2- مقاربة عربية
في العراق النموذج ، كان مجرد التفكير بتقسيم هذا البلد من المحرمات التي لايجرأ اي عراقي أو أي عربي على البوح بها منذ تأسيسه عام 1921 . هذه الحالة انعكست تماما بين ليلة وضحاها بعد ان ولدت العملية السياسية في العراق عقب احتلال عام 2003 وهي تحمل في رحمها مشروع التقسيم ، بل مشاريع التقسيم . والغريب في الامر ان الكل يدعو الى نبذ مبدأ المحاصصة ، ولكّن هذا الكلّ يكرّسها في ممارساته اليومية في مختلف المجالات السياسية والأقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية وغيرها . الكلّ يدعو الى وحدة العراق في حين يعمل هذا الكلّ على عكس ذلك تماما . وفي واقع الحال، فان العراق مقسّم وهذه الحقيقة يعرفها الجميع العراقيون وغير العراقيين . والأمر المدهش هو أنّ النداءات التي تدعو الى وحدة العراق لا تأتي من العراقيين المنقسمين على انفسهم ، بل تأتي من الدول التي ترعى التقسيم وتؤسّس له . وتأتي من اكبر دولتين اقليميتين في جواره ، تركيا وأيران ، حيث كان العراق ولمّا يزل مسرحا لخصوماتهما وحروبهما ، ليس عشقا بالعراق الواحد ، بل خوفا من انتقال عدوى التقسيم الى بلديهما . ولنا في موقفهما من استفتاء الكورد على الانفصال من العراق في الخامس والعشرين من ايلول الماضي شاهد قريب . في سوريا الوضع مشابه للعراق وهو سائر على نفس المنوال والى ذات المآل ، ومؤشرات التقسيم واضحة رغم نداء الكل بوحدة سوريا، الدول الراعية للتقسيم والنظام والمعارضة . والمشهد يتكرر في غيرها من البلدان العربية .
والاسباب التي أوصلت الحال الى ماهو عليه الآن مختلفة ، كتب العديد عنها وتحدّث الكثيرون بها، ولست في وارد الحديث عنها. الاّ ان واحدا من ابرز نتائجها كان انطلاق الاسلام السياسي الذي قوّض المشروع العربي برمّته . كانت العروبة والقومية العربية هو الشعار الجامع والموحد للشعوب العربية في جغرافية الوطن العربي ( لاحظوا ان أستخدام مصطلح الوطن العربي بدأ يتقلص شيئا فشيئا ويحلّ مكانه مصطلح الشرق الاوسط الذي بدا أكثر شيوعا ) ، وكانت مصر وسوريا والعراق رافعة هذا الوطن . لم يعد الأمر كذلك الآن فقد انهارت هذه الرافعة بشكل مدوّي. جاءت الثورة الاسلامية في ايران بالاسلام السياسي الشيعي ، فتموضع الاسلام السياسي السني بالمقابل، وكلا الطرفين يزعم انه يمتلك الحل ، موجّهين سياطهم اللاذعه على ظهر العرب بذريعة فشل المشروع العربي في الاستجابة لتحديات العصر . فقد ضيّع فلسطين وخسر في المواجهة مع اسرائيل ، ولم يحقق الحرية ، وفشل في التنمية ، ولك ان تسطّر مجالات أخرى . نعم لقد فشل المشروع وانتهى ، ولكّن العرب باقون ولن يفشلوا ، فلماذا تقتل اماني العرب وتصادر احلامهم بحجة ان الاسلام السياسي لديه الحل. لقد جربنا الاسلام السياسي في العراق اربعة عشر عاما ونحن على اعتاب الخامسة عشر، فماذا كانت النتيجة ! فشل في فشل في فشل . وسيخوض العراقيون الانتخابات القادمة تأسيسا على الفشل ذاته وسينتخبون الفشل مرة أخرى . ما يسوّقه الاسلام السياسي بانه الوحيد الذي يملك الحل هي كلمات حقّ اريد بها باطل ، فلم ينطلق الاسلام السياسي باندفاع ذاتي ، بل هناك من مهّد له الطريق ووفّر شروطا موضوعيه لأنطلاقه . لقد كان في صلب المقاربات الاربعة التي اشرنا اليها ، وهو الذي كان أداة الفوضى الخلاّقة وهو الذي خلق حالة التوحش . .
