18 ديسمبر، 2024 7:57 م

المشهد العراقي..اما الانسداد او التوافق الهش

المشهد العراقي..اما الانسداد او التوافق الهش

مرت خمسة شهور على اجراء الانتخابات البرلمانية المبكرة في العراق، وما زالت الخلافات والتقاطعات بين الفرقاء السياسيين تلقي بظلالها الثقيلة على عموم المشهد العام في البلاد، بحيث باتت افق الانفراج والحل الحقيقي بعيدة الى حد كبير عن متناول اليد، وبينما كان مأمولا ومتوقعا ان يصار الى معالجة الاشكاليات التي واجهت العملية الانتخابية والسياسية خلال المراحل السابقة، وتجنب المسارات الخاطئة التي اوصلت الى محطات حرجة ومنعطفات خطيرة، فأن الامور ازدادت سوءا، والسلبيات تفاقمت، لتضع الجميع امام تحد كبير واختبار عسير، يتطلب اتخاذ قرارات حاسمة وحازمة، تشتمل على تنازلات، او قل مساومات وترضيات، ومغادرة حالة الاصرار على التشبث بالسقف الاعلى للمطالب والاستحقاقات والطموحات والاشتراطات.

في السابق، كانت العقدة الاساسية تكمن بأختيار رئيس الوزراء في اطار المكون الشيعي، كما حصل في عام 2005، حينما احتدم التنافس بين القيادي السابق في حزب الدعوة الاسلامية ابراهيم الجعفري، والقيادي السابق في المجلس الاعلى الاسلامي العراقي، عادل عبد المهدي، لتنتهي الامور لصالح الاول، بفضل دعم واسناد التيار الصدري بزعامة السيد مقتدى الصدر. وبعد الانتخابات البرلمانية الاولى في نهاية عام 2005 على ضوء الدستور الجديد الذي تم التصويت عليه واقراره في الخامس عشر من شهر تشرين الاول-اكتوبر من نفس العام، لم يكن ممكنا للجعفري البقاء في المنصب، بسبب الرفض القاطع له من قبل اطراف المكون الكردي ومعظم اطراف المكون الشيعي، لتوكل المهمة للقيادي الاخر في حزب الدعوة، نوري المالكي.، وبعد اربعة اعوام، واستنادا الى مخرجات انتخابات عام 2010، ونتائجها المتقاربة بين ائتلاف دولة القانون بزعامة المالكي، وائتلاف الوطنية بزعامة اياد علاوي، احتدم التنافس وطال بين الاثنين على كرسي رئاسة الوزراء لمدة تسعة شهور، حتى انتهى لصالح المالكي، وفي عام 2014، بدا واضحا منذ وقت مبكر ان الاخير يخوض معركة خاسرة للفوز بولاية ثالثة، في خضم ظروف واوضاع سياسية وامنية معقدة وشائكة، طغى عليها حدث اجتياح تنظيم داعش الارهابي لمدينة الموصل ومدن عراقية اخرى في حزيران-يونيو من ذلك العام، وبالفعل، ادى التصدع في كيان حزب الدعوة وائتلاف دولة القانون الى قطع الطريق على المالكي، وتمهيده للقيادي الاخر في الحزب في حينه، والوزير السابق حيدر العبادي لتولي المنصب التنفيذي الاول، بعد تجاذبات حادة امتدت حوالي خمسة شهور.

ورغم ان ولاية العبادي الممتدة بين عامي 2014 و 2018 شهدت هزيمة داعش، وتحجيم النفوذ الكردي في محافظة كركوك الغنية بالنفط ومناطق ومدن اخرى، وتجنيب البلاد خطر الانهيار الكامل، الا ان العبادي لم ينجح في الحصول على ولاية ثانية كما نجح سلفه المالكي من قبل، ليغادر المنصب بعد انتخابات 2018، وسط مطالبات ودعوات كثيرة وقوية بأسناد المنصب الى شخصية مستقلة غير محسوبة على لون حزبي معين، وتم التوافق والاتفاق على عادل عبد المهدي، الذي شغل بعد سقوط نظام صدام عدة مواقع عليا في الدولة، من بينها وزير المالية في الحكومة الانتقالية برئاسة اياد علاوي، في عام 2004، ثم نائب رئيس الجمهورية في عهد حكومة المالكي الاولى، ثم وزيرا للنفط في حكومة المالكي الثانية قبل ان يستقيل من المنصب ويخرج من المجلس الاعلى الاسلامي العراقي، الذي كان احد اعضاء هيئته القيادية حتى عام 2017.

