في ظل الظرف الحالي لا يمكن لمظاهر الاحتجاج والدعوة إلى الإصلاح أن تقدم حلولا جذرية حقيقية للأزمة السياسية، كما أن الانتصار على داعش لن ينهي تلك الأزمة إذا أصرت الأحزاب الحاكمة على منهجها.
لم تكن المظاهرات الأخيرة في ساحة التحرير في بغداد يومي الثاني عشر والسابع عشر من هذا الشهر سوى مظهر جزئي من المأزق الذي وصلت إليه العملية السياسية في العراق القائمة على المحاصصة الطائفية.
هذه الظاهرة التي تكررت، ترأس فعاليتها الشعبوية رجل الدين مقتدى الصدر بسبب ما يمتلكه من خصوصية سياسية ودينية ومذهبية كمشاكس ومعرقل لسياسات استئثار الأحزاب والتكتلات الشيعية الأخرى بالحكم، ولأنه وضع نفسه في موقع الاصطفاف إلى جانب الجمهور الشيعي الناقم على السياسات التي قادتها أحزاب السلطة رغم أنه أحد أركانها.
القطب الشيعي المهم الذي يقف بوجه مقتدى الصدر هو نوري المالكي ويسعى إلى إنهاء دوره السياسي، لكن مشكلة المالكي هي عدم قدرته على الدفاع عن تراكم الأزمات وتصاعد الفساد إلى درجة إفلاس الحكومة، والصدر يعبئ جمهوره على مطالب شعبية عادلة لا تمس الشيعة فحسب وإنما عموم العراقيين.
مع ذلك يعتقد الكثير من المراقبين إن الصدر هو جزء من العملية السياسية ومنظومة الحكم، لكنه يعتقد بأحقيته بدور مؤثر في قرارات النظام الجوهرية داخليا وخارجيا، ولا يستبعد بأنه يطمح إلى رئاسة الحكومة باسم الشيعة سواء بشخصه أو بمن يعتمده من أعوانه، وهذا غير مسموح به من قبل قيادة حزب الدعوة المتحكم الأول بالسلطة منذ عام 2005 وإلى حد الآن.
وقد انفتح الطريق أمام الصدر الذي قاد الحراك الشعبي الشيعي لمواجهة الحكومة، لكنه دائما ما يتراجع في منتصف الطريق، وقد أعلن قبل عدة أيام أن هدفه ليس تغيير النظام القائم وإنما إصلاحه.
وكان من الطبيعي أن تجد مؤسسة الحكم الذرائع الكثيرة لتحويل المعركة السياسية المباشرة بينها وبين الجماهير إلى مفردات هامشية وأن تستظل بشعار “كل شيء من أجل المعركة” لوصف تلك الاحتجاجات العفوية بأنها “إعاقة لمسيرة النصر على داعش والخروج على القانون وإثارة الفتنة وتسلل المندسين الداعشيين والبعثيين وغيرهم”، أو بعدم التردد في تحميل مقتدى الصدر مباشرة المسؤولية عن كل ما يحدث، بعد أن وصلت معركة الصراع الشيعي الشيعي حول السلطة إلى العلن.
رغم المهادنات المؤقتة التي يعقدها الصدر مع رئيس الحكومة حيدر العبادي، إلا أن خصمه الأول هو المالكي، حيث يتذكر كيف دعمه الأميركان في حربه ضد مقتدى الصدر، لأنهم يعتبرونه عدوا لهم خلال فترة الاحتلال، ويعتقدون أن إيران كانت تدعم نشاطات المقاومة المسلحة الصدرية، إضافة إلى نشاطات المقاومة السنية لكي تزعج الأميركان وتعوّق هيمنتهم على المشهدين السياسي والعسكري في العراق الذي يزاحم مشروع النفوذ الإيراني. وفي كل منازلة احتجاجية جماهيرية وآخرها تظاهرة الحادي عشر من الشهر الجاري يصف المالكي الصدريين بالغوغائيين والخارجين عن القانون.
كما انعكست حمى الصراعات على القطاع الأمني المنهار المضاف إلى احتلال داعش للأراضي العراقية. وسلسلة التفجيرات الكبيرة داخل بغداد تشعل حرب الاتهامات بين أذرع المؤسسات الأمنية في وزارة الداخلية وعمليات بغداد المتعددة الولاءات لحزب الدعوة وللتيار الصدري ومنظمة بدر ومجلس الحكيم، ويقال إن تلك التفجيرات وما ينتج عنها من ضحايا بريئة تحصل بمواقيت ذات معان سياسية تؤشر إلى أي مدى وصلت حالة الصراع بين أطراف شيعة الحكم.
الصراع الحالي بين الأحزاب الشيعية يتوزع على الجميع، فالمالكي ليس الوحيد في خصومة الصدر في معركة الهيمنة على السلطة، وإنما هناك أطراف مهمة مثل منظمة بدر وزعيمها هادي العامري وفصائل الميليشيات الشيعية التي لا يروق لها الدور المثير والمقلق لزعامة الصدر الذي يهدد تلك القوى في قيادة السلطة. أما الطرف الذي يأخذ أهميته داخل البيت الشيعي فهو العبادي، كونه رئيسا للوزراء، وهو الحالم بالزعامة السياسية الشيعية فقد ظل منذ تسلمه رئاسة الوزراء بعد المالكي عام 2014 يلعب لعبة التوازنات الفاشلة رغم ما وفرته له ظروف الدعم الداخلي الشعبي والإقليمي والدولي من فرصة كبيرة لكي يتحول إلى زعيم لكل العراقيين، وأن يعيد بناء نظام سياسي لا طائفيا مدعوما من العرب السنة والأكراد، وقد يكون راغبا بتلك الفرصة مع نفسه، لكنه لا يستطيع مواجهة الحيتان الكبيرة خصوصا أنه عضو في قيادة حزب الدعوة ومسؤوله نوري المالكي الحالم بالعودة إلى الحكم مرة أخرى.
