أعني ذلك المتصّوف الجميل الجليل الذي لم يفهمه عصرُه ولا الحكامُ القتلة، فما كانت جريرته التي اقترفها سوى أنه قال كلاماً خارج المألوف السائد . كلاماً أشبه بهذيان نائم حالم، يتماهى بين زهد الزاهد وهلوسة الفيلسوف.لكنّ حسّاده الألى لم يفهموه أوّلوا مقولاته على أنها تشظيات تكفيرية تستدعي صفة التأله. فنقموا عليه وكالوا له تهماً جاهزة أجهزوا بموجبها على حياته، ومثّلوا بجثّته ورموا لحمه الى الطير ورأسه في بالوعة قذارات. هكذا حال المفكّر والمُبدع والألمعي على مرّ سني تأريخنا العربي. كان المثقّف، ولمّا يزلْ، أرخصَ من بقلة. فكيف يُجازُ قتلُ مَنْ قال:
عجبتُ لكلّي كيف يحمله بعضي
ومن ثقل بعضي ليس تحملني أرضي
لئنْ كان في بسط من الأرض مضجِعٌ
فقلبي على بسط من الخلق في قبضِ
لكنّ الجهل حين يتسيّدُ يُقللُ من شأو العلم ويغتال العالِم.َ تعالوا، غوروا في تأريخنا الدموي تسمعوا وتقرأوا طوفان الدم وازهاق النفوس . ولئن كان الاختلاف سمة الحياة، فينا وفيما حولنا، فلمَ، اذا، نُصفّي من يختلف عنا؟ هو كان مُستنيراً يتمرأى له ما يُشبه ما يتمرأى للحالم، والحياة ساعة ًفساعة هي ساحة حلمية، ولا يُدرك ذي الحقيقة الّا مَنْ اوتي مقدرة خارج مدارك المخلوق. وثمة استثناءات بشرية تتسمّ بمثل ذي القدرة وكان واحداً من هؤلاء. وحين
يتفوّقُ أحدٌ منا تكثر سكاكين حُساده وتتهافتُ عليه. ولأنّه كان يُعلّمُ الناس وله مُريدون يبتغون فضل التعلم فقد بغضه رجالُ السلطة وكادوا له، لكنْ، أين الشعبُ وأين أهلُ المعرفة وصوت الاحتجاج؟؟ ففي ظلّ القمع القاتل تخرسُ الألسنة ويعم الصمت. وكلُّ مُتنوّر في كلّ عصر، حتى عصرنا هذا، تتصدّى له فئاتٌ متنفذة تحزُّ سكاكينُها لسانه ورقبته:
بالسرّ ِأن باحوا تُباحُ دماؤهم
وكذا دماءُ البائحين تُباحُ
ولئنْ اختلفت الأراءُ في كيفية مقتله فمن المؤكد أنّه قُتل بشناعة وكره. فصوتُ العقل مرفوضٌ في مجتمع البداوة كونه يُهدّد عرشَ الطغيان الذي هو الأعلى دوماً عبر تأريخنا الدموي:
انّ الحبيب الذي يُرضيه سفك دمي
دمي حلالٌ له في الحِلّ والحرم
وحين قرأتُ ديوانه اجهشتُ باكياً، ففي هذا الديوان / أخبارُ الحلّاج لأبن الساعي، تحقيق: احمد فريد المزيدي/ أضمامة ممّا بقي من شعره . قبلاً قرأت في ستينيات القرن المنصرم شيئاً من شعره، لكن من دون فهم أو تأمل. واسعفني الحظُّ أن أقرأ ما ينطوي عليه هذا الكُتيب الذي يبدا شعره بهذا البيت:
ما يفعلُ العبدُ والأقدارُ جارية ٌ
عليه في كلّ حال أيّها الرائي
وينتهي بالبيت الأخير:
حاشا فأنتَ محلَّ النور من بصَري
تجري بك النفسُ في مجاريها
وربّما أحرقت كلّ مولفاته، وقد ظلّ بعضها احتفط به طلابُه ومُريدوه. فالسلطانُ الجائرُ لا يخاف من السيف بقدر خشيته من الكلمة التي تُسعّرُ مشاعر الناس وتُحفزّهم على التمرّد والثورة. فهل بوسعنا أن نضعه في خانة الثوّار؟ فالكلمة ُ حين تُثوّرُ تُثير مستهلكه، تدفعه الى الرفض. فقصائده المبثوثة في هذا الكُتيّب أشبه بشرارة تشعل حرائق هائلة. وربّ سائل يسألُ: لم لم يكنْ شعرُه مفهوماً يُلامسُ فحواه أيّ قاريْ؟ فأجيبُ: على القاريْ أن يرقى الى فهم مضامين شعره خارج دائرة التسطّح والعبارة السوقية. اللغة عنده أشارة ُ تغيير ذات حدود تقطعُ وتشحنُ وتُحفّزُقناعات المُتلقي، لذلك يقتضي فهمُ شعره وكلامه الى سليقة أوبديهة في أقصى الحدّة والرهافة.كما أنّ بعض عباراته حمّالة ُ مضامين ما ورائية ملتبسة. والّا لكانت مقولات عادية مستهلكة. وأظنُّ أنّ الحلاج حياة ًوشعراً وفلسفة لغزٌ استعصى فهمُه على معاصريه، وصاعقة لاحقت رجال السلطة في أوجارهم، لذلك عملوا على اسكات صوته وتخلصوا منه باساليبهم البوليسية القامعة. ذهب الحكامُ واندثر ذكرُهم، بيد انّ الحلاج ظلّ نافذة اشعاع يتنوّر به الفكرُ الإنساني، وسيعيشُ بين الناس ما عاشوا .