ترجمة وإعداد / خضير اللامي
في الرابع من شهر اكتوبر عام 2011، صدر للمفكر الأميركي كريستوفر هيتشنس كتاب ” جدل ” يحتوي على 800 صفحة ، تناول فيه مختلف القضايا الفكرية والسياسية والاجتماعية والعلمية ، فضلا عن تناوله موضوعة الإرهاب والأنظمة الشمولية والدكتاتورية وركز على الثقافة والأدب وحقوق الإنسان وواقع المرأة الاجتماعي والسياسي والديمقراطيات في العالم الثالث ، والتمييز العنصري ، والمجاعة والفقر في العالم .
واللافت للنظر ، أن مقدمة تصدرت هذا الكتاب ، كرسها كريستوفر هيتشنس لثورات الربيع العربي ، وركز فيها على من أشعل فتيلها في تونس ومصر وليبيا ، ورأيه في “الشهادة ” التي كان فيها التونسي والمصري والليبي قرابين لهذه الثورات مقارنة ب “شهادة” الإرهاب التي تزهق أرواح الأبرياء وتدمر البلدان .. ولإفادة القارئ في الإطلاع على هذه المقدمة قمت بترجمتها مع بعض التصرف الطفيف لعدم ضرورته – المترجم .
الأسماء الثلاثة في هذه المقدمة المكرسة ؛ لبائع متجول تونسي ، وصاحب مطعم مصري ، وزوج وأب ليبي ، ففي ربيع 2011، أحرق الأول نفسه في بلدة سيدي بوزيد ، إحتجاجا ، على إذلال الكثير من المواطنين من قبل النظام التونسي ، والثاني ضحى بنفسه مع بداية تمرد الجماهير المصرية على ركود وعبثية نظام مبارك ، والثالث يمكننا القول ، ضحى بروحه أيضا ، فقد عبأ سيارته المتواضعة بالبترول والمتفجرات المصنوعة محليا وفجرها في إحدي بوابات كتائب ألقذافي في بنغازي رمز باستيل القذافي المجنون .
وفي تاريخ الصراع البشري الطويل ، تقدم فكرة ” الشهادة ” martyrdom ” نفسها ابتداء مع الوجه الشبيه بوجه يانوس . ” إله الأبواب مستهل البداية الزمنية عند الرومان ..المترجم ” . وأولئك الذين يرغبون في الموت لسبب هو اكبر من ذواتهم قد تشرفوا ابتداء من خطبة جنازة بيركلين إلى غيتي إدريس . وعند معاينة الشكوك بدقة ، لحماس أولئك الذين يريدون الموت فإننا نرى لديهم تعصبا دينيا مفرطا وتزكية ذات فضلا عن مبرراتهم الأخلاقية الأخرى ، وكان نشيد حزبي القديم ، حزب العمل البريطاني ، يتحدث بعاطفة عن العلم ذي الحمرة القانية ، والذي “يغطي غالبا جثامين شهدائنا الراحلين ” و يرقد – أو – رقد أسفل كليَتي في جامعة أكسفورد– نصب تذكاري ، ل “شهداء أكسفورد ” : الآباء كرانمير ، ولاتيمير ، وردلي ، الذين إحرقوا أحياء ، لاتهامهم بالهرطقة البروتستانتية من قبل الملكة الكاثوليكية ماري في شهر أكتوبر 1555. وكتب راعي الكنيسة تيرتيولان الأب كارثيغ : “إنَ دماء الشهداء هي تربة للكنيسة “. وإنَ ارتباط الإستشهاد بالإيمان المتعصب يبقي متمسكا دائما بالمبادئ عبر القرون ، مع أفراد العصبة الذين أحرقوا أنفسهم والذين غالبا ما ينتظرون دورهم ليحرقوا أنفسهم هم الآخرون. واعتقد أن حزب العمال يمكن أن يتبرأ من تلك المسؤولية . وهكذا استطاع جان بالاش ، Jan Palachالطالب الشاب الجيكي أن يقدم نفسه قربانا في ساحة فينسلاس في كانون الثاني ،1969، احتجاجا ضد الغزو السوفييتي لبلاده . واستطعت أن انظم إجتماعا حاشدا إحياء لذكراه في صرح أكسفورد . وبعد ذلك ارتبط هذا الحشد مع صحافة بالاش بريس Palach Press : مركز صحافة المعارضة في المنفى ، تيمنا باسمه ،التي أسهمت وعلى مدى جيلين في ثورة الحرير عام 1989 ، و كانت الممهد لطريق الحياة العلمانية والمدنية ، والتي لم تتسبب بقطرة دم واحدة .