وسبق للعبادي أن فشل في مناورة التحالف الشكلي مع مقتدى الصدر في حملته “الإصلاحية” العام الماضي، والتي كانت تعني محورا مضادا للمالكي، ففاجأه الصدر بقصة حكومة التكنوقراط التي لم تر النور، وتكررت أخيرا في قضية إقصاء الهيئة العليا للانتخابات التي لن تخرج عن لعبة المحاصصة وهيمنة الأحزاب الكبيرة في الانتخابات المقبلة، خصوصا بما يقدمه رئيس البرلمان سليم الجبوري المنفذ لرغبات شيعة السلطة من دعم لمشروع استمرارهم بالهيمنة لمرحلة الانتخابات المقبلة من خلال إعادة إنتاج هذه المفوضية الانتخابية على أسس طائفية.
العبادي يعتقد أن بإمكانه أن يجير فرصة الانتصار على داعش في الموصل لمصلحته في الأيام المقبلة، متصورا أن زعامات الميليشيات لن تحصل على المكانة الاعتبارية مثله باعتباره القائد العام للقوات المسلحة ومن ضمنها هيئة الحشد الشعبي التي تضم تلك الميليشيات، وتقترب أمامه الفرصة يوما بعد يوم لكنه اختار الطريق الخطأ، وسيجد الظروف أمامه معقدة في ما يتوقع حصوله من تطورات جديّة في المعركة السياسية للحكم بعد نهاية داعش في العراق، فمن خلف هؤلاء الحكام تقف مصالح دولتين نافذتين هما إيران وأميركا، ولا يعرف أحد بماذا سيفاجئ الرئيس الأميركي دونالد ترامب العراقيين قبل نهاية معركة الموصل خصوصا بتشابك الملفين الإيراني والعراقي، وعدم رغبة القائمين على الحكم ببغداد في فك هذا التشابك رغم ما يشكله من أذى للعراق.
في ظل الظرف الحالي لا يمكن لمظاهر الاحتجاج والدعوة إلى الإصلاح أن تقدم حلولا جذرية حقيقية للأزمة السياسية، كما أن الانتصار على داعش لن ينهي تلك الأزمة إذا أصرت الأحزاب الحاكمة على منهجها، وستتضاعف مشاكل الناس في المحافظات العربية السنية وسط عمليات سحق السنة من قبل المتطرفين داخل البيت الشيعي.
ولعله من باب التذكير أن شيعة السلطة برروا مواقفهم السابقة لعام 2003 في الاستعانة بالقوتين الخارجيتين، إيران وأميركا، للقضاء على نظام صدام لأنه دون هاتين القوتين العسكريتين لما تمكنوا من الوصول إلى الحكم، إلى جانب ترويجهم لشعار “مظلومية الشيعة” لكي تنحصر المعارضة ومن ثم السلطة بحجمها الطائفي الضيق.
وإذا كانت تلك المبررات مقبولة، فلماذا يحرّمون اليوم على العرب السنة دعوتهم إلى الاستعانة بإخوتهم العرب للمساعدة على رفع الظلم عنهم، بعد أن وصلت عمليات سحقهم مدى غير معقول، وما ذنب المثقفين والعلماء من بينهم الذين خدموا بلدهم سنوات طويلة لكي يعزلوا ويحاربوا بأرزاقهم ويحرموا من حقوقهم، في وقت منحوا العشرات من الألوف ممن أسموهم وهميا “المجاهدين الشيعة في عهد صدام” العطايا والمنح والرواتب.
وإذا ما تم إيقاف هذا المسلسل الطائفي من قبل عقلاء شيعة السلطة فسيكون ذلك مخرجا مشّرفا لهم مما يعيشونه من مأزق سيتسع بعد نهاية داعش لأن الاستحقاقات السياسية كبيرة وثقيلة، وستحترق أوراق الاتهامات بالداعشية لكل مخالف في الرأي والموقف للسلطة.
في ظل الفساد والفشل في مختلف القطاعات، فإن الصورة أمام الأحزاب الشيعية تبدو قاتمة، حتى وإن جهزوا عدتهم التقليدية للفوز بالانتخابات المقبلة عام 2018، فأي إنجاز يقدمونه لجمهورهم الشيعي الذي شكل عماد الحراك الشعبي خلال السنوات الثلاث الماضية؟
ولن يكون الانتصار في معركة طرد داعش من حصة سياسيي الشيعة فهي حصة جميع العراقيين، مع الاحترام لكل قطرة دم سفكت من أبناء الجنوب الشيعة في سبيل الوطن. ولعل العراقيين يتساءلون؛ لماذا فشل العبادي في اختيار الطريق الصعب لكي يقترب من أحلامهم القريبة بتعديل العملية السياسية ونقلها إلى المكان الوطني الصحيح الذي يخدم عرب العراق، الشيعة والسنة، في وقت سيؤول مصير الأكراد إلى الانفصال التام عن العراق، وما زالت الفرصة التاريخية قائمة أمامهم لتحقيق هذا الهدف؟
هذه المرحلة بحاجة إلى رجال قادرين على تكسير قيود المحاصصة والاستفراد الطائفي إلى الفضاء الوطني. ومستقبل شيعة السلطة غامض، وقد تتفكك هذه السلطة من داخلها وتنهار إن لم يتمكن العقلاء والوسطيون من السياسيين الشيعة من مواجهة هذا المصير المجهول بالقيام بتعديل جوهري للعملية السياسية، ولكن ليس على طريقة التسوية التاريخية لعمار الحكيم.
نقلا عن العرب