واذا ما نظرنا الى الاحداث منذ الحرب الروسية في افغانستان ونشوء الجمهورية الاسلامية في ايران وما رافق ذلك من حروب ، وبروز التيارات الاسلامية الاصولية والمتطرفه وأحداث ما يسمى بالربيع العربي وما تمخضت عنه ، وما يحدث في العراق وسوريا ، واحتمال انتقال عدوى الفوضى الخلاّقة الى اماكن أخرى ، يكون من حقنا ان نتساءل الى اين نحن ذاهبون! اليس هذا يعني اننا ذاهبون على خطى مشروع برنارد لويس! وهل سيكون هذا في صالح شعوبنا!وهل سيتحقق السلام والاستقرار فيها!
بالتأكيد أن مشروع برنارد لويس ، والمشاريع المشابهة له ليس حلاّ ، ولن يحقق الاستقرار والسلام ، بل انه سيزيد نيران الحروب استعارا في الشرق الاوسط صغيره وكبيره . ولكّنه سيكون واقعا لا سبيل لدرئه وأيقاف تداعياته ، اذا ما أستمرت الاوضاع على حالها.
المطلوب مقاربة عربية مقبولة من جميع الاطراف العربية يسارها ووسطها ويمينها ، التقدمي منها والمحافظ . المشروع العربي الذي بناه البعثيون والقوميون العرب والناصريون انتهى وانتهت الافكار التي شيدته ، ولن يقوم مرة ثانية . لقد ترعرع ذلك المشروع في احضان الحرب الباردة وكان جزءا من ادواتها ، وعندما انتهت ، بدأ المشروع بالسقوط التدريجي الى ان اجهض عليه الاسلام السياسي . وهذا لا يقتصر على المشروع العربي وحده ، بل ينسحب على المشاريع الاخرى التي كانت مزدهرة في تلك الفترة . كانت حركة عدم الانحياز أكبر كتلة سياسية لها دورها في السياسة الدولية برموزها التاريخية المعروفة ، كذلك كانت منظمة تضامن الشعوب الأفرو – اسيوية . كلتاهما انتهت بعد انتهاء الحرب الباردة ولم تعد أكثر من هياكل من دون أي معنى . على بقايا البعثيين والقوميين والناصريين ان يتقبّلوا هذه الحقيقة ، ويعترفوا بفشل المشروع الذي كان في حقيقته مشروعا مجزءا للعرب ولم يكن موحّدا لهم ، كان ينظّر لوحدة العرب وحريتهم فكريا ، وواقعيا يمارس التجزءة والاستبداد . وعلى هذا النحو وجد الاسلام السياسي أمامه فريسة ضعيفة عاجزة عن المقاومة فأجهز عليها بسهولة، ولم يدافع عنها أحد .
العرب الآن في مرحلة حاسمة ، هم فيها المستهدفون الاساسيون ، مستهدفون في الكيان والوجود، وعليه فان اية مقاربة عربية ينبغي قبل كل شيء أن تكون قادرة على مواجهة هذا التحدي ، أي انها مقاربة وجودية في المقام الاول ، تدافع عن العرب ككيان حي من حقّه ان يعيش وله طموح . مقاربة تحترم خصوصية كل بلد عربي والنظام السياسي الذي يختاره . مقاربة جريئة تخفف من اعباء العرب وتلزم نفسها باحترام حقوق الاقليات الصغيرة وتتعاطى مع تطلعات الأقليات الكبيرة بشكل ايجابي .
بعكس ذلك فالأنهيار قادم لا مناص منه ، قرب يومه أم بعد ، والوطن العربي سيكون مسرحا نموذجيا لمشروع برنارد لويس .