقره وما عليه من الدين فقال هذه الأبيات المذكور.”
عاصرالمقنع الكندي عبدالملك بن مروان وامتدحه ،كان له محل كبير وشرف ومروءة وكان المقنع يُعرف بمكانته ومنزلته الرفيعة داخل عشيرته. إذ كان جدّ المقنع عمير زعيم كندة، وبعد موته نشأ خلاف بين والد المقنع وهو ظفر وعمه عمرو بن أبي شمر على الزعامة ، وقد كان هذا الخلاف سبباً في الخلاف بين المقنع الكندي وأبناء عمّه في ما بعد وقد يكون هذا سبب رفض أبناء عمّه تزويجه أختهم مما قيل عنه.

فقد نشأ شاعرنا في وسط هذا وعرف بالإنفاق وحب العطاء فانفق ما تركه له والده حتى أصبح مديوناً، وجاءت إحدى قصائده (الدالية الخالدة الني تسمى : دين الكريم) معبرة عن حاله بعد استدانته من أبناء عمه، وتعد هذه القصيدة من أطول القصائد التي كتبها، واشهرها، وفي هذه القصيدة قام بالرد على أقاربه بعدما عاتبوه على كثرة إنفاقه والاستدانة منهم، فهو الكريم الذي لا يرد سائل، فدافع عن نفسه في هذه القصيدة.
…………………………………………………………………………
سابعا – من أشعاره :
لم يتم جمع أشعاره في ديوان وتفرق الكثير منها، ولم تكن قصائد الكندي طويلة فكان أطولها القصيدة الدالية، و من بعدها قصيدة تضم 18 بيت وباقي القصائد تتراوح بين سبعة أبيات وبيت واحد، وتدور معظم قصائده في نفس إطار القصيدة الدالية والتي سبق ذكرها.
وذكر ألدكتور نوري حمودي القيسي في كتابه ( شعراء أمويون ) ما مجموعه واحد وثمانون بيتاً في ثلاثة عشر نصاً ما بين قصيدة ومقطوعة ونتفة وبيت يتيم .
وقد أنشد الكندي بعض أشعاره بين يدي عبد الملك بن مروان، وتوفى عام 69 هـ ، وقيل 70هـ.
يمتاز شعره برصانة الأسلوب وانتقاء الألفاظ والمفردات الشعرية بعناية فائقة تعرب عن تمكنه في صناعة الشعر وسمو مكانه بين شعراء العربية، فشعره من أحسن ما قيل في معناه جزالة ونقاوة وسباطة وحلاوة.
وتعد قصيدة الدالية قصيدة (دين الكريم) المتقدم ذكرها من أشهر قصائد المقنع ، وأشرنا من قبل .
شاعر مقلّ من شعراء الدولة الأموية، ومن جيد شعره :
إِنِّي أُحَرِّضُ أَهْلَ الْبُخْلِ كُلَّهُمُ*** لَوْ كَانَ يَنْفَعُ أَهْلَ الْبُخْلِ تَحْرِيضِي
مَا قَلَّ مَالِيَ إِلاَّ زَادَنِي كَرَمًا ***حَتَّى يَكُونَ بِرِزْقِ اللَّهِ تَعْوِيضِي
وَالْمَالُ يَرْفَعُ مَنْ لَوْلاَ دَرَاهِمُهُ** أَمْسَى يُقَلِّبُ فِينَا طَرْفَ مَخْفُوضِ
لَنْ تَخْرُجَ البِيضُ عَفْوًا مِنْ أَكُفِّهِمُ*** إِلاَّ عَلَى وَجَعٍ مِنْهُمْ وَتَمْرِيضِ
كَأَنَّهَا مِــــنْ جُلُودِ الْبَاخِلِينَ بِهَـا****عِنْدَ النَّوَائِبِ تُحْذَى بِالْمَقَارِيضِ
ومن جيده أيضاً:
نَزَلَ الْمَشِيبُ فَأَيْنَ تَذْهَبُ بَعْدَهُ***وَقَدِ ارْعَوِيتَ وَحَانَ مِنْكَ رَحِيلُ
كَانَ الشَّبَابُ خَفِيفَــــــةً أَيَّـــامُهُ*** وَالشَّـــيْبُ مَحْمَلُهُ عَلَيْكَ ثَقِيلُ
لَيْسَ الْعَطَاءُ مِنَ الْفُضُولِ سَمَاحَةً***حَتَّى تَجُـــودَ وَمَا لَدَيْكَ قَلِيلُ
الصداقة والصديق) قال المقنع الكندي:) وفي كتاب
وَصَاحِبُ السَّوْءِ كَالدَّاءِالْعَيَاءِ إِذَا ** مَا ارْفَضَّ فِي الْجِلْدِ يَجْرِيهَا هُنَا وَهُنَا