ولم يتمكن عبد المهدي، تحت ضغط التظاهرات الاحتجاجية الواسعة في بغداد والمحافظات الاخرى، ودعوات المرجعية الدينية الى الاصلاحات، من البقاء في منصبه اكثر من عام وشهور قلائل، ليكون اول رئيس وزراء عراقي بعد عام 2003، يترك المنصب قبل اتمام ولايته الدستورية المحددة بأربعة اعوام، وقد خلفه رئيس جهاز المخابرات مصطفى الكاظمي، بعد ان اخفق اثنين من المرشحين للمنصب، وهما الوزير السابق محمد توفيق علاوي، ومحافظ النجف الاسبق عدنان الزرفي، في نيل ثقة البرلمان وقبول القوى السياسية.

وفي ظل كل ذلك الشد والجذب المحتدم والمتواصل على طول الخط حول رئاسة الوزراء، كانت الامور تسير بأنسيابية في عملية أختيار رئيس الجمهورية، وبينما كان اول رئيس جمهورية بعد سقوط نظام صدام، من المكون السني، وهو غازي عجيل الياور نجل شقيق محسن الياور شيخ قبيلة شمّر، التي تعد واحدة من اكبر القبائل العربية في العراق، ويمتد وجودها الى سوريا وبعض دول الخليج، انتقلت الرئاسة منذ عام 2005 الى المكون الكردي، لتكون رئاسة البرلمان من حصة المكون السني. وقد تولى الزعيم الكردي الراحل جلال الطالباني(1933-2017)، منصب رئاسة الجمهورية مطلع عام 2005، اذ بقى في هذا المنصب حتى عام 2014، ليخلفه القيادي في حزب الاتحاد الوطني الكردستاني فؤاد معصوم لمدة اربعة اعوام.

وبما ان الحزبين الكرديين الرئيسيين، الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة الراحل جلال الطالباني، والديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني يتقاسمان السلطة والنفوذ في الاقليم منذ عقود من الزمن، فأنهما توافقا على ان يكون منصب رئيس الجمهورية من حصة الاتحاد، فيما يكون منصب رئيس الاقليم والحكومة المحلية في اربيل من حصة الديمقراطي، وهكذا سارت الامور على هذا المنوال حتى عام 2018، حينما رفض الديمقراطي مرشح الاتحاد برهم صالح لتولي منصب رئيس الجمهورية، واخفق في اقناع الاتحاد بطرح مرشح اخر، لذلك اقدم على طرح مرشحه الخاص، وهو فؤاد حسين الذي كان يشغل منصب رئيس ديوان رئاسة الاقليم، ونجح صالح في حصد العدد الاكبر من اصوات اعضاء البرلمان الاتحادي، ليتغلب بفارق كبير على منافسه حسين، الامر الذي اغضب الحزب الديمقراطي، ومثل ذلك بداية تصدع التوافق الكردي، وربما كان رحيل الطالباني، وحدوث انشقاقات في حزب الاتحاد، من بين ابرز عوامل تصدع التوافق الكردي.

واذا كان ممكنا تطويق الخلاف الكردي-الكردي في عام 2018 وحصره عند حدود ومساحات معينة، فأن ذلك لم يعد ممكنا بعد انتخابات تشرين الاول-اكتوبر 2021، حتى وصل الامر الى ان تشكل موضوعة رئاسة الجمهورية عقدة رئيسية لاتقل في استعصاء حسمها عن عقدة رئاسة الوزراء، والدليل على ذلك، انه بعد اكثر من شهرين على انعقاد الجلسة الاولى لمجلس النواب العراقي، لم يتم حسمها، التي يفترض-وبحسب السياقات الدستورية-ان ينتخب البرلمان رئيسا جديدا في غضون ثلاثين يوما من تأريخ انعقاد الجلسة الأولى بأغلبية ثلثي الأصوات.

