23 ديسمبر، 2024 5:11 ص

المقاومة الشعبية ضد انقلاب 8 شباط 1963

المقاومة الشعبية ضد انقلاب 8 شباط 1963

ما أن أذيع البيان الأول لانقلاب 8 شباط 1963 صبيحة ذلك اليوم.. حتى اندفعت جماهير واسعة.. من مختلف القطاعات.. خاصةً طبقاتها الفقيرة والكادحة.. قدرت بعشرات الآلاف.. حسب تقدير القيادي ألبعثي هاني الفكيكي في كتابه (أوكار الهزيمة).. إلى الشوارع والتظاهر ضد الانقلاب وسلطته في مختلف مناطق بغداد: الكاظمية.. والشعلة.. والكريمات. والشاكرية.. في جانب الكرخ.. وفي باب الشيخ.. وعكد الأكراد.. والثورة.. والكرادة الشرقية.. وشارع الرشيد.. وغيرها في الرصافة .. بالإضافة إلى انطلاق التظاهرات الجماهيرية في أغلب المدن العراقية.. بحيث أذهلت قيادة الانقلاب.. حيث يقول القيادي ألبعثي ووزير خارجية الانقلاب طالب شبيب: (فعند اندلاع الثورة في 8 شباط.. واجهنا مقاومة شديدة.. وانكشف لنا وجود تنظيم شيوعي واسع داخل الجيش وخارجه).
كما أن بعض جنود ومراتب سائقي دبابات الانقلابيين حاولوا بطريقتهم عرقلة الانقلاب.. فيذكر الضابط القومي ووزير بلديات الانقلاب محمود شيت خطاب: (وكان سواق أكثر الدبابات من الجنود.. موالين لقاسم.. فكان الضابط المسؤول عن الدبابات يأمر السائق بالسير.. والسائق يتغنى: (عاش الزعيم عبد الكريم ).. و(ماكو زعيم إلا كريم ).. الخ.. ومن الصدف أن قسماً من الضباط المسؤولين عن الدبابات كانوا يحملون مسدسات صغيرة.. لكن بلا عتاد!! فكانوا يصوبون مسدساتهم إلى السواق لحملهم على التقدم إلى هدفهم.
وحدث أن أكثر من سائق من سواق الدبابات.. صدموا دباباتهم بالأبنية (كما حدث مع الدبابة التي احتلت المرسلات في أبو غريب.. وعطلت الكهرباء بصورة مؤقتة).. فتوقفت عن الحركة وسقط الضابط فاقداً الوعي ومضرجاً بدمائه.. وقتل السائق فوراً.. لأن السائق من أنصار عبد الكريم قاسم.
ومنذ سماع بيانات الانقلابيين توجهت الجماهير إلى محطة الإذاعة والتلفزيون في الصالحية.. وتم تطويق المحطة من قبل الجماهير ومحاولة احتلالها.. وبعد حوالي ساعة وصلت ثلاثة دبابات.. وعلى مقدمتها صور الزعيم عبد الكريم قاسم.. ففسحت الجماهير المحتشدة الطريق لها.. وما أن استقرت في الأماكن المخصصة لها.. حتى بدأت برمي الرصاص على الجماهير.. فوقعت بينهم خسائر فادحة.. وبقيت المناوشات قائمة ضدهم أمام الإذاعة إلى عصر يوم التاسع من شباط.
حتى الطيارين عندما كانوا يغيرون على وزارة الدفاع.. ويمرون أولا على جانب الكرخ.. وبالذات الكريمات والشواكة.. يشاهدون أهالي المحلتين يقفون على النهر ينظرون للقصف.. فيصلونهم بالرشاشات.. لأنهم يعلمون إن أهالي المنطقتين من مؤيدي الزعيم عبد الكريم قاسم.
كذلك هبت جماهير من مختلف مناطق بغداد.. وتجمهرت أمام وزارة الدفاع للمطالبة بالسلاح للدفاع عن ثورة 14 تموز.. وكانت الجماهير تلح في طلب السلاح.. الذي كان يعوزها.. لكن الزعيم عبد الكريم قاسم رفض تزويدها بالسلاح.. لأنه لم يكن رغباً في إسالة أنهار من الدماء.. وقيام حرب أهلية.. كما كان يردد آنذاك.
بقيت الجماهير تعمل جاهدة على منع قوى الانقلابيين المهاجمة.. من الوصول إلى وزارة الدفاع.. حتى إنها هجمت على الدبابات من الخلف.. وقتلت بعض أطقمتها في داخلها.. ولم تستطع الدبابات الأخرى من الوصول إلى الوزارة.. إلا بعد أن خدعت الجماهير المحتشدة.. بلصق صور الزعيم على واجهتها والهتاف بحياته.. ففسح المجال لها بالمرور.. وما أن استقرت أمام باب الوزارة.. حتى صبت نيرانها على الكتل البشرية المحتشدة أمام الوزارة لتفريقهم.. بعد أن أوقعت فيهم خسائر كبيرة.. ومن ثم توجيه نيرانها نحو وزارة الدفاع.
أما المقاومة الشديدة التي أبدتها جماهير عكد الأكراد في شارع الكفاح.. فكانت ملحمة.. برغم من إن السلاح كان شحيحاً.. والجميع بانتظار الحصول عليه في غمرة الاشتباك مع قوات الانقلابيين.. وهكذا كانوا مستعدين للمعارك بالمعاول والأيدي.
وأحاطت دبابات الانقلابيين بعكد الأكراد القريب من منطقة باب الشيخ.. لمنع وصول جماهير مدينة الثورة لإسناد المقاومة.. وكانت خطة الانقلابيين تقضي بإنهاء المقاومة بأسرع وقت ممكن.. دون الالتفات إلى عدد الضحايا.. واعتمدت على القصف العشوائي المكثف.. واقتحام مناطق المقاومة.. وإنارة المنطقة المحيطة لكي يصعب التسلل منها وإليها ليلاً.. وأخيراً اقتحمت العصابات المسلحة للانقلابيين في 10 شباط 1963 حي الأكراد بروح انتقامية فاشية.. انتهكت جميع الحرمات والمحرمات.. وتحولت سينما الفردوس الواقعة في ساحة النهضة إلى معتقل لأبناء المنطقة.