يَجْرِي وَيُخْبِرُ عَنْ عَوْرَاتِ صَاحِبِهِ*** وَمَا يَـــرَى عِنْدَهُ مِـنْ صَــالِحٍ دَفَنَا
كَمُهْرِ سَـــوءٍ إِذَا رَفَّعْتَ سِـــيرَتَهُ *** رَامَ الْجِمَــاحَ وَإِنْ أَخْفَضْــتَهُ حَـرَنَا
إِنْ يَحْيَ ذَاكَ فَكُنْ مِنْهُ بِمَعْزِلَــةٍ *** وَإِنْ يَمُـــتْ ذَاكَ لاَ تَشْــهَدْ لَـهُ جَنَنَــا
………………………………………………………………………
ثامناً – تحليل قصيدته الخالدة :
أ – المقدمة والمناسبة :
يطلُّ علينا هذا الشاعر المقنع الأموي بإطلالة غير( طللية) ، لا وقوف على الأطلال ، ولا تشبيب ، ولا نسيب ، ولا قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ ، ولا لخولة أطلالٌ ببرقة ثهمدِ ….كما ذهب الشعراء الجاهليون ، بل ولا حتى بـ تأسفتْ جارتي لما رأتْ زوري ، أو تحاوبن بالأرنانِ والزفراتِ كما أنشد دعبل العباسي … ما هكذا تورد يا ( كندي) الإبل…!!!
شاعرنا دخل علينا بالعتاب ، وهاجمنا بالدفاع …!! كم كانت نفسيته متألمة ، حزينة ، متعبة ، ولا تعب إبان لحظات نظم القصيدة ، مشاعر مكبوتة حتى الانفجار ببوح إنساني رفيع ، وما الإنسان إلا بالإنسان !! فوجد نفسه في صراع فكري اجتماعي وجداني سلوكي …فعدَّ نفسه لتعداد خصاله الحميدة وأياديه الكريمة ونفسه الكبيرة ، وجعل من مظلوميته جسراً لعبور بني أبيه وبني عمه إلى المجد الرفيع والسؤدد السامي !!
إنَّ السببَ المباشر ، والمناسبة الأليمة لنظم المقنع أفضلِ عقد قصائده – والتي اشتهرت على الألسُن، وخلدها الدهر أنَّه أحبَّ ابنة عمِّه أيضًا، وخطبها إلى أبيها وإخوتها، فرفضوا تزويجه إيَّاها، وما الحجة؟!!
نعم الحجة جاهزة هي فقره ودَينه، وما سبب فقره ودينه؟ لأنَّه لا يردُّ السائلين والمحتاجين والفقراء، وبابه مفتوح للضيوف على مصراعيه!!:
ب – تحليل أبيات القصيدة نقدياً وبلاغياً:
1 – يُعَاتِبُنِي فِي الدَّيْنِ قَوْمِي وَإِنَّمَــا*** دُيُونِيَ فِي أَشْيَاءَ تُكْسِبُهُمْ حَمْـدَا
يشرع بعتاب قومه له في دَيْنه ،ويأتي بجناس ناقص بين ( َديْن) في صدر البيت و ( ديون ) في عجزه ، فيحصر أمر ( ديونه) بأداة الحصر ( إنّما) ، وبعد ( الحصر) يكمل … هذه الديون صرقتها في أشياءَ – ممنوعة من الضرف – تجلب لهم الثناء والحمد !! وقلب السحر على الساحر !!
و الحقُّ هذا من أعمال النفوس الكبيرة الأثيرة ، المضحية من أجل الآخرين وإسعادهم ، وله في قصيدة أخرى ما ذهبنا إليه ، قوله :
لَيْسَ الْعَطَاءُ مِنَ الْفُضُولِ سَمَاحَةً ***حَتَّى تَجُـــودَ وَمَا لَدَيْكَ قَلِيلُ
2 – أَلَم يَرَ قَومي كَيفَ أوسِرَ مَرَّة **** وَأُعسِرُ حَتّى تَبلُغَ العُسرَةُ الجَهدا
البيت الثاني كله أسلوب إنشائي طلبي استفهامي ،الغرض منه التقرير و اللوم و التأكيد.
و الاستفهام المنفي ، تكون الإجابة عنه بالإثبات باستخدام (بلى) : (أَلَم يَرَ قَومي كَيفَ؟!…) الجواب بالإيجاب : ( بلى، رأى قومك كيف….) ، ومن بعده بثلاثة قرون جاء أبو فراس الحمداني بالصيغة نفسها وجاوب بنفسه : ( أما للهوى نهيٌ عليك ولا أمرُ؟! ….بلى أنا مشتاقٌ وعنديَ لوعة ٌ…).
