23 ديسمبر، 2024 3:27 م

المشهد العراقي بعد عام من الفتوى

المشهد العراقي بعد عام من الفتوى

في مثل هذه الايام انقضَّت عصابات “داعش” الارهابية على محافظة نينوى، وفي مثل هذه الأيام صدرت فتوى الجهاد الكفائي من قبل المرجع الديني آية الله السيد علي السيستاني.

   ولأن الفتوى ارتبطت بهجمة “داعش”، فمن الطبيعي جدا ان نقرأ الحدثين بعد مرور عام كامل عليهما بصورة متوازية، لنعرف من أين انطلق تنظيم “داعش”، وعلى ما استند، والى أين وصل، ولنعرف في الوقت نفسه لماذا تدخلت المرجعية الدينية بقوة هذه المرة، وما الذي أحدثته فتواها التأريخية؟.

  هذه الأسئلة وغيرها، لا بدَّ من أن تثار اليوم من قبل الكثيرين، في سياق المراجعات والقراءات لمجمل وقائع معطيات عام كامل، ربما يعتبر من أصعب وأعقد وأخطر المفاصل الزمنية التي مر بها العراق خلال الاثني عشر عامًا المنصرمة.

   وقد لا يخفى على المتابع  والمراقب، ان تنظيم “داعش” انطلق من واقع مأزوم من الناحية المذهبية، بسبب أجندات ومشاريع اقليمية ودولية سعت بكل ما أوتيت من قدرات وإمكانيات الى حرق دول وشعوب المنطقة بنيران الطائفية المقيتة.

   وإذا كانت ما يسمى بـ”ثورات الربيع العربي” قد تفجرت لأسباب اقتصادية وسياسية في الاطار العام، فإن قوى معينة-اقليمية ودولية-عملت على دفعها باتجاهات مذهبية وطائفية، وهذا ما لاحت معالمه في مصر، وتجلت واتضحت الى حدٍّ كبير في البحرين وسوريا والعراق ولبنان واليمن، وتنظيم “داعش” الارهابي مثّل احد الادوات المهمة في تلك الاجندات، وقبله “جبهة النصرة”، وعناوين اخرى، تختلف في الاشكال والمظاهر والمسميات وتلتقي في الجوهر والهدف والمضمون.

  ويخطئ من يحاول قراءة الواقع العراقي بعد سيطرة “داعش” على نينوى، بمعزل عن مجمل المشهد الاقليمي العام بكل تداعياته وارهاصاته، ويخطئ ايضا من عوّل-او يعول-على تنظيم “داعش” لتصحيح ما يسميه البعض بالتوازنات السياسية الخاطئة، في اشارة او ايحاء الى مظلومية المكوِّن السني في ظل العملية السياسية القائمة في العراق.

  فمن جانب، لم يعد وجود “داعش” مقتصرا على مساحات محددة في سوريا والعراق فحسب، بل انه امتد الى اليمن ولبنان ومصر وليبيا والجزائر وتونس ونيجيريا، وبالاتجاه الاخر امتد الى افغانستان وباكستان ودول اسيا الوسطى، واوروبا، اضف الى ذلك فإن دولا اخرى، من بينها المنظومة الخليجية والاردن وتركيا باتت مهددة الى حد كبير من التنظيم، رغم ان البعض منها دعمته وساندته ووفرت له الظروف والامكانيات الملائمة للتوسع والانتشار والتمدد. 

   ومن جهة اخرى، اثبتت كل الوقائع ان تنظيم “داعش” لا يستثني احدا في اجنداته الاجرامية، وما تعرض له ابناء المكون السني من قتل وتهجير واستباحة للحرمات والمقدسات والاعراض في نينوى والانبار وصلاح الدين وكركوك وغيرها يمثل دليلا دامغا على ان ذلك التنظيم الارهابي لم يكن صادقا في شعاراته ودعاواه بالدفاع عن السنّة.

   ولعل الارقام اليوم تتحدث بوضوح عن حقيقة التوجه الداعشي، فأعداد النازحين من المحافظات والمناطق ذات الاغلبية السنية يكاد يكون قد اقترب من أربعة ملايين شخص، وحجم التدمير للبيوت والبنى والمنشآت التحتية والخدمية بلغ مستويات مرعبة، وعدد الضحايا في تلك المحافظات والمناطق ما زال يتصاعد ويرتفع باضطراد مع كل جريمة يقترفها الـ”دواعش”.

   واذا لم يقدّر هذا الطرف او ذاك مبكرا حقيقة وعمق الخطر الـ”داعشي”، فإن المرجعية الدينية في النجف الاشرف كانت لها رؤية ثاقبة وعميقة، وقراءة استشرافية دقيقة وصائبة لمآلات الامور بعدما اجتاحت عصابات “داعش” نينوى ومناطق أخرى في العاشر من شهر حزيران/يونيو 2014.

