22 ديسمبر، 2024 7:04 م

المعقول والمجهول وويلات تصول!!

المعقول والمجهول وويلات تصول!!

الثورات العربية مقطوعة الرأس مأسورة بالجهل والأمية الحضارية , وخالية من قدرات بناء الحاضر وصناعة المستقبل , فهي تخلو من المفكرين والمثقفين والفلاسفة وتغيب عنها الحكمة والمعقولية , وتتسيد في أروقتها الإنفعالية العمياء والإندفاعات الحامية.
وقد عاشت العديد من المجتمعات العربية أزمة ثوراتها , وإنتهت إلى حالات مأساوية تسببت بخسائر حضارية وتداعيات أليمة وقاسية.
وما نشهده اليوم في الجزائر والسودان لا يشذ عما حصل , وكأننا لا نتعلم ولا نرعوي ولا نرى بعين العقل ولا نتبصر بعواقب الأمور.
قبل ثورات الربيع العربي ببضعة سنوات كنت في بولوندا وزرت أحد البيوت الريفية وقد إستضافتني صاحبة البيت , وبعد تناول الطعام أخذتني في جولة بأروقة البيت , ووجدتها قد خصصت زاوية من غرفة الإستقبال وجعلتها كمتحف صغير , وضعت فيه الصور والمقالات منذ سقوط الحكم الشيوعي بعد إنتهاء الإتحاد السوفياتي , وقد لا حظت صورا لقادة الحزب الشيوعي لا تزال فاعلة في المجتمع , فسألتها متعجبا: قادة الحزب الشيوعي لا يزالون في الحكم كيف يكون ذلك؟!
فقالت: إنهم أصحاب خبرة بإدارة شؤون البلاد , ولا يمكننا أن نسلمها لشباب بلا خبرة , فذلك يعني الفوضى , وإننا نعلم وهم يعلمون إنهم سيرحلون وسيأخذ مكانهم الجيل الجديد بعد أن يكتسب الخبرات اللازمة لإدارة البلاد.
وما يجري في مجتمعاتنا أن الجزائر تحركت جماهيريا وبعد إصرار وتوثب أذعن الرئيس الجزائري وقدم إستقالته , لكن الجماهير لم تقتنع بل أخذت برفع سقف مطالباتها , وكأنها تريد أن تقتلع النظام بأكمله وتأتي بمن لا يحسن إدارة البلاد , ولا تزال ترفع سقف مطالبها وهي لا تدري إلى أين المسير , مما يعني أن الفوضى ربما ستحل والخسران سيكون , فلماذا لم تستثمر بإنجازها وتعلن التغيير الذي تريده عبر صناديق الإقتراع؟
وفي السودان تكرر المشهد وثارت الجماهير وتآزر معها العسكر وتغير نظام الحكم , لكن الجماهير بلا قيادة واضحة وتريد أن تدفع بالبلاد إلى الفوضى , وهي في ذات المسار الذي تتصاعد فيه سقوف المطالبات , وتتناحر الأحزاب على المكتسبات , مما أدى إلى تداعيات ربما ستتنامى وتدخل البلاد في طريق مجهول من الصراعات القاسية.
لقد أنجز السودانيون هدفا مهما وكان عليهم أن يستثمروه بمعقولية ومسؤولية وآليات معاصرة , وأن يحققوا ما يتصل به من أهداف عبر صناديق الإقتراع , لكنهم كما الحال عند الجزائريين يبحثون عن المحق والإقتلاع , وهذا لا يمكنه أن يتحقق في هذا الزمن المحكوم بقوى متربصة للإفتراس.
وما يجري يدل على أن الثورات العربية لا تزال تعاني من غياب البوصلة الفكرية والثقافية والفلسفية , وتنعدم فيها القيادات الوطنية الصادقة الناكرة للمنافع الشخصية والحزبية , والمكاسب والمناصب والسلطة , وفي هذا تكمن مقبرة الإرادات العربية.
فهل أن تلك السيدة البولوندية أكثر وعيا من قادة الويلات العربية؟!!