18 ديسمبر، 2024 9:31 م

المعادلة الصعبة في اخراج الأمريكان من العراق

المعادلة الصعبة في اخراج الأمريكان من العراق

تتكرر في الآونة الأخيرة تلك الأسطوانة التي سمعناها مرارا من بعض الأطراف السياسية العراقية حول اخراج القوات الأمريكية من العراق . وتبعها مؤخرا تصاعد الهجمات المتتالية من قبل من يتخفون تحت مسمى ( المقاومة الاسلامية ) ضد المواقع التي تتجمع فيها من بقي من تلك القوات بشكل غير مسبوق في تناغم على ما تروج له المقاومة بدعم حرب غزة ، في حين أن الحرب هناك تقع بين حماس والجيش الاسرائيلي وليس مع القوات الأمريكية التي لم تعتد أو تحتل أرض فلسطينية ما عدا أن أمريكا وبحكم علاقتها الاستراتيجية مع اسرائيل تقدم لها دعما سياسيا وعسكريا ضمن اطار اتفاقات مسبقة بين الدولتين مثلما قدمت روسيا الدعم للنظام السوري وما قدمتها إيران للعراق في التصدي لتنظيم داعش الارهابي .

أما في العراق فإن التواجد الأمريكي لا يعدو سوى بضعة آلاف من المستشارين والمدربين للقوات العراقية حسب الاتفاق الأمني الاستراتيجي الذي وقعه العراق مع الولايات المتحدة وجرى ذلك الاتفاق برضا وقبول الجانب العراقي . وباعتقادي أنه لو كان الجيش العراقي وقواته الأمنية قادرة ومؤهلة للتصدي للمخاطر المحدقة بالعراق وبإمكانها مواجهة الأعداء الوافدين ( القاعدة وداعش ) وغيرهما لما كان هناك أصلا أي حاجة لإبقاء هذا الجزء الصغير من القوات الأمريكية للاستفادة من خبراتها وقدراتها الاستخبارية والتكنولوجية في التصدي لتلك المخاطر .

و لا ننسى أنه مع خروج القوات الأمريكية عام 2011 بدأت المخاطر تتعاظم في البلاد وكادت الفتنة الطائفية أن تطل برأسها مجددا ، ولعل نشوء تنظيم داعش الارهابي لاحقا ثم احتلاله لمساحات شاسعة من أراضي العراق هو نتاج مغادرة القوات الأمريكية وسيطرتها حينذاك على الملفين العسكري والأمني . ويجب أن لا ننسى أيضا بأن ما بقي من القوات الأمريكية بعد الجلاء لعبت دورا مهما للغاية في ملاحقة عناصر هذا التنظيم ووجهت لها ضربات موجعة وكانت طائراتها تدك معاقل التنظيم في أرجاء العراق والتي كانت ولا تزال عصية على القوات العراقية بإمكاناتها العسكرية المحدودة . ولا يمكن انكار حقيقة أن تلك الضربات الأمريكية بالذات أنهت إلى حد ما التهديدات الداعشية وأصبح العراق وخصوصا عاصمته بغداد ينعم بالسلام والأمن بعد اضعاف نشاطات هذا التنظيم الإرهابي .

إن تصاعد الهجمات الأخيرة على المراكز العسكرية للقوات الأمريكية من قبل من يطلقون على أنفسهم ( المقاومة الاسلامية ) دون الكشف عن هويتهم وانتماءاتهم خوفا من المساءلة القانونية رغم أن ولائهم معروف لجهة خارجية ، بذريعة اخراج من تبقى من القوات الأمريكية وضرباتها المكررة لمقر السفارة الأمريكية في بغداد والتي تتسبب بتصاعد الانتقادات الدولية بما فيها دعوات الأمين العام للأمم المتحدة ضد العراق بشأن حماية البعثات الدبلوماسية على أراضيها تدل هذه الهجمات على ضعف السلطة العراقية أمام الخارجين على القانون أيا كان انتماؤهم السياسي أو الطائفي ، وهي تدلل أيضا على أن هذه المقاومة تلحق ضررا فادحا بسيادة العراق وقدرة حكومته على إدارة شؤون الدولة وتبين فشله في الالتزام بأهم واجباته تجاه المجتمع الدولي وهو حماية البعثات الدبلوماسية .