وبعد حصر الديون لتكسبهم مجدا ، يشرع بالبيت الثاني مستفهماً منهم مستنكراً قباحتهم معه ، ويلبس لباس التوازن المتعقل بين يسره وعسره (بطباق) جميل ، بل ويزايد عليهم أنه يجهد نفسه بالعسرة. ويواصل البيت الثالث وتعال معي رجاءً!!
3 – أَسُدُّ بِهِ مَا قَدْ أَخَلُّوا وَضَيَّعُوا***ثُغُورَ حُقُوقٍ مَا أَطَاقُـوا لَهَا سَدَّا
دقّق معي الصيغ البلاغية المتتالية في هذا البيت ( أسدُّ …سدّأ) ،جناس ناقص اشتقاقي رائع يتلقف السامع الفطن القافية قبل أن ينطقها الشاعر ، والشاعر لم يترك مجالاً للشك والريب ، حسم الأمر حسماّ ،أن ديني وديوني ما كانت سوى تسديد لما أخلّيتم وضيعتم من ثغور الحقوق …الطباق جلي وواضح بين ( أسدُّ و أخلّوا) ، و (ثغور حقوق ) يشبه الشاعر الحقوق بالثغور التي يجب سدادها وهو تجسيد للمعنى حيث يشبه شيء معنوي بشيء مادي ، والكناية عن عجزهم في ( ما أطاقوا لها سدّا) بيّنة!
(ما) في صدر البيت موصولة بمعنى الذي والجملة التي بعدها صلة الموصول لا محل لها من الإعراب .. أما ( ما ) في عجز البيت فهي (ما) النافية ، حيث نفت استطاعة القوم على أداء الحقوق ، والكلمتان جناس تام !
وما اكتفى الرجل … ويقيني أن الهموم والأفكار والتساؤلات والإجابات كانت مختمرة في عقل ووجدان الشاعر قبل عقد قصيدته إبان لحظات الإبداع ، وبالتالي هي قصيدة تختلف عن ( ألا هبّي بصحنك فأصبحينا) لعمرو بن كلثوم وغيرها !! إذ أفكارها متسلسلة …مرتبة … مجهّزة بأدوات حصرٍ وشرطٍ واستفهام وتأكيد ، وتكرار لفظي مقصود …كأنه يشك ويرتاب من أهله وبني عمّه أن يقتنعوا بحججه وأقاويله ونظمه.
ونواصل ، ولك أن تواصل المسيرة معي ، ولا أعدك ، وربّما أنت أيضاً مشفقٌ عليَّ وعلى نفسك ، أن نشرح القصيدة بيتاً بيتاً ، فأنا أسير معك ناقداً أديبا، لا معلماً ناهجاً القصيدة سلسة ، من السهل الممتنع ، جليّة واضحة لكلِّ أديبٍ أريب ، جلّها يغطي كلّها !! مهما يكن من أمر أسير وتسير معي إلى هذها البيت :
4 – فَمَا زَادَنِي الْإِقْتَارُ مِنْهُمْ تَقَرُّبًا****وَلَا زَادَنِي فَضْــلُ الْغِنَى مِنْهُمُ بُعْدَا
العلاقة بين الشطرين علاقة ( مقابلة ) ، لذا لا يفوتك ما في الشطرين من جناسٍ ، و ( زادني ….زادني ) و ( مِنْهُمْ …مِنْهُمْ ) ، ومن طباقٍ بين ( الإقتار …الغنى) و ( تقرباً …بعدا).
زادتني دهشة هذه المقابلة بجناساتها وطباقتها ، وهذا الأسلوب الخبري المنفي لكي يستبعد تقرّبه لقومه وتذلله لهم عند الحاجة ، وبعده عنهم إبان الغنى والخير، فحبّه لهم بعيد عن المصالح ، لأنهم هم أهله وكفى ، ويذكّرهم هو من هو ؟!!
5 – وَفِي جَفْنَةٍ ما يُغْلَقُ الْبَـابُ دُونَهَـا ****مُكَلَّلَـةً لَحْمًا مُدَفَّقَـةً ثَــرْدًا
6 – وَفِي فَرَسٍ نَهْدٍ عَتِيـقٍ جَعَلْتُــهُ**** حِجَابًا لِبَيْتِي، ثُمَّ أَخْدَمْتُهُ عَبْــدا
كأنّي بهذا المقنع الفارس لفروسيته ، لا لجمال وجهه فقط تقنع : يقول لقومه و أهله وبني عمه ما كانت ديوني – أيّها السادة!!- لإعلاء شأنكم ، ورفع مجدكم ، وتسديد ثغور حقوقكم فقط ، وإنمّا للبذل الباذخ وكرمي وجودي – وكنّى في قوله : ( ما يُغْلَقُ الْبَـابُ دُونَهَـا ) – عن فتح الموائد التي تتسع لسد الأبواب لكثرة الضيوف ، وعليها أكاليل من اللحوم والثريد الطيب وما تشتهون !!!
