يحمل الكثير منا مفاهيماً بالغة الأهمية عن الحياة وقد تكون سبباً في جعل الآخرين ينظرون إلى العالم بعين ٍ مختلفة، لكنها أحياناً لا تحتاج سوى رؤيةٍ أوسع وأكثر شمولاً، فنبحث دوماً عن الجمال والسلام والسكينة في الكثير من الأماكن وننسى أقربها.. ننسى أن نبحث في داخلنا، في بيئتنا، في كل ما يحيط بنا وقد يفاجأنا بوجوده حولنا لسنواتٍ دون أن نلحظه، في بيوتنا وشوارعنا وتراثنا ومعمارنا الذي ننتمي اليه ولمعانيه وجوهره أكثر من أغلب البشر.. ويعد المعمار الجزائري أحد هذه النماذج التي تستحق الحديث عنها لفرادتها..
فالجزائر بلدٌ تعاقبت عليه الكثير من الحضارات وامتزجت فيه الثقافات والأعراق وتنوعت بين شرقيةٍ وأوروبية وصحراوية، وتداخلت فيه خصائص العمارة الإسلامية بالأندلسية واستمدت من زخارفهما الأشكال الهندسية التي أصبحت جزءاً هاماً منها، إلى جانب زخارف تحمل أشكال النباتات والأشجار دون أن ننسى الزخارف الكتابية التي تستخدم الخط الكوفي، كما اشتهرت أيضاً بإستخدام الأقواس بأشكالها المتنوعة والتي كان يعتمد عليها في رفع الأسقف، لكنها تحولت أيضاً إلى شكلٍ جمالي قد يزيد فيه العدد لإبراز مزيدٍ من النقوش والرسوم والزخارف والخطوط التي تعبر عن شكلٍ من أشكال الرفاه والتي وجدت في الكثير من تصاميم المعمار والجوامع وزادها استخدام الفسيفساء بشكلٍ متقن مع نقوشٍ بديعة جمالاً وجاذبية..
وهذا الشكل من الترف أخذ عدة أبعاد متصلة ببعضها، فتنوع الزخارف والنقوش التي كانت تزين الأعمدة والأقواس اقترنت بحالةٍ من البحبوحة التي انعكست في تصاميم المعمار الجزائري الذي كان يتوجها بالقباب التي هي إحدى أهم أشكال العمارة الإسلامية، والتي كانت مقترنةً أيضاً بالساحات عموماً والواسعة منها على وجه الخصوص، فالكثير من البيوت والمعمار الجزائري رغم بساطة بعضه أو وجوده في أحياءٍ فقيرة نسبياً إلا أنه كان متصلاً بساحة ٍ تستوعب أركانه وتفاصيله الأساسية التي كانت تزداد تعدداً تبعاً لمكانة المعمار أو الوضع المادي لصاحبه، فالمباني الرئيسية والتي ارتبطت بمراكز السلطة والحكم عبر العصور كانت ملحقةً بساحاتٍ كبيرة تستوعب المزيد من التفاصيل كالدرابزينات الخشبية والتيجان التي كانت فوق كل عمود وصولاً إلى الجدران المزينة والأرضيات المرصوفة..
ولكن كان هناك أيضاً جوانب أخرى غير شائعة عن حضاراتٍ سكنت الجزائر وأجزاءاً من عدة بلدان ٍ مغاربية كالحضارة النوميدية التي تستحق الحديث عنها بشكلٍ منفصل وكان معمارها إحدى المواريث الثقافية التي بقيت منها في الجزائر، وكانت لها طقوس ٌ خاصة بين نمطٍ معماري مدني ونمطٍ معماري جنائزي امتاز بفخامته وشكلٍ من الأثاث المصنوع من الأواني الخزفية، كما يجدر ذكر الحضارة المزابية وعمارتها الخاصة والتي تشكل أيضاً جزءًا من الإرث المعماري الجزائري والمغاربي عموماً، والتي تبقى منها القليل من الآثار إلى جانب سبعة قصور في وادي ميزاب أو ولاية غرداية، والتي لا تبعد عن بعضها في المسافة كما أنها شيدت فوق المرتفعات ولفتت أنظار الكثير من المعماريين في العالم، والذين لفتهم ذكاء هذه التصاميم واختلافها على مر العصور من ناحية، وقدرة مصمميها على التكيف مع طبيعة الأرض الجزائرية ووعورة جبالها وعمق تضاريسها بحيث استطاعت أن تقاوم الزمن وتصمد في وجه المتغيرات سواءاً كان ذلك بفعل الإنسان أو الطبيعة، كما أن التصاميم راعت الخصوصية لكل عائلة فلم تكن الأفنية والبيوت مكشوفةً على بعضها لتسمح لها بالتصرف بحرية داخلها وظهر الكثير من نماذجها المتميزة ضمن الأفلام السينمائية الجزائرية، وبالطبع فإن حقبة الإستعمار الفرنسي المظلمة قامت بهدم جزءٍ لا يستهان به من المعمار الجزائري لتشيد العديد من المباني على الطراز الأوروبي شأن أي استعمار يسعى لطمس هوية الأرض التي اغتصبها..
ولا يعلم الكثيرون كم التنوع والإبهار البصري والتعددية التي يزخر بها التراث الجزائري عموماً ومعماره بشكلٍ خاص، عدا عن عدد كبير من القصور والبيوت التي يمثل كل منها لمحةً من فكر أو ثقافة عربية أو أمازيغية، مدنية أو صحراوية، محلية أو غربية لتؤكد على غنى هذا البلد الجميل وقدرته على العطاء الذي نبع من صموده الأسطوري على مدار التاريخ..