تعارف الفقه الدستوري على أسلوبين رئيسيين لنشأة الدساتير، الأول هو الأسلوب غير الديمقراطي، والآخر الأسلوب الديمقراطي.
ويصنّف الفقه الأسلوب غير الديمقراطي إلى قسمين، وهما طريق المنحة لأن نشأة الدستور في هذه الحالة تعود إلى الإرادة المنفردة للحاكم أو الملك الذي يقرّر بمحض إرادته منح شعبه وثيقة الدستور بما يتضمنه من تنازل عن جانب من سلطاته للشعب(1)، والثاني هو طريق العقد وبموجبه ينشأ الدستور باتفاق بين الحاكم وممثلي الشعب، وتعد هذه الطريقة أكثر تقدماً؛ لأن الشعب فيها يكون قد قطع شوطاً في طريق الديمقراطية(2).
أما الأسلوب الديمقراطي فهو يصنّف أيضاً إلى قسمين، الأول هو أسلوب الجمعية التأسيسية وبمقتضاه أن يختار الشعب أعضاء هذه الجمعية عن طريق الانتخاب ويعهد إليها مهمة وضع الدستور ويعد كأنه صادراً عن الشعب، ويعدّ نافذاً بمجرد صدوره ولا يتوقف على موافقة لاحقة من الشعب(3)، أما الثاني هو أسلوب الاستفتاء الدستوري ويعرّف بأنه عرض مشروع الدستور بعد إعداده على التصويت للموافقة أو الرفض(4).
ويمثل هذا التقسيم فكرة الصراع بين الحاكم والمحكوم، فإذا حصل الشعب على الحرية نتيجة هذا الصراع، فإن الملك سوف يضطر للتنازل عن بعض الحقوق، وكلما ازداد الصراع بينهما تتخذ النصوص صورة التعاقد بين الملك وهو يتنازل عن السلطة وبين الشعب وهو يكتسب هذه السلطة، فإذا أسفر الصراع عن انتصار الشعوب فإننا سنكون أمام نتيجة منطقية مفادها أن يضع الشعب إما بواسطة ممثليه (الجمعية التأسيسية) وإما بنفسه (الاستفتاء) النصوص الخاصة بنظام الحكم(5).
لكن قد يُطرح سؤال مفاده: هل يمكن أن ينتج عن المعاهدة الدولية إنشاء دستور، وبمعنى آخر: هل يمكن وضع دستور بناءً على معاهدة دولية؟.
يعرّف استاذنا الدكتور عصام العطية المعاهدة الدولية بأنها عبارة عن اتفاق بين شخصين أو أكثر من أشخاص القانون الدولي العام ترمي إلى إحداث آثار قانونية معينة(6).
وهذا يعني: أن المعاهدة يمكن أن تعقد بين الدول أو بين الدول والمنظمات، أو بين المنظمات نفسها(7).
ويقول الأستاذ الدكتور عبد الحميد متولي، إن اساتذة الفقه الدستوري، لاسيما في فرنسا ومصر، قد فات عليهم أن يذكروا نوعاً من الدساتير، عند تصنيفهم لأساليب نشأتها، وهذا النوع هو الدساتير التي يرجع نشأتها إلى معاهدات دولية(8).
ويعزّز أنصار اتجاه الدكتور متولى رأيهم بعدد من أمثلة الدساتير التي وضعت عن طريق المعاهدات الدولية، منها دستور مملكة بولندا لسنة 1816، ودستور الامبراطورية الألمانية لسنة 1817، والدستور الأردني (القانون الأساسي) الصادر في 16/ 4/ 1928، والذي وضع بناءً على قرار دولي تمثل في صك الانتداب، كما يرى أصحاب هذا الاتجاه أن صياغة دستور البوسنة والهرسك المعمول به حالياً قد حصلت بموجب معاهدة من دون أن يعرض للاستفتاء الشعبي كما أنه لم ينل موافقة المجلس النيابي(9).
ويذهب هذا الاتجاه أيضاً، إلى إمكانية وضع الدساتير استناداً أو تحت تأثير معاهدة دولية تتم بين طرفين، وتحدد هذه المعاهدة شكل الدولة ونظام الحكم والحقوق والحريات الأساسية، حتى لو أعطي فيما بعد إلى جمعية تأسيسية للنظر فيه ومن ثم إقراره من دون عرضه على الشعب، وبهذا يكتسب هذا الدستور وجوده من المعاهدة الدولية التي رسمت معالمه(10).
لكن الاستاذ الدكتور رمزي طه الشاعر كان له رأي مخالف، على أساس أن المعاهدة الدولية لا تصلح لوضع الوثيقة الدستورية، أنما تنظّم العلاقة بين دولة وأخرى، بينما تتولى الوثيقة الدستورية تنظيم علاقات الهيئة العليا في الدولة بعضها ببعض، كما تنظّم علاقة الدولة بالأفراد الخاضعين لسلطاتها(11).
