23 ديسمبر، 2024 5:12 ص

المقدس/ الجزء الخامس

المقدس/ الجزء الخامس

فشل القوميون في قيادة الامة كان بسبب انهم برغم ايمانهم بهوية قوية واحدة، وهي العروبة، لم يكونوا تحرريين ديمقراطيين، وحولتهم ثوريتهم وايمانهم القوي بعروبتهم مع توافر ظروف المنافسة الشديدة في منتصف القرن الماضي من قوى اليسار ونشاطها المتصاعد، اضافة الى الصراع القائم بين الشرق والغرب ومحاولة كل قطب مد نفوذه قدر الامكان الى مناطق قريبة من الطرف المنافس، حولتهم الى محبين للسلطة، وبراغماتيين فيما بعد للاحتفاظ بها مما ادى الى فشل كل مشاريعهم الوحدوية، ثم حجروا الدين وحاربوا رجاله ولم يتمكنوا من اقامة صلة وثيقة وصحيحة بينهم وبين المؤسسات والقيادات الدينية الاجتماعية..
في مصر كما في العراق كان الانتماء للتيارات الدينية عقوبته الاعدام، ولكن القوميين في مصر كانوا اكثر ذكاءا اذ احتفظوا بعلاقة متوازنة مع مؤسسة الازهر فيما ضيقوا الخناق على كل من يحاول الخروج عنه وعن خطه او التبعية له، مع ان أغلب الحركات السلفية والمتشددة كانت تبدأ وتنطلق اما من الازهر او من خلال بعض مشايخه، ولكن السلطة في مصر والمصريين جميعا استفادوا من تلك العلاقة حين دعتهم الحاجة الى الحصول على دعمه كما حصل بعد سيطرة الاخوان المسلمين على السلطة في مصر، اما في العراق فان القوميين حجروا على المؤسسة الشيعية المتمثلة بمرجعية النجف، وتعاملوا معها بفوقية واهمال واعتبروها جزءا من صراعهم السياسي الذي تحول فيما بعد الى صراع طائفي برز بشكل واضح اثناء الحرب مع ايران، وفيما بعد ونتيجة للتطورات التي حصلت بعد محاولة استعادة الكويت والحصار الاممي الاميركي الذي فرض على العراق، وعدم قدرة القيادة العراقية على التعامل مع الظرف ومنح الشعب فسحة للتنفيس عن نفسه وطرح مشاكله، مع ان صدام حسين كان قد انتبه الى ذلك ولم يكن قد فات الاوان بعد ، اذا يتذكر الجميع خطابه بعد الانسحاب مباشرة من الكويت الذي وعد فيه بتحقيق قدر من الديمقراطية والتخلي عن سياسة الحزب الواحد، الا ان تلك الوعود لم تكن سوى كلام لاشاعة الهدوء في بلد كان يسير على الجمر، ثم توسعت التحديات وتوسع الصراع ليصبح ذا اوجه متعددة، صراع بين الشعب والعالم وصراع بين الشعب وقيادته التي حملته اكثر من طاقته، وصراع اخر داخل المجتمع تقوده ضد السلطة المؤسسة الدينية الشيعية التي وجدت نفسها محاطة بالفقراء والعاطلين واليائسين لتكون هي خيارهم الاخير المتوفر لايجاد حلول لمشاكل استمرت بالتفاقم والتطور..
ولنعد مرة اخرى لنسأل، هل ماجرى كان من اختيارنا، في العراق وايران مثلا، هل الحرب عام 1980 كانت خيارنا او خيار الايرانيين، سواء كان الخميني من خطط وامر بالحرب او صدام حسين او ان هناك قوى اخرى خططت واغرت ودفعت للحرب، فانها في كل الاحوال ليست خيار الشعب العراقي او الايراني، والامر ينطبق على العراق والكويت ايضا، وبعد ذلك لم يكن الاحتلال الاميركي خيارنا للتخلص من صدام، ومبررات ان لا امل بالتخلص منه الا بالاستعانة بقوى خارجية غير مناسب تماما لشعب كافح وناضل طويلا للتخلص من الاستعمار البريطاني، ونفس الصورة تنطبق على الليبيين، ولعل المضحك المبكي في الوضع العراقي والليبي تحديدا هو ان حتى اختيار البديل وليس الاداة او الوسيلة للتخلص من سلطتهما لم
يكن باختيارهما، والى اليوم وبعد ثلاثة عشر عاما من احتلال العراق لم يتمكن العراقيون من الاختيار بحرية حاكميه وممثليه، ولن يتمكن على مدى السنوات القادمة من ذلك ما لم تتغير وبقوة وبوضوح ظروف واوضاع المنطقة ككل.. تكرار الاخطاء اذن عبر قرن مضى مازال متواصلا، النضال ضد الاستعمار البريطاني ثم الاستعانة بهم للتخلص من الحاكم، حرب ضد ايران ثم الاستعانة بها في حروب داخلية اهلية، وماذا سيجدث لاحقا؟.. من الطبيعي ان يبدأ النضال مجددا للتخلص من كل هذه الاخطاء والمسارات غير الصحيحة في حياة الشعوب، ولكن بمن سنستعين من اجل ذلك؟..
