19 ديسمبر، 2024 12:03 ص

المقابر الجماعية.. الجريمة والشاهد التأريخي

المقابر الجماعية.. الجريمة والشاهد التأريخي

لا يمكن بأي حال من الأحوال الارتضاء بتسمية مجازر حادثة (الأنفال) بالجريمة، أو حتى بإضافة مفردة البشعة ووصفها بها، لتكون الجريمة البشعة، وذلك لان الجريمة ــ أي جريمة ــ ورغم بشاعتها إلا أنها تحدث في وقت واحد، وبظرف واحد، لقتل شخص واحد، أو حتى عدة أشخاص، لا يتجاوز عددهم العشرة مثلا، كما أنها قد تحدث دون قصد أو عمد أو دفاعا عن النفس، أما بالنسبة للأنفال فأن الكلام السابق بجميع تفاصيله لا ينطبق عليها كونها حدثت في أوقات متباينة وبطرق مختلفة ولعدد قد تجاوز في إحصائيته الـ (180) ألفا وبعمد واضح ونية مبيتة ضدهم ومن قبل شخص واحد (هو حامي أرض العراق!!)، كما ان الحقيقة التي لا يمكن للتاريخ ان ينكرها هي ان العراق قد سجل ريادته في مجال الانتفاضات والثورات الجماهيرية خلال العقود الثلاثة الماضية ضد طغيان أحد الأنظمة التي تحاول الشعوب العربية اليوم إزالتها عندما انتفض من جنوبه الى شماله بصرخته المدوية المعروفة باسم (الانتفاضة الشعبانية).
ان مجازر الأنفال والمقابر الجماعية والإعدامات المتنوعة الأساليب والترحيل وقنابل حلبجة وتجفيف الاهوار والسجون والتنكيل والاعتقالات والتعذيب وسياسات البطش والقهر ومصادرة الرأي والحرية والديمقراطية وفرض النظام الاستبدادي والشمولي، جميعها قد تم التخطيط لها بشكل متقن وبأسلوب وعقل جرائمي أبتكر عدة طرق لتنفيذ مآربه كالأسلحة الكيمياوية المحرمة والغازات السامة والقصف المدفعي والجوي والإعدامات شنقا ورميا بالرصاص ودفن الأحياء في مقابر جماعية وسجن العديد منهم في (نقرة السلمان) وبيع الفتيات الى دول المنطقة العربية، إضافة الى استخدامه العديد من أجهزته القمعية في هذه المجازر كالطيران والمدفعية والقوات المسلحة والحرس الجمهوري والاستخبارات العسكرية ومديرية الأمن العامة وقوات الطوارئ واللجان الأمنية وكادر حزب البعث واستخدامهم استخداما تعسفيا عرقيا طائفيا لقتل أبناء الشعب، وكأنهم ليسوا عراقيين أو ان أهل هذه المدينة أو تلك ليسوا أهلها وإنهم قبائل نزحوا إليها من بقاع الأرض المختلفة وبهم ما بهم من الأمراض والعيوب والجرائم التي تدعو الحكومة الصدامية الى محاولة تطهيرها منهم، أما السبب وراء كل ذلك والذنب الذي اقترفته تلك المدن والقرى الرافضة والمعارضة لسياسات نظامه كونهم قد أعلنوا الرفض التام لمنهجه وسياسته الهمجية المبنية على القمع والجور والتنكيل، فضلا عن جعل أبناء العراق الحطب الأكبر لنيران الحروب والمغامرات العسكرية الفاشلة التي خاضها الديكتاتور مع جيران العراق وهجرة الملايين المهجرة المضطرة الى بلدان أخرى.
هذه الجرائم لم توجه نيرانها وشرارتها صوب الرجال معارضين لنظام صدام فقط، بل أن الأمر شمل الشيوخ والنساء والأطفال والذين وجدت جثثهم في المقابر الجماعية التي غطت المساحات الواسعة في شمال وجنوب العراق كدليل حي وخالد على سياسته  الدموية، لذا فهي تعد من الجرائم الموجهة ضد الإنسانية كما إنها من جرائم الحرب التي وضعت تعريفات وعقوبات من قبل القانون والمجتمع الدولي لمحاسبة مرتكبيها فأتفقوا على ان الجرائم ضد الإنسانية هي تلك الأعمال غير الإنسانية والاضطهادات التي تتم باسم الدولة الممارسة سياسة هيمنة أيدلوجية ويتم ارتكابها بشكل منهجي ليس فقط ضد أشخاص بسبب انتمائهم العرقي أو الديني وإنما ضد الخصوم السياسيين أيضا، فيجعل هذا التعريف من (القائد الضرورة) ونظامه من كبار مجرمي الحروب كونه قد خطط فيها لقتل وسفك دماء هذا العدد الكبير ولإبادة شعب بأكمله وبأساليب بشعة لا تتبادر الى ذهن إنسان وباستمرار منهجه الإجرامي دون توقف، هذه الجرائم والمجازر كشفت وفضحت زيف ادعاءات صدام وعراقيته وعروبته، وكان الأحرى ان تطلع عليها بعض العناصر والأذناب في بعض الدول العربية والذين مازالوا يظنون به خيرا، وانه الحاكم الشرعي الفذ، فيتبنون أفكاره وآراءه وأطروحاته في المنطقة العربية، ففضحت محاكمة الطاغية المقبور وما يتم استخراجه من جثامين في المقابر الجماعية، كل هذه الأساليب الرخيصة وعّرته أمام العالم مثّلت دعوة لشعوب وحكام المنطقة العربية لمراجعة قراراتهم ومواقفهم تجاه العراق في الماضي والحاضر والمستقبل وأصبحت فرصة حقيقية لتصحيح أخطائهم بحق شعبه، كما كانت تلك التضحيات الكبيرة الإسفين الذي دقته الجماهير في نعش النظام البائد وعمقت عزلته دوليا وفضحت جرائمه، وهي ستبقى الذكرى الشجاعة عن الإرادة الجماهيرية وتضحياته، والشاهد الحي والدليل الأكبر على جرائم حاكم عاش يظلم ويقتل مدى حياته بلا خجل أو حياء من تسمية جرائمه بالانتصارات الخالدة.