وعبر مسار السنوات العشر الأخيرة ، أخذت كلمة ” الشهادة ” التي حط من قيمتها تماما الوحش محمد عطا : ذوالوجه البارد الكريه الزومبي ” zombie ، ” إنسان يتحرك آليا تقوده جهة محركة .. المترجم “– القاتل المنتحر- الذي سلب معه حياة عددا كبيرا من الأبرياء بقدر ما يستطيع . فكانت المنظمات التي وجدت ودربت رجالا مثل عطا كانت مسؤولة عن جرائم كان ممكن الإعلان عنها في بلدان ومجتمعات عدة ، من انكلترا إلى العراق ، في محاولة منها لخلق نظام زومبي كريه بارد يكون بديلا لعالم لا أخلاقي ، ولموت الثقافة . وزعموا أنهم سينتصرون لأنهم يحبون الموت أكثر من الحياة ، ذلك أنَ عشاق الحياة من وجهة نظرهم هم ضعفاء ومتفسخون و فاسدون . وعمليا ،إن كل كلمة كنت قد كتبتها منذ عام 2001، كانت واضحة أو ضمنية وموجهة لدحض ودحر أولئك الكريهين والنهليستيين ، فضلا عن اولئك الذين بيننا الذين يحاولون أن يبرروا أفعالهم .
إن الشهيد التونسي والمصري والليبي كانوا يقتربون في تفكيرهم وأفعالهم أكثر من بالاش بقدر ما هم يبتعدون في تفكيرهم وأفعالهم من عطا . إذ لم يغتصبوا حياة الآخرين ، أنهم يرغبون الى حد ما ، في أن يحيوا أنبل مستويات الحياة ولا يريدون أن يكونوا عبيدا لها ، كما لا يرغبون العيش تحت حكم الأوليغاركي المهيمن على الشعب . أنهم لم يقوموا بإعمال خسيسة ، أو يتبجحوا ، بأعمال قتلهم التي توفر لهم مكانا لفنطازيا فاضحة وحياة شهوانية مفترضة في الآخرة . إنهم لم يرغبوا في أن يكون لهم صوت أجش ، يصرخون كصراخ الغوغاء ، أو يرمون التوابيت في بحر من الهستيريا . وأخبر بالاش رفاقه المقربين منه ، أن السبب العميق لمبادرته ليس الغزو حسب ، ولكن الخمول المروع ، الذي خيم على براغ ، مما جعل ذلك ” الربيع ” جليد الشتاء يذوب . مفضلا تأكيد الحياة بالموت ، على عيش الموت في الحياة ، وان طلائع الربيع العربي بطريقة مماثلة تتأمل تحفيز رفاقهم لخلق روح المواطنة . وسينحسر المد ، وستتراجع الموجات ، وسيتحول المنظر إلى اللون الرمادي وسيتغبر مرة ثانية ، ولكن لا شيء يمكن أن يطرد العقل العربي والحؤول دون وحي ساحة التحرير . ومن حين إلى آخر ، ومرة أخرى، فإن احتجاجات الجماهير ستؤكد عدم رغبتها في بقاء سجانيها ومقيدي حريتها * إنَه التوق لحياة مدنية – ” وان يكون الجميع نبلاء “.
وفي دعوة موجهة لي لإلقاء محاضرة في الجامعة الأميركية في بيروت ، عام 2009، وحملت عنوان ” من هم الثوريون الحقيقيون في الشرق الأوسط ؟” بذلت جهدا واضحا أن أضيء قبسات ضوء قليلة بدت ملموسة ولو على نحو غامض بعد ذك. وقدمت مثالا عن إزدهار المقاومة المدنية في ايران . واستشهدت بالمنشق المصري العظيم العالم والإنسان السياسي ) سعد الدين ابراهيم ، ويعدً الآن أحد الآباء الفكريين لحركة التحرير . كما أشدت ب” ثورة الأرز ” في لبنان ، التي جلبت فصل الأمل والنجاح اللذان وضعا حدا للغزو السوري الطويل في لبنان . وناصرت القوات الكردية في العراق التي كتبت نهاية “finis ” نظام كاليجولا صدام حسين وكانت أيضا بداية لنظام الحكم الذاتي لأكبر منطقة وأكثر أقلية قومية مضطهدة . كما أشدت بعمل سالم فياض الذي حاول أن يجلب ” الشفافية ” لباروك paroqe” السلطة الفلسطينية ” التي كانت مواقفها متباينة وغير مترابطة ورغم ذلك ،أتأمل واعتقد جزئيا أنها لابد أن تحيك لها ثوبا جديدا .