في عالم الغد، ليس من السهل تماما التخلص من الاحتلال الاميركي الذي اخذ شكلا عنكبوتيا في السيطرة على البلاد، غير انه لن يبقى للابد مثلما لم يستمر الاستعمار البريطاني سابقا، ولكنه سيتخذ اشكالا اخرى يحافظ فيها دائما على وجوده وهيمنته، ولعل دول الخليج مثالا على طبيعة الاشكال التي يمكن ان يتخذها، اضافة الى ان العراق رغم تخلصه من الاستعمار البريطاني عام 1958 الا انه احتاج الى اربعة عشر عاما وتحت قيادة ثورية وفي ظروف الصراع بين الشرق والغرب للتخلص من الاستعمار بشكله الاقتصادي، وهذا يقودنا مرة اخرى الى التساؤل ثانية عن الخيارات المتاحة للشعب الذي يعيش حالة من الاختناق والتمزق والخيبة والفشل بعد تجربتي القوى القومية ومن ثم الاسلام السياسي؟.. واذا كان الشعب قد لجأ في فترة الحكم القومي الى الاسلام السياسي فالى اية جهة اذن سيلجأ حين يكون الاسلام السياسي هو مشكلته ومأزقه اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا؟..
الشيء الذي يمكن تاكيده الان هو وجود الفراغ، عامة الناس وبسطاءه ليسوا هم المعنيين بهذا الفراغ، انما مايمكن تسميته بالطليعة او بالتنويريين هم الاساس في هذه القضية، وقبل سيطرة القوى القومية لم يكن عامة الناس قوميين، ولكن حين اعتلى القوميون السلطة اندفع العامة بمشاعرهم نحو القومية وكثر حديثهم عن فلسطين وشاركوا باندفاع وتضحية في الحروب ضد اسرائيل، وهكذا اليوم عامة الشعب تندفع وتتدافع لاظهار شعورها الديني والمذهبي بسبب تسلط الاسلاميين، واختفى الحديث عن فلسطين وعن العروبة بل انه تحول الى تهمة او لعنة او تهكم وسخرية في ابسط الاحوال، ولكن تبقى حركة التغيرات الاجتماعية الكبرى مرهونة بالطليعة، وللاسف فان الطليعة في العراق وبلدان عربية اخرى لم تجد طريقها بعد او انها اسيرة امجاد أو عقد الماضي، فلم تتمكن في العراق مثلا من بلورة رؤى واضحة لكيفية النفاذ من الحصار الفكري المفروض والمرتبط بعقد اجتماعية عميقة، ولنأخذ امثلة يمكن تناولها، الفكر اليساري المتمثل بالحزب الشيوعي محجور عليه ولايمكن التوقع بنموه لاسباب تتعلق بفشل الشيوعية في العالم وانسحابها الى الخلف وايضا بسبب الشعور الديني العالي والاشاعة الشعبية الساذجة السارية وهي انه مع الالحاد وضد الدين، والفكر القومي تحول بسبب قانون اجتثاث البعث والمد الطائفي والصراع بين ايران والسعودية الى تهمة تقارب الانتماء الى الارهاب، اما اوضح صورة لفشل الطليعة في العراق فهي الاحتجاجات والتظاهرات المستمرة منذ ما يقرب عن عشرة اشهر، دون ان تتمكن من خلق قيادة موحدة تتمكن من ادارة الصراع بينها وبين السلطة الحاكمة، وغياب القيادة جعل من التظاهرات عملا مترهلا ومملا وروتينيا، واتاح لمقتدى الصدر وهو واحد من عناوين السلطة وجزء من المشكلة، قيادتها وحرفها عن طريقها الصحيح وتحويلها الى لعبة والى مطالب باهتة غبية لا ولن تقدم ما هو مطلوب لاعادة العراق الى طريقه الصحيح او في الاقل اعادة هويته الممزقة، وغياب القيادة هنا ليس مرتبطا فقط بعدم قدرة الطليعة على
خلقها انما مرتبط اساسا بالفساد الشائع وبالانتهازية وبفقدان الثقة داخل النسيج الاجتماعي العراقي وهذا واحد من اهم المشاكل التي خلقتها الاحزاب الاسلامية ضمن نطاق التمزق الطائفي القائم حاليا، وهذا الفراغ الذي نعيشه حاليا سواء بعدم نضوج الفكر القادر على ايجاد حلول للتحديات او بفقدان القيادة الطليعية هو الذي دفع الكثير من البسطاء وحتى بعض المثقفين ممن ليسوا من اتباع الصدر الى التطلع الى شخصيته وبناء امال خادعة من ان بامكانه تحقيق شيء ما من شانه تغيير الواقع المتردي في البلاد..
الامر الاخر الذي يجب الاشارة اليه هو ان الحكم الديني محكوم عليه بالفشل مقدما، سواء اخذ فرصته في السلطة ام لا..
يتبع [email protected]