على اي من الوجوه رأينا السياسة (علما او نهجا) وعلى اي من الوجوه جعلنا التاريخ (فلسفة او علما). وجدنا هنا علاقة جدلية ثابتة الاتجاه بين السياسة والتاريخ، فالسياسة في التاريخ هي روحه ان شئنا وهي هيكله ان اردنا وما عداها صور واشكال ترتبط به على قدر، ولا يضر في هذا الصدد ان ذهبنا الى الماضي نبحث عن الدليل او اتخذنا المستقبل ورقة بحث فالنتيجة لن تختلف والحصيلة لن تتغير مادامت المنطلقات متماثلة والاسباب متناظرة افتراضا او احتمالا، او ترجيحا، الا اننا نستطيع تمييز هذه العلاقة الكلية الى علاقات ثانوية اساسية وليست ثانوية فرعية، اذ ان السياسة في التاريخ تعكسها سيرة القادة والملوك والرؤساء ومن هم بامرتهم من الخط الثاني في المسؤولية السياسية على نحو خاص، ومن هذه السير جمعاء نشتق قوانين العلاقات والاجراءات، ولنا ان شئنا ان نتعامل مع قوانين العلاقات والاجراءات بتطبيقها عدى كل سيرة سياسية لنكشف عن درجة المطابقة والتوافق او المتناقضة والتضاد، وهذا الانتحاء يفترض معيارية القوانين وصدقها قبل اي شيء، فقانون المعاملة بالمثل Reciprocity يعد قاعدة من قواعد العرف الدولي تقضي بتعهد دولة ما بمعاملة ممثلي دولة اخرى ورعاياها وتجارتها بشكل مماثل او معادل للمعاملة التي تتعهد هذه الاخيرة بتقديمها او تقدمها فعلا.
وقد نشأت هذه القاعدة عن مبدأ مساواة الدول من الناحية القانونية، وعن التقاليد المتبعة ومقتضيات المجاملة الدولية، بحيث تطبق في المجالات التي لا تترتب على الاخلال بالعلاقات الدولية اية مسؤولية، ومن هذا المفهوم ولد تعبير: (على اساس المعاملة بالمثل).
هنا نتوقع اذاً مماثلة في سياسات الدول العلائقية الدبلوماسية ازاء بعضها بعضا، الامر الذي يضغط علينا تماما في استثناء هذه القاعدة- القانون – في علاقة العراق بمجموعة الدول التي اخذت من النفوذ الامريكي المباشر او عبر قرارات مجلس الامن الدولي ذريعة للتعامل السلبي مع العراق ومن طرف واحد ـــ لاسيما خلال عقد التسعينات ــــ وكانت هذه المعاملة (بغير المثل) ستبقى دائمة او الى غير حدود موصفة او معروفة ــــ حتى بعد احتلاله ــــ وهو في حقيقة الامر موقف انتهازي رخيص قد يفضي التاريخ الى نقيضه في زمن ما وتحت ظروف مع غير العراق، واما العراق نفسه فان لجوءه الى التعامل على اساس المماثلة، ليس بعيدا عن ارادته ولن يصير غريبا على اجراءاته في المستقبل ــــــ في حالة وجود حكومة وطنية ـــــــــ فالتاريخ هنا يفرز وقائع متقابلة ولا يقر بنصف الانصاف في التعامل، اي التضحية من جانب والاستحواذ من جانب اخر..
هنا يجدر بنا الانتقال الى متعاكسة العلاقة بين السياسة والتاريخ فنجعلها علاقة تفصح عن موقع التاريخ في السياسة وليس وضع السياسة في التاريخ، فنجد ان السياسي الذي لا يفقه من التاريخ اسباب احداثه ونتائجها وليس
مجرد سرداً ووصفها هو الذي يسلك سلوك اللحظة الراهنة او الوقت الحاضر ويترك المستقبل ومتغيراته طبقا لمعطيات التاريخ من غير مراجعة او تمحيص ومن دون عظة او عبرة وبذلك يتعرض للخسارة وفقدان الثقة عندما تنقلب الموازين لتعود الى طبيعتها السوية.
ان منطق (المصالح تسبق الاخلاق) هو منطق سفلي ومتخلف وكسير وهو منطق تناقضي في اخر الامر امام منطق (الاخلاق تسبق المصالح) السوي في اول الامر وآخره، ولا نعتقد ان قاعدة المعاملة بالمثل ابتعدت عن حيثيات المنطق السوي باسبقية اخلاق على المصالح، لان المصالح الناشئة في الالتزام بالاخلاق المعيارية فلسفة هي اكبر واكثر تماما من المصالح المتولدة من ترجيح المصالح على الاخلاق، لان التخلي عن الاخلاق المعيارية (سياسيا) يفضي الى تقلص في المصالح الآنية والمستقبلية نتيجة انحسار الثقة وانطلاق المعيقات المستترة.
لا نستطيع هنا مكافأة السياسي الانسان بالدولة السياسة، فالاول يتصرف باطار الثانية وهو جزء منها في الغالب الاعم وربما يصبح المؤثر الاكبر فيها، الا ان العلاقات الدولية لم توصف في يوم ما بانها علاقات شخصية برغم تأثير العلاقات الشخصية في نماء العلاقة الثنائية او انحسارها دوليا.
من هنا فان توثيق تاريخ علاقة العراق بالدول الاخرى، اقليميا وقاريا ودوليا، ولا سيما خلال عقد التسعينيات عقد الحصار… سينحو منحى دوليا وليس شخصيا وذلك بتحديد طبيعة تعامل كل دولة مع العراق في مراحل صدامه مع مجلس الامن الدولي عبر الولايات المتحدة وبريطانيا حصرا، وان قاعدة المعاملة بالمثل ستكون محور بحث هذه العلاقة وسببيتها بغية تحديد ادق النتائج واقومها مع وضعها بين يدي الاجيال القادمة لدراستها واستشراف افاقها ومقدماتها على نحو موضوعي شامل، اذ من غير المنطق المعقول او المقبول ان ابقت وقتئذ حفنة من الدول اموال العراق مجمدة في ارصدة مصارفها مثلا وشعب العراق كان في حاجة الى كل دولار ليس للغداء والدواء فحسب، بل لكل خدماته الداخلية ومشروعاته الاقتصادية واحتياجاته التربوية ومعالجة مشاكله البيئية، فهل هذه الدول تتعامل مع العراق بالمثل؟! وهل للعراق وقتئذ نية او رغبة وفرصة لحجز ارصدتها واين؟ وهل يملك وقتها مثل هذه القدرة؟ انه موقف لا اخلاقي تحت ذريعة عشر اخلاقية ومعشار قانونية بل هو تنكر لكل التصورات المستقبلية التي نراها واضحة عندما تجوب سفن العراق النفطية تنقل صادراته بالاسعار الجيدة لكي تنمو صناعته لتعويض ما فات وتغدق على اسواقه حاجاته من غير استيراد يتخم خزائن الذين جمدوا اموال العراق في تلك السنين العجاف ثم يأتون الينا اليوم يتسكعون على ابواب الوزارات يتسولون العقود مهما كانت قليلة، فما رأينا مستقبلا وضاء اكثر مما نراه من خلال عتمة هذه السنوات تعاكسته الذين اخذوا على انفسهم عهدا باحتذاء الاخلاق وتناول ما في الاعقاب.
*[email protected]