قوله: (مدفقة) أي مملوءة. والأحسن أن يروى معه : (ثرداً) بضم الثاء. ويروى (مدفقة ثردا) بفتح الثاء. والمراد مثردة ثرداً دقيقاً . وقال بِشر الأسيدي:
إني ليمنعني من ظلم ذي رحمٍ *** لب أصيل وحلم غير ذي وصمِ
إن لان لنت وإن دبت عقاربه *** ملأت كفيه من صفحٍ ومن كرمٍ
في البيت السادس وصف فرسه بأنه (فَرَسٍ نَهْدٍ عَتِيقٍ ، والنه د: الجسم المشرف من الخيل) ، أي كناية موصوف عن صمودها بوجه الأعداء ، لم يرد بقوله جعلته حِجَابا لبيتي أَنه يحجب بَيته ، بل فرس هَذِه صفته جعلته نصب عَيْني وأكبر همي ، و جعلت عبداً خَادِمًا لَهُ فِي تَدْبِير شؤونه.
فذلكة الأقوال لشرح الأبيات الستة ، ما ذكره المروقي عن شرحها في شرح ديوان حماسة أبي تمام : ” كأن قومه ينعون عليه سرفه في الإنفاق، وتخرقه في الإفضال، وتجاوزه ما تساعده به حاله وتتسع له ذات يده إلى الاستقراض، وبذل الوجه في الأديان، فقال: كثرت لأئتمتهم فيما يركبني من الديون، وإنما هي مصروفة في وجوه مؤنها علي، وجمالها لهم، وقضاؤها في أنفسهم يلزمني، ومحامدها موفرة عليهم. ثم أخذ يعد فقال: من تلك الوجوه أن ما ينوب من الحقوق فيخلون بها ويضيعونها عجزاً عن الوفاء بواجبها، أنا أسد ثغورها، وأقيم فروصها.
ومنها: أن لي دار ضيافة قدورها مشبعة موفورة، وجفانها معددة منصوبة، لا يمنع منها طالبها ولا يحجب عنها رائدها، فلحمانها كلأكاليل على رءوسها، وثرئدها قد نمق تدقيقه.”

7 – وَإِنَّ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَ بَنِي أَبِـــي**** وبَيْنَ بَنِــي عَمِّـي لَمُخْتَلِفٌ جِدَّا
8 – أَرَاهُمْ إِلَى نَصْرِي بِطَاءً وإنْ هُــمُ **** دَعَوْنِي إِلَى نَصْرٍ أَتَيْتُهُمُ شَدَّا
9 – فَإِنْ أَكَلُوا لَحْمِي وَفَرْتُ لُحُومهُمْ**وَإِنْ هَدَمُوا مَجْدِي بَنَيْتُ لَهُمْ مَجْدا
العلاقة بين هذه الأبيات علاقة إجمال بالمساواة قبل التفصيل وبعده ، البيت السادس أسلوبه خبري توكيدي إنكاري لوجود مؤكدين اثنين ، هما إنّ ، واللام المتصلة بكلمة مختلف ؛ وزادها (جدا) ،فأخلاقه غير أخلاق اللائمين اللوّم من أخوته بني أبيه ، وأبناء عمّه.
والبيت الثامن يتضمن علاقة مقابلة ما بينه وبين قومه المخصوصين ، ، هم بطاء لنصرته ، لا يعيرون اهتماماً به ، وهو يشدّ إليهم معاوناً مسرعاً ، بإسلوب تعليقي شرطي ، يأتيهم شدّا نتيجة وجواباً لدعوته مدّا !! ولا يفوتك الطباق بين بطاء وشدّا
وفي البيت التاسع يبدأ بالكناية عن غيبته وذكره بالسوء من قبل أهله وقومه الأقربين ، في قوله ( إذا أكلوا لحمي ) ، ويقابلها بكناية أخرى : ( وفرتُ لحومهم) ، أي حفظتهم في ذكر الخير ، ودافعت عنهم ، ويتابع متألماً حزيناً في الشطر الثاني وأعني العجز وإذا أسقطوني وشوهوا سمعتي ، وهدموا مجدي وهذه الكناية الثالثة ، ليدمغهم بالكناية الرابعة ( بنيت لهم مجدا) ، أي خلقت لهم طيب الذكر ، والسمعة الحسنة ، وما أجمل الصيغة البلاغية بتشبيه من اختصّهم بالعتاب بالوحوش الكاسرة الناهشة للحمه بقسوة مريرة ، و تشبيه المجد بالبناء الشامخ ، وبإيجاز بليغ معبر ،وأيضاً هنالك طباقات في البيت مثل هدموا وبنيت ، وأكلوا ووفرت !!