إنه من الواضح أن عددا القراء ( ويؤسفني قول هذا، واغلبهم من الأمريكيين ) يعدونني إهزوءة . لان السلطة الأصولية بالنسبة لهم تعود إلى مجاميع أمثال حماس أو حزب الله ، الخصم العملاق العالمي والمحارب بلا هوادة ضد الصهيونية . وأنا اعتقد أنَ هذا جولة أخرى في النزاع التاريخي الطويل . وباختصار ، إن هذا الجدل المستمر حدث بين اليسار المناهض للامبريالية ، واليسار المناهض للتوتاليتارية . وبطريقة أو أخرى ، انني كنت معنيا – بكليهما – في كل حياتي . وفي قضية صراعي هذا فقد حسمته بصورة متزايدة إلى جانب مناهضة التوتاليتاريين . ( وهذا ربما لا يبدو كثير ادعاء ، ولكن ثمة أشياء بحاجة إلى أن تكتشف عن طريق التجربة وليس مجرد اشتقاق من مبادئ ) فثمة كثير من الإعادة والتكرار والاستطراد قد أعيد النقاش فيها في مذكراتي Hitch- 22 وكثير منها تناولٍها هذا الكتاب أيضا . وتناولتها التقارير والمناقشات . وأؤكد أنَ تلك القوى التي تعتبر التعددية هي نوع من الفضيلة ، ” معتدلة ” مع أنها ربما تجعلها مغزى ، هي اكثر من ثورية عميقة ( ومن المحتمل جدا ، عبر فترة أطول ، تخلق مناهضي للامبريالية أفضل )
إن نمو وشحذ وجهات النظر هذه تستلزم براهين ثابتة عن فكرة أمريكا . وحاليا ثمة مرونة أكثر للحديث عن ” انحراف ” وطني المتبنى . سواء في الموثوقية أوالمصادر ، وأنأ لم اختر الانضمام إلى هذا التشويه . فالجمهور العلماني مع انفصال السلطات ما يزال النموذج التقريبي ، سواء اعترفنا أم لم نعترف فثمة ثورات ديمقراطية كثيرة تتقدم أو وشيكة التقدم . وأحيانا أن الولايات المتحدة تستحق الاحترام في هذا الكيانات ، وأحيانا لا تستحق . وأين لا تستحق – وكما في موضوع الايهام بالغرق الذي نوقش مؤخرا – أستطيع أن اخفف من قولي . فانا أؤمن أن الأدب ورجال الثقافة للبلد منذ أن وجدوا مفهوم الولاء للفكرة الثورية والانعتاق ، وفي فصل عن التقاليد الأميركية استطعت أن أتنفس الصعداء عن هذه الاضاءات.
إن ” البربرية ” Barbarism ” كتب آليان فنكيلكروت ،قبل وقت لم يكن طويلا ، ” فهي ليست من تراث ما قبل تاريخنا. بيد إن ثمة مجموعة من الكلاب وراء كل خطوة نخطوها ” وفي الكتابة هنا ، تماما نقوم بالكثير ، عن أمثلة ودروس عن تاريخ الشموليات في العالم، فانا هنا لا أريد أن اطرد الشبح بعيدا . وكم من السهل علينا أن نميز ونعيد أشكال الأشباح تلكم الأعداء القدماء التقليديون – العنصرية ، تقديس القائد ، الخرافة – ونفترض هذا حينما يعاودون الظهور بيننا ( وأحيانا المحروسون من مدافعيهم الجدد ) وحاولت أن اخفف عن مهمة رهبة المحارب هنا ، وعن طريق الكتابة أيضا عن المؤلفين والفنانين الذين أسهموا في الثقافة والحضارة ليس بالكلمات والأفكار الصماء التي تدافع ببساطة عن التجريد . وقد استغرقت مني اجيالا كي اتجرا لأحاول ، ولكن في نهاية الأمر رحت اكتب عن فلاديمير نابوكوف ….
وكل ماجاء في أعلاه ربما ينطبق على مقالتي القصيرة في فن وعلم للعمل المزدهر ، على سبيل المثال ، حينما كنت غير قادر على حماية نفسي في اغلب الخلط الحالي لكل مقالاتي ، المعنية بالعجز الذهني كما هو مسجل في أجناسها . فما زلت أؤمن أنها مخاطرات ضيقة النطاق تسهم في نقاش دون حدود أو تحريم : the sin qua non لذلك النوع من المجتمع الذي يحافظ على التقوى والورع في الدفاع عن نفسه .
هذا الكتاب هو المجموعة الخامسة في أعمالي . وفي مقدمة المجموعة الأولى الموسومة ،” الاستعداد نحو الأسوأ 1988 Prepared for the Worst” ألحقت فكرة نادين غورديمير للتأثير الفعال على الشخص الجاد لنشرأعماله بعد وفاته ، بيد أنني فهمتها لتعني إن الشخص الذي يكتب كما لو انه مرغم على ذلك – للأزياء ، التجارة ، الرقابة الذاتية ، الراي العام أو ربما بشكل خاص الآراء الفكرية – أنها لاتحدث أثرا فاعلا ، ومن المستحيل أن تعيش فترة طويلة، وهذا التذكير والإيحاء لا يملكان بعض قوة عضلية فضلا عن بعض التحذيرات في كيفية اضمحلالها . وبعد هذا ، وقبل سنة من ألان ، اخبرني طبيبي الخاص أنني سأعيش سنة ونيف . وفي النتيجة ، أن بعض هذه المواد من كتبي قد كتبت بوعي تام وربما تكون أخر نتاجاتي . بصحوة بطريقة ما أو نشوة بطريقة أخرى ، فان الممارسة لاتكون كاملة بشكل واضح . ولكنها تمنحني فكرة حية تجعل الحياة تستحق الاستمرار فيها ، كما الدفاع عنها ، وانأ اتامل كثيرا جدا أن البعض القراء الكرماء ربما يؤثرون في استمرارهم قراءة أعمالي هذه .
كريستوفر هيتشنس
26 حزيران 2011