بيد ان الدخول في لعبة التنافس بين الحزبين الكرديين على المنصب، والذهاب الى المحكمة الاتحادية اكثر من مرة، وعدم نجاح اي من الطرفين في تحشيد العدد المطلوب لضمان فوز مرشحه، ومماطلة رئاسة البرلمان بأدراج موضوعة انتخاب الرئيس الجديد في جدول اعمال جلساتها، على امل التوصل الى توافقات وتفاهمات سياسية تجنب الفرقاء الذهاب الى خيار كسر العظم. كل ذلك جعل الامور تزداد سوءا، ومظاهر الانسداد السياسي تتسع بشكل واضح.

ان خطورة الامور، تكمن في اخفاق الفرقاء الاكراد بالتوصل الى حلول توافقية، اذ تؤكد اوساط ومحافل سياسية من بغداد واربيل، ان اصرار الديمقراطي على التنافس على منصب رئاسة الجمهورية، جاء كردة فعل على اصرار الاتحاد الوطني على ترشيح برهم صالح تحديدا دون غيره، بحيث ان الديمقراطي، طرح مرشحا اخر هو وزير الداخلية في حكومة الاقليم المحلية ريبر احمد، بعد ان قطعت المحكمة الاتحادية العليا الطريق على القيادي في الحزب ووزير الخارجية والمالية الاسبق هوشيار زيباري من الترشح والتنافس على منصب الرئيس. علما ان الحزب الديمقراطي، عرض عدة خيارات ومقترحات على حزب الاتحاد لاحتواء الازمة والتفاهم والتوافق على حل وسط يرضي الطرفين، الا ان الاخير بقي متشبثا بموقفه وخياره. وبحسب التسريبات الاعلامية، طرح رئيس الحزب مسعود البارزاني جملة مقترحات على الامين العام للاتحاد بافيل الطالباني خلال اللقاء الذي جمعهما معا في مقر البارزاني بمنتجع صلاح الدين في العاشر من شباط-فبراير الجاري، والتي تمثلت، “اما قبول الاتحاد بالمناصب الوزارية التي هي من حصة الاكراد في الحكومة الاتحادية المقبلة مقابل التخلي عن منصب رئاسة الجمهورية، أو تقديم مرشح توافقي بديل، وسحب المرشحين الحاليين”، وقبل ذلك كان متداولا اسم القيادي المخضرم في الاتحاد الوطني الكردستاني ووزير الموارد المائية الاسبق في الحكومة الاتحادية عبد اللطيف رشيد لتولي المنصب كبديل توافقي، لكن لم تسفر الجهود والتحركات بهذا الاتجاه حتى الان عن نتيجة واضحة وملموسة.

وفي الوقت الذي تأمل اطراف المكون الشيعي، وتحديدا قوى الاطار التنسيقي والتيار الصدري، بأن يفلح الفرقاء الاكراد في التوصل الى صيغة توافقية بينهما، حتى لاتجد نفسها-اي اطراف المكون الشيعي-محرجة ومرغمة على الاصطفاف الى جانب طرف كردي على حساب الطرف الاخر، يعتقد الاكراد ان نجاح الفرقاء الشيعة في التفاهم والتوافق على الية تشكيل الحكومة المقبلة، ومن يتولى رئاستها، ومن يساهم بتشكيلها، من شأنه ان يفضي الى حلحلة عقدة رئاسة الجمهورية.

هذا يعني ان الانسداد السياسي السائد، من الصعب انهائه من دون تفاهمات الفرقاء في كل الفضاء الوطني، سواء من خلال تشكيل حكومة توافقية، او الذهاب الى حكومة اغلبية موسعة، يشارك فيها من يرغب بالمشاركة، وطبيعي ان ذلك لن يتحقق ما لم تتضح هوية الرئيس واسمه ورسمه، لانه هو من سيكلف مرشح الكتلة البرلمانية الاكبر بتشكيل الحكومة، ولاشك ان التوافقات سوف تكون هشة وقلقة لان ولادتها عسيرة، وقد تؤدي الى اعادة تدوير اغلب المشاكل والازمات، لكن مهما يكن من امر، فهي افضل-او اقل سوءا وخطرا-من الانسداد والذهاب الى المجهول.

————————-

*كاتب وصحافي عراقي