ويواصل دربه الشعري المتألم المنفجر من وجدان مكلوم مخذول ، ليس له من معين، بمقابلات …فإن ضيعوا غيبه ، حفظ غيوبهم ، وإن ضلّلوه ، تمنى لهم الرشد والتوفيق والهداية.
10 -وَإِنْ ضَيَّعُوا غَيْبَي حَفِظْتُ غُيُوبَهُمْ** وإنْ هُمْ هَوُوا غَيِّي هَوِيتُ لَهُمْ رَشْدًا
فالطباقات تتوالى (ضيعوا … حفظت ، غيي … رشدا ) ، وما أجمل الشعر بهذه المفارقات والتضادات ، لأن الأذن تأبى الرتابة في الشعر ، تنتظر المفاجآت والتقلبات بضربات قاضية غير مألوفة .
12 – وإنْ زَجَرُوا طَيْرًا بِنَحْسٍ تَمُرُّ بِي****زَجَرْتُ لَهُمْ طَيْرًا تمُرُّ بهِمْ سَعْدَا
المقصود بزجر الطير للنحس والسعد : كان من عادات العرب الجاهليين الجاهلية أن يحتكموا لتحليق الطيور في الإقدام على أمورهم أو الإحجام عنها ، فإن لم يطر الطير ليتيقنوا من وجهته ( يمينًا أو شمالاً ) زجروه ليطير ، فإن طار يميناً استبشروا واحتسبوا ذلك فأل خير وسعد وهو السانح وإن حلق شمالاً ؛ اعتبروا ذلك نحسًا وفأل سوء ، وهو البارح . ومتى ما أرادو النحس لشخص ما زجروا له طيرًا لتحلق شمالاً فيلحقه السوء، ومتى ما أرادوا سعده زجروا له الطير جهة اليمين ليسعد ويكون موفقا.
على العموم في المقطع الثاني ( 8 – 16) ، دلالة تكرار المتضادات ، والمقابلات ، والأسلوب التعليقي الشرطي ، وعلاقة النتائج بالأسباب جلية واضحة في القصيدة، والحق هو بيان الاختلاف والتباين بين صفات الشاعر وأخلاقه وصفات قومه وأخلاقهم ، أما العلاقات ، فالعلاقة بين الشطرين علاقة ( مقابلة ). وهنالك طباقات أخرى تجدونها في الأبيات المتبقية من المقطع كـ (نحس- سعد ، هبطوا – طلعت ، ، يسؤني – يسرهم ، ، بادهوني – لم أكن أبادهم ،، قطعوا – وصلت ) ، وجناسات تامة أو ناقصة ، كـ (زجروا – زجرت ،تمر بي – تمر بهم ، قدحوا – قدحت ، زند – زندا ، بادهوني – أبادهم ).
17 – وَلاَ أَحْمِلُ الْحِقْدَ الْقَدِيمَ عَلَيْهِمُ*** وَلَيْسَ رَئِيسُ الْقَوْمِ مَنْ يَحْمِلُ الحِقْدَا
يبدأ بجملة خبرية منفية في صدر البيت ، والالتفات بعجزه ، ويردُّ عجزه على صدره بتجانس كلمتي الحقد … كأنه يعكس لنا ما قاله عنترة بن شداد ( 525 – 608م ) الجاهلي الذي توفي قبل وفاته بثمانبن عاماً ، وذلك بقوله :
لا يَحمِلُ الحِقدَ مَن تَعلو بِهِ الرُتَبُ ***وَلا يَنالُ العُلا مَن طَبعُهُ الغَضَبُ
مهما يكن ، ثبّت شاعرنا لنفسه الرئاسة على قومه في هذا البيت ، فهو العطوف ، يجيب دعوة المضطر إذا دعاه!! ، لا يحمل الحقد الدفين ، وما ذلك بتكلف منه ولا بتصنعٍ ولا تجمّل ، وإنما هذا طبع العلا والترأس !!