موقف الانقلاب من الشيوعيين:
لم يفاجئ انقلاب 8 شباط 1963 أحداً.. فقد كانت كل الشواهد تدل على أن البلاد ستواجه أحداثاً خطيرة.. بل أن هناك مؤامرات للإطاحة بحكومة عبد الكريم قاسم.. وتصفية الحزب الشيوعي العراقي.. وهذا ما كان.. فعندما تقدمت دبابات الانقلابيين الى وزارة الدفاع.. وجدت نفسها وسط تظاهرة كبيرة أعدها الحزب الشيوعي.. فأحاط بها المتظاهرون. وصعدوا عليها وفتحوا أغطيتها.. وهرب من هرب من طواقمها.. وقتل من قتل.. وكان المتظاهرون يهتفون بحياة الزعيم عبد الكريم قاسم (ماكو زعيم إلا كريم).. ويرفعون صوره.. مما أدى بالضباط الآخرين من الانقلابين الى وضع صور الزعيم على دباباتهم.. وأخذوا يحيون الجماهير.. ويهتفون بنفس هتاف الجماهير.. ففسحت الجماهير الطريق للدبابات للمرور.
لقد أُزهق الانقلابيون أرواح أنبل أبناء الشعب العراقي.. وأكثرهم طاقة وخبرة وشعوراً بالمسؤولية تجاه الشعب والوطن.. لقد كان تصفية قائد القوة الجوية جلال ألأوقاتي.. عند خروجه من بيته في كرادة مريم صبيحة يوم 8 شباط 1963.. ففي ساعة الصفر قامت مفرزة من الحرس القومي مكلفة بذلك بعمل دورية حول داره في كرادة مريم.. وبعد خروجه من داره الكائنة في كرادة مريم.. وفي احد الشوارع الفرعية القريبة من داره حوصر من قبل مجموعة.. مما أدى الأمر به الى ترك سيارته.. فقامت المجموعة المنفذة بفتح النار عليه وقتله في الحال.. وبهذا استطاع البعث التخلص من احد أقطاب السلطة المهمين.. الذي لو قدر له البقاء لكان له تأثيراً كبيراً في تغيير موازين القوى لصالح سلطة عبد الكريم قاسم.