   وهي-اي المرجعية الدينية-استندت في رؤيتها الى جملة حقائق، منها:

-ان الواقع التي تعيشه المؤسسة العسكرية العراقية، من حيث تعدد الولاءات واستشراء الفساد، وضعف-او غياب-العقيدة القتالية، يجعل من غير الصحيح التعويل عليها بالكامل لخوض معارك غير تقليدية في ظل ظروف صعبة ومعقدة، ومع عدو مستميت، لذلك لا بد من اشراك الحالة الشعبية-الجماهيرية في الحرب ضد “داعش”.

-عدم وضع حد لتنظيم “داعش”، وكبح جماحه بشكل سريع سيؤدي الى تقدمه وتمدده، بحيث يصعب في مراحل لاحقة مواجهته والتغلب عليه، خصوصا حينما يصل الى العاصمة بغداد والمدن المقدسة.

-ينبغي ان لا يقتصر الدفاع عن مكوَّن معين وعدم الدفاع عن مكوَّن اخر، ولا عن مدينة دون اخرى، بعبارة اخرى لابد ان ينظر الى العراق والعراقيين الذين يستهدف تنظيم “داعش” بنظرة واحدة، اذ على الشيعي ان يقاتل لحماية السني والكردي والتركماني والمسيحي والايزيدي والشبكي على حد سواء، وهكذا بالنسبة لأي مكون آخر.

-العراقيون هم اولى بالدفاع عن بلدهم من الآخرين، ومن الخطأ الاعتماد والتعويل على القوى الخارجية، والتصديق بشعاراتها وادعاءاتها، لاسيما تلك التي تحوم حولها الشبهات بدعم وتمويل الارهاب.

-ان مخططات داعش لاتقتصر على العراق فحسب، لذا فأن عدم تطويقه ومحاصرته وضربه بقوة وسرعة في العراق ستفضي الى استفحاله ووصوله الى بلدان اخرى، مما يعني مزيدا من المآسي والويلات، والكوارث والازمات.

  هذه الرؤية المرجعية الشاملة الجوانب والمتعددة الابعاد، تمخضت عن تشكيل قوات قتالية “الحشد الشعبي” تمتلك ارادة قوية ولديها استعداد عال للتضحية، وتعمل وتتحرك في اطار السياق القانوني والرسمي وبإشراف الدولة، وتمخضت تلك الرؤية ايضا عن تبلور رأي عام شعبي على مستوى الشارع العراقي بمختلف تلاوينه ومسمياته، رافض لمنهج داعش وسلوكياته الاجرامية، وتمخضت عن قناعة حقيقية وراسخة لدى شتى القوى والمكونات العراقية بأن الخيار الوطني هو الحاسم في توجيه مسارات الامور والكفيل بهزيمة الارهاب.

   وعلى ضوء ذلك، فإن الحشد الشعبي بات يشكل رقما صعبا ومؤثرا ومهما في اية معركة ضد “داعش”، مثلما يشكل الجيش رقما صعبا ومؤثرا ومهما لا غنى عنه، واذا بدا للوهلة الاولى بالنسبة للبعض ان الحشد الشعبي يحمل هوية مذهبية شيعية، او هكذا حاولت بعض الاطراف الداخلية والخارجية الايحاء بذلك، فإن انخراط أبناء العشائر السنية في محاربة داعش، والمسيحيين والايزيديين والشبك والتركمان، فضلا عن الاكراد، اما في اطار الحشد الشعبي، او بالتوازي والتنسيق والتعاون معه، جعل صورة العراق المتنوع تبرز واضحة وجلية في ذلك العنوان الكبير.

   اضف الى ذلك، ان الحشد بعناوينه المتعددة والعناوين القريبة، هو الذي حقق الانتصارات المهمة والكبيرة على تنظيم “داعش”، بدءا من جرف النصر، مرورا بمناطق حزام بغداد، والعظيم والضلوعية وبلد وبيجي وسامراء امرلى وتكريت، ولم يكن لقوات التحالف الدولي التي تشكلت بزعامة الولايات المتحدة الاميركية دور حقيقي في كل تلك الانتصارات، بل ربما تكون في بعض الاحيان قد عرقلت وعوقت، واكثر من ذلك دعمت وساندت عصابات “داعش”، لأن أهدافها لا تقوم على انهاء ذلك التنظيم مثلما يسعى العراقيون، وانما تقتصر على اضعافه وتحجيمه حتى يبقى اداة بيدها تستخدمه وتوظفه متى وأنَّى شاءت.

   ولا يختلف اثنان، على انه خلال عام كامل حصل اخفاق وتلكؤ وتراجع، لأسباب وظروف مختلفة، بيد ان حجم ما تحقق من مكاسب وانجازات يبقى كبيرا، وكبيرا جدا، وكل ما تحقق كان محوره ومحركه فتوى الجهاد الكفائي، وما سيتحقق لاحقا لن يخرج الا من رحم تلك الفتوى!.