18 – فَذلِكَ دَأبي فـــي الحَياةِ وَدَأبُهُم****سَجيسَ اللَيالي أَو يُزيرونَني اللَحدا
أما هم ويعني بني عمّه ، فشأنهم أن أن يأكلوا لحمي ، ويهدموا مجدي أبد الدّهر ، سجيس الليالي أو ..يقبرونني، وما يُزيرونَني اللَحدا إلا كناية عن دفنه في القبر ، وأخذنا (أو) على اعتبارها عاطفة ، وإذا جعلناها بمعنى إلى أن ، فننصب الفعل المضارع بعدها ، ونحذف النون الأولى ، ةنحرك ياء المتكلم بالفتح ، كما ذكرنا سالفاً في فقرة العروض ، ويصبح المعنى إلى أن يقبروني …!!
على ما يبدو شاعرنا عرف نفسه ذهب زيادة في الهجوم وهجاء أقرب المقربين إليه ، جرّ نفسفه عن المبالغة في صرف أمواله ، وأبدل كلمة ( كلّ) بكلمة ( جلّ) في البيت التالي ، ليقنعنا بمصداقية أقواله :
19 – لهُمْ جُلُّ مَالِي إِنْ تَتَابَعَ لِــي غِنًى*** وَإِنْ قَلَّ مَــالِي لَــمْ أُكَلِّفْــهُمُ رِفْـدَا
وسار على أسلوبه السابق بتشكيل علاقة سبب فنتيجة ، مستعملاً أدوات الشرط ، لهم جُلّ مالي إن توفر لي الغنى ، وإن حاطني العوز ، وأحوجني الفقر ، لا أمدّ يدي إليهم ليرفدوني …إذاً ما هو السبب الحقيقي للحقد عليك ، وغيبتك ، وهدم مجدك …. هل يعني أن طبعهم بشري ، وأنت طبعك ملائكي ؟!!! نحن لا نعطي لهم الحق بالإساءات إليك ، ولكن من حقّنا أن نتساءل ؟ …هل أنت معي يا شاعري الرائع – ، أم تركتني لحالي مدردما حنقا….!!!
ولكن الرجل ضربني بهذا البيت يخبرني بمؤكدين أنه عبد الضيف ، وهو ليس بعبدٍ ولا يشبه العبد إلا في كرمه ، فأخجلني ..اقرأ !! :
20 – وَإِنِّي لَعَبْدُ الضَّيْفِ مَا دَامَ ثَاوِيًـا** وَمَا شِيمَةٌ لِي غَيْرَهَا تُشْبِهُ الْعَبْدَا
عجز البيت نأكيد لصدره ، و(العبدا) مضاف إليه حلّ محل المضاف ، ونصب بنزع الخافض ، وأصل الجملة ( تشبه شيم العبد ) ، فنزعت ( شيم) ، وحلّ العبد محلها منصوباً
الآن ندخل إلى رحاب البيتين الأخرين العجيبين :
21 – – عَلَى أَنَّ قَوْمِي مَا تَرَى عَيْنُ نَاظِرٍ***كَشَيْبِهُمُ شَـيْبًا وَلاَ مُرْدِهِمْ مُرْدَا
22 – بِفَضْلٍ وَأَحْلاَمٍ وَجُودٍ وسُــؤْدُدٍ*** وَقَــوْمِي رَبِيعٌ فِي الزَّمَانِ إِذَا اشْتَــدَّا
البيتان الأخيران على أغلب ظني منحولان عليه ودخيلان ، ولا توجد في جميع المراجع ولا المصادر ، لأنه ينقلب على ننفسه وشعره وأحاسيسه 180درجة ، إذ تذهب – ولا أقول يذهب – إلى النقيض ، إذ حشر الاستدراك ( على أن) بتكلف وتصنع ، وما هكذ كانت الأبيات السابقة ، لا مقابلات ولا طباقات ، وإنما جناسات (كَشَيْبِهُمُ شَـيْبًا وَلاَ مُرْدِهِمْ مُرْدَا) ، ودقق بالمبالغة في المدح ( مَا تَرَى عَيْنُ نَاظِرٍ كــ) … معقول يا مقنع أنت مذبذب ومتقلب هكذا ، في البداية لم نرضَ عليك ولا على قسوتك على بني أبيك وبني عمك …!! ، وفي البيت الأخير أخذ يقسّم ، ويعدد مزاياهم وصفاتهم الصالحة في الفضل والحلم والجود والسؤدد ، ودقق معي – يا صاحبي – في العجز الأخير (وَقَــوْمِي رَبِيعٌ فِي الزَّمَانِ إِذَا اشْتَــدَّا) … الله – أخاف ما ترضى …!!- هذا العجز تختلف لغته عن لغة ذلك العصر ، كأنّي بالمتنبي وهو في شعب بوان الفارسي ، ةمطلع قصيدته :
مَغَاني الشِّعْبِ طِيباً في المَغَاني*** بمَنْزِلَةِ الرّبيعِ منَ الزّمَانِ
وَلَكِنّ الفَتى العَرَبـــيّ فِيهَا***** غَرِيبُ الوَجْهِ وَاليَدِ وَاللّسَانِ
إنّا لله وإنّ إليه راجعون ….اقرأ الخاتمة رجاءً ، ولم ألتفتُ فيها لهذين البيتين الأخرين …!!