وحين يتساءل أحد الكتاب العراقيين هل أن الوجود العسكري الأجنبي يشكل خطرا على سيادة العراق وأمنه ، ويجيب بنفسه ( نعم نعم نعم ) ، فإنه بهذا الجواب يخادع نفسه ويخدع الآخرين معه ، صحيح أن لا أحد يرضى باحتلال بلده من قبل الغير ولا أن تتدخل أية دولة بشؤونها الداخلية لكن ما نراه اليوم هو أن سيادة العراق منتهكة بالفعل من قبل العديد من القوى الأجنبية التي جعلت من ساحة العراق مسرحا لصراعاتها ، فالسيادة العراقية منتهكة حين تتواجد مئات القواعد العسكرية التركية داخل الأراضي العراقية بحجة مطاردة عناصر العمال الكردستاني الذين يتخذون جبال قنديل مقرا لهم وليس المدن والأقضية بعمق الأراضي العراقية والتي تتعرض يوميا لعشرات الضربات الجوية والمدفعية وتقتل العشرات من مواطنيها ، فلماذا لا تتحرك المقاومة الاسلامية باتجاه طرد القوات التركية من قواعدها داخل العراق وهي في كل الأحوال قوات احتلالية لا يحظى تواجدها بأي سند قانوني أو قرار من البرلمان العراقي !.

ليس من شأن الميليشيات ولا من يسمون أنفسهم المقاومة الاسلامية أن يخرجوا القوات الأمريكية من العراق أو اعلان الحرب ضدها ، فهذا شأن الدولة التي عقدت اتفاقا أمنيا استراتيجيا مع أمريكا والدولة هي صاحبة قرار كهذا بعد الدخول في مفاوضات مع الجانب الأمريكي ثم  عرض الأمر على البرلمان العراقي الذي له وحده اصدار قرار الحرب ، وإلا فإن ما يجري على الساحة العراقية حاليا من هجمات غير مسبوقة ضد المراكز العسكرية والسفارة الأمريكية لا يخدم مصلحة العراق بل ينتقص من سلطته وسيادته ، ثم أن رد الفعل تجاه تلك الهجمات لا يقل خطورة على الوضع الأمني ، فكما نرى اليوم فإن أي ضربة ضد تلك القوات تواجه بتدخل عسكري مباشر ضد القيادات التي تنضوي تحت لواء المقاومة الاسلامية مما يؤدي في المحصلة إلى دورة عنف جديدة ستعصف بالعراق .

لقد أعلن رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني أنه يحتاج إلى بعض الوقت لترتيب الأوضاع بما يمكنه من التفاوض مع الجانب الأمريكي لحل المشكلة ، ونحن نرى بأن التفاوض بين الدولتين أفضل من توجيه بضعة صواريخ ودرونات إلى السفارة أو إلى معسكر الأمريكيين والتي تسقط معظمها إن لم نقل كلها قبل إلحاق أي ضرر بالجانب الآخر وهي كلها محاولات عقيمة لا تسمن ولا تغني من جوع .

ويجب على المقاومة الاسلامية أن لا تكرر خطأ حماس حين أقدمت بإمكانيات متواضعة على مواجهة غير متكافئة ضد القوات الاسرائيلية المدججة بأفضل أنواع الأسلحة والمدعومة من قبل أمريكا وحلفائها ، وأن لا تجر العراق إلى مستنقع لا يمكن الخروج منه في مواجهة غير موفقة . على المقاومة الاسلامية أن تترك الأمر للحكومة والقيادة العراقية لكي تعالج بهدوء وروية هذا الموضوع دون اثارة الغضب الأمريكي وتحويل العراق إلى ساحة لحرب أخرى ، فقد شبعنا وارتوينا من الحروب العبثية التي دفع العراقيون ثمنا باهضا من أرواح شبابهم والتي عطلت مسيرة التنمية واعادة بناء العراق الجديد الذي انتظره العراقيون منذ أكثر من ستين عاما من حكم الدكتاتوريات المتعاقبة .