وبحسب الدكتور الشاعر، فإن أسلوب نشأة وثيقة الدستور يتعيّن أن يكون منبثقاً وصادراً من داخل الدولة ومن السلطة التأسيسية فيها.
وعلى ذلك، فإن كانت المعاهدة تصلح لنشأة الوحدة السياسية أو الدولة، فهي لا تعدُّ عند الدكتور الشاعر طريقاً مباشراً أو غير مباشر لوضع الدساتير.
كما أن المعاهدة لا تسري داخل الدولة إلا إذا أقرّتها السلطة المختصة فيها، وفي هذا ما يجعل الوثيقة الدستورية صادرة من هذه السلطات وليس عن طريق المعاهدة الدولية، فبعد أن تفرض المعاهدة على الدولة بعض القواعد الدستورية، فإنها تتطلب بحسب الدكتور الشاعر، ان توضع موضع التنفيذ، بما يعني أنها تستلزم أن تدرج هذه القواعد في مواد توضع في صلب الدستور، وذلك لن يحصل إلا بالطرق المعروفة لوضع الدساتير وهي (المنحة، العقد، الجمعية التأسيسية، الاستفتاء الدستوري).
ويخرج الدكتور الشاعر إلى نتيجة مفادها: أن معرفة طريق نشأة الدستور الذي وضعت مبادئه بموجب معاهدة يتطلب البحث عن السلطة التي لها داخل الدولة الاختصاص في إقرار المعاهدة، ومن ثمَّ تعدّ هذه الوثيقة الدستورية صادرة عن تلك الجهة.
يبدو من الاتجاهين، أن الخلاف هو من الناحية المرحلية لنشأة الدستور، على أساس أن اتجاه الدكتور عبد الحميد متولي يركّز على الجهة التي وضعت نصوصه، فيما يذهب اتجاه الدكتور رمزي طه الشاعر إلى الجهة التي تولت عملية إقراره.
وعلى هذا الأساس، يمكن القول أن المعاهدة يمكن أن تكون السبب في كتابة مسودة الدستور أو وضعه بعض أحكامه، لكن العبرة تكون بمن له الاختصاص بوضعه موضع التنفيذ.
فإذا ما سلّمنا أن المعاهدات وضعت بعض بنود الدستور أو رسمت أفكاره أو حتى أنها نظّمت جميع النصوص، فإن سريان هذه المعاهدة داخلياً يتطلب الموافقة عليها من الجهة المختصة على المستوى الداخلي.
وهذه الموافقة إذا لم تحصل باستفتاء شعبي، أو من قبل جهة انتخبها الشعب لتتولى عملية الموافقة على مشروع الدستور، فطبيعة الحال سنكون أمام أسلوب غير ديمقراطي لنشأة الدستور.
…………………………..
الهوامش
(1) د. عبد الغني بسيوني عبد الله، الوسيط في النظم السياسية والقانون الدستوري، مطابع السعدني، مصر، 2004، ص467.
(2) د. ماجد راغب الحلو، أنظمة الحكم، مكتبة عين الوطنية، الامارات، 1991، ص43.
(3) د. جابر جاد نصار، الوسيط في القانون الدستوري، دار النهضة العربية، مصر، 1998, ص61.
(4) د. ماجد راغب الحلو، الاستفتاء الشعبي، الطبعة الأولى، مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، 1980، ص181
(5) د. عبد الفتاح ساير داير، القانون الدستوري، الطبعة الثانية، مطابع دار الكتب العربية، مصر، 2004، ص118.
(6) د. عصام العطية، القانون الدولي العام، منشورات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، العراق، 1992 ص78- 79.
(7) د. محمد نصر محمد، الوافي في شرح المعاهدات الدولية، الطبعة الأولى، مكتبة القانون والاقتصاد، المملكة العربية السعودية، 2012، ص12.
(8) د. عبد الحميد متولي، القانون الدستوري الأنظمة السياسية، الجزء الأول، الطبعة الأولى، دار المعارف بمصر، 1961، ص47.
(9) د. خليل حميد عبد المجيد، القانون الدستوري، العاتك لصناعة الكتب، العراق، 2018، ص125- 126.
(10) د. صلاح البصيصي، المعاهدة الدولية كطريق لوضع الدستور في ضوء قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية، بحث منشور في مركز دراسات الكوفة، العراق، المجلد: 5، العدد: 7، بتاريخ (31/ 1/ 2008)، ص48.
(11) د. رمزي طه الشاعر، النظرية العامة للقانون الدستوري، الطبعة السادسة، دار النهضة العربية، مصر، 2020، ص170- 171.