وفي مدينة الكاظمية نجحت جماهير واسعة.. بقيادة هادي هاشم ألأعظمي عضو سكرتارية الحزب الشيوعي.. والمقدم المتقاعد خزعل السعدي.. عضو القسم العسكري في هذا الحزب.. وحمدي أيوب العاني عضو لجنة بغداد للحزب.. واستطاعوا الاستيلاء على بعض مراكز الشرطة.. وشرطة النجدة.. ووزعت أسلحتها على المتطوعين.. وأحكمت سيطرتها على المدينة.. وظلت تقاوم الانقلاب مدة ثلاثة أيام.. ولم تتم السيطرة عليهم.. إلا في مساء اليوم العاشر من شباط،.. بعد نفاذ ذخيرتها.. وعدم قدوم النجدات المتوقعة.. وضعف قدراتها وإمكانياتها في مقاومة قوات الجيش المزود بالدبابات والمدفعية.. التي بواسطتهما تمكن الانقلابيون من السيطرة على المدينة.

بيان رقم 13 صادر من الحاكم العسكري العام:
وإزاء المقاومة الجماهيرية الواسعة ضد الانقلاب.. أعلن الانقلابيون بيانهم السيئ الصيت (رقم 13).. الذي دعوا فيه إلى إبادة الشيوعيين..ومما جاء فيه:
(نظراً للمحاولات اليائسة للعملاء الشيوعيين.. شركاء عدو الكريم !!.. في الجريمة.. لزرع الفوضى في صفوف الشعب.. وتجاهلهم للأوامر والتعليمات الرسمية.. فقد كُلف قادة الوحدات العسكرية.. والشرطة والحرس القومي بالقضاء على كل من يعكر صفو السلام.. وإننا ندعو أبناء الشعب المخلصين إلى التعاون مع السلطات بالإعلام عن هؤلاء المجرمين.. وإبادتهم).