ج – الخاتمة :
لماذا – يا سيدي الكندي – يريد بنو أبيك وبنو عمك أكل لحمك ، وهدم مجدك ، وهم بطاء إلى نصرك ، ويزجرون الطير لنحسك ، ويحفرون قبرك ، ويأخذون جلّ مالك ويحقدون عليك وظلمك ،إذا كنت تتمتع بكل هذه الصفات أو النعوت التي صدعت رأسنا بها ورأسك ؟!
أليس أيها المقنع بالرياء والكذب من حقنّنا أن نتساءل مثل هذه الأسئلة الساذجة ؟!!
الحقُّ أنني لا أصدّقك ، وفي شكّ من أمرك ، من يومي إلى يومك …!!
والسبب بسيط لأنني لم أسمع وجهة نظرك غيرك من أهلك…!!
ثم كيف خلّدت هذه القصيدة؟ ولماذا؟!!!
ببساطة القول لأن كل إنسان يرى نفسه مظلوماً حتى من أقرب الناس إليه ، ولا يرى نفسه ظالماً ، وأنا مع المتنبي العظيم وقوله :
والظّلمُ من شيم النفوس فإنْ ترى *** ذا عفّةٍ فلعلّة لا يظلم ُ
ولهذا قيل:
احذر عدوّك مرّة ****واحذر صديقك ألف مرّة
فلربّما انقلب الصّــديقُ ، فكان أعرف بالمضرّة
نعم خلّدت لأن كل واحد منّا يلبس رداء الضحية والمظلومية ..!!
” وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ”
د – معاني بعض الكلمات الواردة في القصيدة:
الإقتار: ضيق العيش، والفقر.
أخلـُّـوا : قصَّروا وأنقصوا ، ولم يؤدوا على وجه التمام .
ثغور : الفتحات التي ينفذ منها العدو عادة.
مكلَّلة : أي عليها من اللحم مثل الأكاليل.
والدفق: الصبّ.
النهد: الفرس القوي العظيم العتيق الكريم . جعلته حجاياً لبيتي: إنه نصب عينيه خدمة الضيوف.
مدفقة : أي مملوءة. والأحسن أن يروى معه: (ثرداً) بضم الثاء. ويروى (مدفقة ثردا) بفتح الثاء. والمراد مثردة ثرداً دقيقاً. والنهد: الجسم المشرف من الخيل.
الْجَفْنَة : الْقدح الْعَظِيم ومكللة أَي عَلَيْهَا من اللَّحْم مثل الأكاليل والمدفق من الدفق وَهُوَ الصب وكنى بِهَذَا عَن الامتلاء والثرد جمع ثريد وَهُوَ مَا يتَّخذ من كسر الْخبز والمرق.
زجروا : أزعجوا وأفزعوا .
نحس : الشر والضر والخسران .
سعدا : الخير واليمن والتوفيق والسعادة.
يُزيرونَني : و زيّر يُزِّيِّر موجودة في اللهجة المغربية والجزائرية و تعني لفّ الشيء و و ربطه، على أغلب الظن الشاعرَ يعنيه من بيته أنهم سيلفونه باللحد و هو حفرة القبر، و هذا كناية عن الدفن.
جاء في لسان العرب التالي: الزِّيارُ: ما يُزَيِّرُ به البَيْطارُ الدابة، وهو شِناقٌ يَشُدُّ به البيطارُ جَحْفَلَةَ الدابة أَي يلوي جَحْفَلَتَهُ، وهو أَيضاً شِناقٌ يُشَدُّ به الرَّحْلُ إِلى صُدْرَةِ البعير كاللَّبَب للدابة.
سَجيسٌ صِيغَة فَعيل من ( سَجَسَ) : لاَ أَفْعَلَهُ سَجيسَ اللَّيالِي والأَيَّامِ ، سَجيسَ الدَّهْرِ لا أَفْعَلهُ أَبَد.اً
جل : معظم.
. رفدا : العطاء والصلة
الدأب : العادة والشأن.
……………………………………………………..
تاسعاً – المراجع والمصادر :
1- الأغاني : أبي الفرج الأصفهاني – ج 17 – 111 – 114 – دار الفكر – بيروت – ط 2 – تحقيق سمير جابر .
2 – شرح ديوان الحماسة المؤلف: أبو على أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الأصفهاني (المتوفى: 421 هـ) المحقق: غريد الشيخ وضع فهارسه العامة: إبراهيم شمس الدين الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان الطبعة: الأولى، 1424 هـ – 2003 م 1/ 828 – 833 .