حركة قيادة الحزب الشيوعي:
فيما سارع سكرتير الحزب الشيوعي العراقي حسين الرضي.. (سلام عادل) بالاتصال مع من أمكن الاتصال به من أعضاء اللجنة المركزية للحزب في بغداد.. ومن قادة منظمة بغداد لتحديد الموقف من الانقلاب.. وقد توصل المجتمعون بالإجماع: الى إن الانقلاب لا يستهدف عبد الكريم قاسم وحكومته وحدهم.. وإنما يستهدف كذلك ضرب الحركة الشيوعية في العراق والقضاء على الحزب الشيوعي.. لذا اجمع الحاضرون على ضرورة مقاومة الانقلاب.
اتصل سلام عادل بكامل الجادرجي زعيم الحزب الوطني الديمقراطي.. ومحمد حديد رئيس الحزب الوطني التقدمي.. واستفسر عن موقف حزبيهما من الانقلاب.. وعما إذا كانوا سيقاومون الانقلاب.. فأكدا معارضتهما للانقلاب.. لكنهما اعتذرا عن المشاركة في المقاومة لضعف إمكانية حزبيهما.
كما اتصل (سلام عادل) بعبد الكريم قاسم الذي قال له إننا أخطانا مع الشيوعيين.. وقدم له الاعتذار قائلاً له: بأنه سيضعهم في المكان المناسب.. واعداً بمعالجة الأخطاء التي ارتكبت بحق هذا الحزب.. لكنه لم يستجب لطلب سلام عادل بتوزيع الأسلحة على الشيوعيين وأصدقائهم وللجماهير المحتشدة أمام وزارة الدفاع.
اصدر الحزب الشيوعي بياناً في صباح يوم الانقلاب بخط سلام عادل.. تم توزيعه باليد.. ولصقه على الجدران.. وان يتلى على جموع الناس حيث تحتشد.. ومما جاء فيه:
(الى السلاح لسحق المؤامرة الاستعمارية الرجعية.. أيها المواطنون.. يا جماهير شعبنا المجاهد العظيم.. أيها العمال والفلاحون والمثقفون وسائر القوى الوطنية والديمقراطية.. قامت زمرة تافهة من الضباط الرجعيين المتآمرين بمحاولة يائسة بالسيطرة على الحكم تمهيداً لإرجاع بلادنا.. الى قبضة الاستعمار والرجعية.
الى الشوارع يا جماهير شعبنا الأبي المجاهد.. لكنس بلادنا من الخونة المارقين.. الى السلاح للدفاع عن استقلالنا الوطني.. الى تشكيل لجان للدفاع عن استقلالنا الوطني في كل معسكر وفي كل محلة ومؤسسة.. وفي كل قرية.. إننا نطالب الحكومة بالسلاح.. فإلى الأمام.. الى الشوارع.. الى سحق المؤامرة والمتآمرين).
ـ كما وجه سلام عادل نداءً آخر جاء فيه: (ضعوا أيديكم على أسلحة مخافر الشرطة أو أي مكان آخر.. وهاجموا المتآمرين مخالب القط الأمريكي.. الى السلاح.. بادروا بالهجوم في كل جزء من بغداد والعراق لسحق المتآمرين عملاء الامبريالية).
ـ فيما تعرض العسكريون الشيوعيون الى الاعتقال والقتل نتيجة لالتحاقهم بمعسكراتهم بناء على توجيه من الحزب.. لأنهم لا يعرفون كلمة السر التي تبيح لهم الدخول الى معسكراتهم التي فرضها الضباط البعثيون.. بالإضافة الى عدم التكافؤ بين قوة المقاومة وقوة الانقلابيين العسكرية والمدنية المتمثلة بالحرس القومي.. كما إن الحرس القومي لجأ الى دور السكن فأباد اسر بكاملها واغتال المئات من الشيوعيين.
لقد ارتكب الانقلابيون جرائم لا توصف.. فاقت جرائم هولاكو وهتلر.. فالبعثي السابق حسن العلوي الذي ساهم في انقلاب 8 شباط.. وكانت يداه ملطخة بدماء الوطنيين.. كتب بعد عشرين عاماً عن تلك الإحداث الدامية.. في كتابه “عبد الكريم رؤيا بعد العشرين” ص 71: (إن حكومة 14 رمضان تدرك جيداً.. وهي تعرف المقاتل كما تعرف الوصولي والانتهازي.. لهذا فقد خططت لاغتيال جلال الأوقاتي.. قائد القوة الجوية.. وتركت الحاكم العسكري العام حياً.. وقررت إعدام عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) كاتب العمود اللامع في جريدة “اتحاد الشعب” يوم كان بعيداً عن حكومة قاسم.. وأطلقت سراح عبد الرزاق البارح الكاتب ألقاسمي الذي ارتبط اسمه بمقالات نارية كتبها ضد البعثيين والشيوعيين.. وأُعدم نقيب المحامين توفيق منير الذي لا يجيد استعمال السلاح على سطح منزله.. بعد أن حولوا سطح منزله الى ساحة قتال.. بينما أُطلق سراح قائد الفرقة الأولى.. المعروف بموالاته لقاسم بكل نجومه وسيوفه وتيجانه).
لم يشبع نهم البعثيين مئات الشيوعيين وسائر الوطنيين الذين سقطوا دفاعاً عن ثورة الرابع عشر من تموز.. يوم انقلابهم المشؤوم.. فقد بادروا بعد أن أستتب لهم الأمر إلى شن حملة اعتقالات واسعة شملت العراق.. من أقصاه إلى أقصاه.. مستخدمين حرسهم القومي.
وهكذا جرى الهجوم الكاسح على الشيوعيين.. وكل من يحمل فكراً ديمقراطياً تقدمياً.. وشملت الاعتقالات الآلاف من الوطنيين.. وكانت أفواج الحرس القومي تداهم البيوت.. في الليل والنهار بحثاً عن كل من يمت بصلة إلى الديمقراطيين والشيوعيين والقاسمين ..ولم يجنوا منهم حتى الفتية والأطفال.

كل الأماكن معتقلات للشيوعيين:
ونظراً لكثرة المعتقلين.. فقد استخدم الانقلابيون الملاعب الرياضية.. ودور السينما.. والنوادي الاجتماعية والثقافية.. والدور السكنية كمعتقلات.. ومارسوا فيها أبشع أنواع التعذيب والقتل.. وتقطيع الأطراف.. وقلع العيون.. والأظافر.. كل ذلك جرى بموجب قوائم أعدت سلفاً بأسماء الشيوعيين.. ومؤيديهم من قبل المخابرات المركزية الأمريكية.. وكانت إذاعة تابعة للمخابرات المركزية الأمريكية تبث من الكويت.. تذيع أسماء وعناوين سكن الشيوعيين المعروفين.. لغرض اعتقالهم وتصفيتهم من قبل الانقلابيين.

جرائم الإبادة الجماعية:
كان المقدم صالح مهدي عماش (أحد قادة الانقلاب) حاقداً على الشيوعيين والديمقراطيين والقاسمين بشكل لا يوصف.. فقد صفى مئات من الضباط منهم.. وعلى الرغم من منع تنفيذ عقوبة الإعدام من دون موافقة مسبقة من قيادة البعث كما يقول طالب شبيب القيادي ألبعثي.. فان عماش استمر في مجازره وإعداماته مستغلاً سفر بعض القياديين.. وعند عقد اجتماع للقيادة يحرجنا عماش كما يقول شبيب بتقديم قوائم لمعتقلين أعدمهم مسبقاَ.. ويطلب التصديق على إعدامهم.. فقد نفذ بأمر منه مجزرة معسكر الرشيد في 10 شباط 1963.. وكرر الحالة ثانية بإعدام العديد من الضباط والمراتب الشيوعيين بعد فشل محاولتهم الانقلابية.. التي قادها نائب الضابط حسن السريع في الثالث من تموز 1963.. وخلال لقاء الوفد الرسمي العراقي الرئيس جمال عبد الناصر في القاهرة بعد الانقلاب بأسبوعين.. قال عماش متباهياً للرئيس عبد الناصر إنهم (اعتقلوا أكثر من 800 ضابط موالي لقاسم في أول يوم للانقلاب.. منهم (150 طياراً) لدرجة إن أسراب الطائرات بقيت بدون طيارين.. وأضاف عماش قائلاً: (ودمرنا سرب طائرات ميك 19 في معسكر الرشيد ببغداد.. خوفاً من سيطرة الشيوعيين عليه.. وقتلنا عدداً كبيراً منهم في أول يوم الانقلاب)!
وإزاء الوضع الداخلي وبحر الدماء والوضع الدولي أصدر الحاكم العسكري للإنقلاب أمراً بعدم جواز بقاء الموقوفين لدى الحرس القومي.. ووجوب إرسالهم إلى السجن بالنسبة للمدنيين.. وإلى سجن رقم واحد.. بالنسبة للعسكريين.. لكن البعثيين وحرسهم القومي لم يلتزموا بهذا الأمر.. وبعد أن أتمت لجانهم التحقيقية عملها.. أحيل المعتقلون إلى المجالس العرفية التي شكلوها.. والتي بدأت بمحاكمتهم.. وإصدار الأحكام القاسية بحقهم.. فأرسلت أعداداً كبيرة منهم إلى المشانق.. أو الإعدام رمياً بالرصاص.. وبالآلاف منهم إلى السجن.. محملين بأحكام الطويلة تراوحت بين السجن لمدة ثلاث سنوات.. والسجن المؤبد.