3 – التذكرة الحمدونية : ابن حمدون – موقع الوراق (1/141) – الموسوعة الشاملة .
http://www.alwarraq.com
4 – الموسوعة الحرة – ويكيبديا – المقنع الكندي .
ومراجعها :
أ – لغتي الخالدة: الفصل الأول/ وزارة التعليم-الرياض، 1430هـ
www.alukah.netالمقنع الكندي” “ب –
.2009-10-08. اطلع عليه بتاريخ 20 أكتوبر 2016
ج – هاشم الأعلام ح6، ص320 .
د – المقنع الكندي”.
Al- Hakawati”. al-hakawati.net
. اطلع عليه بتاريخ 20 أكتوبر 2016
5 – الأعلام : خير الدين بن محمود بن محمد بن علي بن فارس، الزركلي الدمشقي (المتوفى: 1396هـ) -ج 6 / 319 – 320 – دار العلم للملايين الطبعة: الخامسة عشر – أيار / مايو 2002 م.
ويهمش صاحب الأعلام عن المراجع والمصادر التي تناولت المقنع الكندي بالآتي :
– البيان والتبيين 3: 53 والتبريزي 3: 100 والشعر والشعراء 284 والمرزباني 406 والتاج: مادتا قنع، وفرع. والوافي بالوفيات 3: 179 والأغاني 15: 157 وسمط اللآلي 615 والحيوان: انظر فهرسته. وفيه كثير من شعره. والمرزوقي 1178 و 1734 وتاريخ الشعراء الحضرميين 1: 49 وفيه: (ولد نحو 65 هـ ومات نحو 128) وكلا التاريخين خطأ، ففي الأغاني، طبعة الدار 6: 211 أنه (كان ممن يرد مواسم العرب مقنعا) وكان شعره، وقد سار وتناقله الرواة، مما أنشد بين يدي عبد الملك بن مروان، وعبد الملك مات سنة 86 هـ فلو قدرت وفاته، لا ولادته، نحو سنة 65 لكان أدنى من الصواب.
(6 – بهجة المجالس وأنس المجالس – ابن عبد البر – (1/166
موقع الوراق – الموسوعة الشاملة. ومما جاء فيه :
واسمه محمد بن عمير بن أبي شمر الكندي ، وكان من أجمل أهل زمانه وأحسنهم وجها ،وأتمهم قامة ، فكان إذا كشف وجهه يؤذى ،فكان يتقنع دهره ، فسمي لذلك : المقنع. وشعره هذا من أحسن ما قيل في معناه جزالة ونقاوة وسباطة وحلاوة.
7 – الإمتاع والمؤانسة : أبو حيان التوحيدي – ( 1 / 69) – موقع الوراق – الموسوعة الشاملة.
8 – لباب الآداب: أسامة بن منقذ – موقع الوراق – 1 / 106 – الموسوعة الشاملة.
ومما جاء فيه :
بليغ العتاب
قول المقنع الكندي
يعاتبني في الدين قومي، وإنما **** ديوني في أشياء تكسبهم حمدا
…… عدّة أبيات من قصيدته ، ويواصل ( بليغ العتاب):
ما بين قول المقنع الكندي: (يُعَاتِبُنِي فِي الدَّيْنِ قَوْمِي…)، وبين قول الأسيدي : (ملأت كفيه من صفحٍ ومن كرمٍ) ، ننهي بحثنا ، ولله في خلقه شؤون ، وأنا الممنون …!!!
(9) – البناء القيمي في دالية المقنع الكندي – د. محمد حسين العبيدي – موقع النور – بتاريخ 26 / 6/ 2012م. نظر بتاريخ 28 / 5 / 2018م .
(10 ) – شعراء أُمويون : د. نوري حمودي القيسي – عالم الكتب – بيروت – ط 1 – 1 / 1 / 1985 م.
كريم مرزة الأسدي
ملاحظة : هذا البحث كتبته في أسبوع بجهدٍ متواصل ، يعني في السنة أنشر نيفاً وخمسين نصّاً أدبياً ما بين بحث مفصلٍ ، أو مقالة موسعة ، أو قصيدة مطولة ، ليس لغرض ترقية علمبة ، أو مصلحة مادية ، وإنما خدمة لأدبنا وتراثنا ولغتنا الجميلة ، وللأجيال والأمة ، لذا أعتذر عن أي سهوٍ ، أو خطأ مطبعي ، والكمال لله وحده :
على المرء أن يسعى بمقدار جهدهِ **** وليس عليه أن يكون موفقا
ولله الأمر من قبلُ ومن بعدُ .