إعادة محاكمة السجناء:
لم يكتفِ الانقلابيون بذلك.. بل أعادوا محاكمة السجناء السابقين.. الذين حكمتهم المجالس العرفية في عهد عبد الكريم قاسم.. خلافاً للقانون الذي يمنع إعادة محاكمة المحكوم.. وحكموا عليهم بالإعدام.. ونفذوا الحكم فيهم في ساحات وشوارع الموصل وكركوك.
وحتى الذين لم يثبت انتماؤهم للحزب الشيوعي أمام المجالس العرفية.. فكان رئيس المجلس يطلب منهم سبّ الحزب الشيوعي وقادته.. وعند رفضهم ذلك.. يحكم عليهم بموجب المادة 31 بالسجن لمدة تتراوح بين سنة وعشر سنوات.. متخذاً من رفضهم دليلاً على الاتهام.

أبرز شهداء قيادة الحزب الشيوعي:
كان من بين الذين اعدموا تحت التعذيب من قادة الحزب الشيوعي: سلام عادل (حسين محمد الرضي).. السكرتير الأول للحزب .. وجمال الحيدري.. وحسن عوينة.. ومحمد حسين أبو العيس.. أعضاء المكتب السياسي للحزب.. ونافع يونس.. وجورج تلو.. وطالب عبد الجبار.. ومحمد صالح ألعبلي..وعزيز الشيخ.. وشريف الشيخ.. وحمزة سلمان.. وعبد الرحيم شريف..وعبد الجبار وهبي.. ومهدي حميد.. أعضاء اللجنة المركزية للحزب.. ولطيف الحاج.. عضو قيادة فرع بغداد.. هذا على مستوى القيادة.
أما كوادر وأعضاء ومناصري الحزب.. فلا يمكن عدهم.. فقد بلغ إجرام الحرس القومي.. وعلى رأسه (عمار علوش) و(ناظم كزار) و(خالد طبرة) وأعضاء اللجنة التحقيقية العسكرية في معسكر الرشيد.. حيث يوجد السجن رقم واحد.. وهم كل من:
حازم الصباغ.. وحازم الشكرجي.. وطه حمو.. أقصى درجاته.. فقد كان شغلهم الشاغل في الليل والنهار هو تعذيب المعتقلين.. مدنيين وعسكريين لنزع الاعترافات منهم.. وقد قضى المعتقلون أشهراً عديدة في المواقف.. ومراكز الحرس القومي.. وقصر النهاية.. ومقر محكمة الشعب سابقاً.. التي أتخذها عمار علوش وزمرته مقراً لهم.. وكانوا يمارسون التعذيب فيها بحق المعتقلين.. وكل يوم يمر يموت فيه عدد من المعتقلين بسبب التعذيب.. حتى أزكمت جرائمهم الأنوف.

عودة نشاط الحزب الشيوعي:
برغم كل هذه المجازر والاعتقالات لم يفلح الانقلابيين.. في استئصال تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي.. فسعة المنظمات الشيوعية كانت اكبر كثيراً.. فعلاقات الحزب الشيوعي كانت قد امتدت الى كل زوايا العراق وصار يتعذر الإطاحة به.. فقد استعادت منظمات هذا الحزب قدرتها على التحرك.. وفي أواسط حزيران 1963اصدر الحزب الشيوعي العدد الأول من جريدته السرية (طريق الشعب).
تضمن هذا العدد بيانا بتوقيع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي.. وقد تحدث البيان عن حقيقة انقلاب شباط وارتباطاته المريبة بالدوائر الاستعمارية وشركات النفط.. ووصف الإرهاب الفض.. الذي عاناه الشعب والحزب الشيوعي بوجه خاص.. وقال: (إذا كانت سياسة الحرب في كردستان.. قد عزلت وإطاحة في النهاية بدكتاتورية عبد الكريم قاسم.. فان هذه السياسة ستعجل بسقوط الدكتاتورية العسكرية الطغمة الحاكمة تحت أقدام الشعب هذه المرة).
وفي حزيران 1963 استطاع الحزب الشيوعي العراقي أن يؤسس إذاعته الخاصة (صوت الشعب العراقي).. وقد ظلت هذه الإذاعة حتى صيف 1968 تلعب دوراً مهماً في فضح سياسات الأنظمة المعادية للشعب العراقي.

انتفاضة تموز 1963:
في فجر 3 تموز 1963 قامت مجموعات من الجنود وضباط الصف يقودهم النائب العريف حســن سـريع ومعظمهم من الشيوعيين باحتلال معسكر الرشيد.. كما احتلوا مطار الرشيد العسكري.. إذ كانت الطائرات الحربية جاهزة بحمولتها القتالية بسبب الحرب في كردستان.. وعلى استعداد للطيران.. بعد أن يتم تحرير جمهرة الطيارين الشيوعيين المعتقلين في سجن رقم واحد في المعسكر ذاته.. كما سيطر المنتفضون على مدخليّ المعسكر.. والمستشفى العسكري.. ومقر اللواء الخامس عشر وغيرها من الوحدات العسكرية.
وتمكن المنتفضون من اعتقال كل من حضر الى المعسكر من الوزراء المسؤولين.. من بينهم: منذر الونداوي القائد العام للحرس القومي والقوة الجوية.. ومساعده نجاد الصافي.. ووزير الخارجية طالب شبيب.. ووزير رئاسة الجمهورية حازم جواد وغيرهم.. ووصل عدد الذين احتجزهم الثوار إلى 180 قياديا ومسؤولاً.
أخفقت المجموعة المكلفة باحتلال السجن العسكري رقم واحد ومن تحرير السجناء.. وإشراكهم في تشغيل الطائرات والدبابات.. إذ إنهم لم يباغتوا السرية التي تحرس السجن.. لذا واجهوا مقاومتها.. فعجزوا عن احتلاله.. وتحرير الضباط المعتقلين فيه.. كما أنهم لم يعتقلوا رئيس الجمهورية آنذاك عبد السلام عارف والذي وصل الى المعسكر.. وكان صيدا سهلاً.
وقد أدى إخفاق الانتفاضة الى أن تشن الحكومة حملة دموية جرى بموجبها اعتقال الآلاف.. وتنفيذ أحكام إعدام جماعية بالمنتفضين.. بينهم قائد الانتفاضة حسن سريع ورفاقه.. إضافة الى المئات من العسكريين والمدنيين.. الذين جرى إعدامهم بعد محاكمات صورية.

قطار الموت:
أعقب جريمة إعدام حسن سريع ورفاقه جرائم بشعة.. إذ تم في اليوم التالي نقل أكثر من مائة وخمسين من الضباط الشيوعيين الذين يقبعون في سجن رقم واحد في معسكر الرشيد.. وبشكل سري إلى محطة السكك الحديدية.. وأودعوا في عربات حديدية مقفلة بإحكام.. إلى سجن نقرة السلمان الصحراوي.. ولم يعرف أحد ماذا تحمل هذه العربات.. وقد عرف سائق القطار عبد العباس ألمفرجي بالحمولة عند الوصول إلى مدينة الحلة.. اثر تعالي صراخ السجناء.. وقام بزيادة سرعة القطار من أجل الوصول بشكل مبكر إلى مدينة السماوة.. كي يتم إنقاذ السجناء.. وعند وصول القطار الى محطة السماوة في يوم 5 تموز العام 1963.. تجمهر أهالي السماوة.. حاملين الماء والطعام والدواء متحدين جلاوزة الحرس القومي.. وقاموا بنقل الضابط يحيى قادر الصفار إلى مستشفى السماوة.. حيث فارق هناك الحياة بسبب الاختناق.. ولولا مبادرة العقيد الطبيب رافد أديب صبحي بابان.. الذي كان من ضمن ركاب القطار.. لما نجا أحد من الركاب ولحلت الكارثة.. فقد طلب الدكتور رافد من الركاب خلط الملح مع الماء.
ولم تخف أعمال الاعتقال والانتقام ضد القاسمين والشيوعيين والمواطنين حتى حل الحرس القومي في 18 تشرين الثاني من العام نفسه.. واستيلاء عبد السلام عارف والقوى الناصرية على السلطة.
(ملاحظة) انتظرونا غداً مقالتنا المقبلة بالوثائق: (علي صالح السعدي.. الرجل الأول في انقلاب 8 شباط).