23 ديسمبر، 2024 1:21 م

المشكلة الكردية والعقلية السائدة

المشكلة الكردية والعقلية السائدة

الظن الغالب أن المشكلة الكردية في العراق هي مشكلة سياسية خالصة، تحيكها قوى اجنبية استعمارية، غايتها اضعافنا وتقسيم وطننا من أجل ابقاء إسرائيل متسيدة واحة الديمقراطية في المنطقة.

لذلك لا نبحث ومنذ عقود في غير الحل السياسي للمشكلة، والذي يأتي دائما مغاليا ،فقبل سقوط النظام السابق، كان السلوك السائد للأنظمة الديكتاتورية المتعاقبة على حكم العراق هو القمع والتنكيل والإبادة ،منتهجة نحوها نهجا شيفونيا استعلائي انتهى بالانفال وحلبجة ،وبعد سقوط النظام السابق ،جرى تبسيط المشكلة ومن ثم طمطمتها ونفي وجودها، ثم التململ من ارتفاع سقف المطالب، الذي وصل إلى المطالبة (بحق تقرير المصير)والميل التام نحو النزعة الانفصالية.

إن المشكلة الكردية بدأت منذ تأسيس الدولة العراقية (الحديثة)في عهد الملك فيصل الأول، وريث الانعزالية العثمانية وتعصبهم القومي والمذهبي، عندها تم طمس قضية الفئات المحلية المكونة لفيسفاء العراق (شيعة -سنة -أكراد -تركمان -مسيح -يهود -ايزيدين- صابئة -شبك )،وتخندقت الدولة خلف جدار عروبي طائفي، مستخدمة شعارات طنانة خاوية عن الأمة العربية، بدل التأسيس لنظام دولة عراقية تجمع كل مكونات الشعب العراقي وتشعرهم بانتمائهم الطبيعي لأرض الوطن، واسهامهم في تاريخه وميراثه الفكري والحضاري.

وقبالة المشروع العروبي من سلطة بغداد المركزية، انتهجت معظم القوى السياسية في إقليم كردستان، مشروع كردوي امبراطوري انفصالي ،يدعو إلى (كردستان الكبرى )الشامل لست دول وهي العراق وإيران وتركيا وسوريا وارمينيا واذربيجان، وقد ساعد على ديمومة هذا المشروع الطوباوي تضاريس المنطقة، وكذلك التوترات الدائمة مع الجارتين إيران وتركيا، مما منح الأعذار والتبريرات للأنظمة الدكتاتورية، بشن حملات القمع والتهجير، وتغيب الخصوصية الثقافية لجميع فئات الوطن المتنوعة، وهيمنة الثقافة القومية والعرقية.

وبموازاة هذا رسخ ساطع الحصري (مستشار الملك فيصل و الموظف في وزارة المعارف )التربية اللاوطنية في العراق، مرتكبا جريمة بحق العراق لا تقل بشاعتها عن جريمة حلبجة والانفال والمقابر الجماعية، من خلال مناهج التعليم في المدارس،التي تنبذ الطلبة من جميع فئات الشعب العراقي، باعتبارها عناصر اعجمية على التاريخ العربي (القح )، وتجاهل واحتقار كل ما هو محلي أو تقليد شعبي، بحجة أنه تخلف وطائفي أو شعوبي.

بدأت هذه العقلية العروبية العنصرية المنافية للهوية العراقية تقطع أوصال اللحمة الوطنية، و تفت من البناء المجتمعي وتمازجه منذ آلاف السنين، وقد فعل كل هذا من أجل إعطاء حفنة من الطغاة تسهيلات للاستيلاء على السلطة، والاستبداد بحكومة البلاد، والأخطر من هذا أنه في ذلك الوقت لا توجد أي قناة تثقيفية غير وسائل التربية والتعليم، فلا إذاعات أو تلفزيونات والصحف كانت قليلة جدا وغير فعالة بسبب تفشي الأمية، حتى سادة هذه العقلية وأصبحت في عمق الذاكرة العراقية، والاشد ايلاما ان هذا النهج لا زال هو السائد في وزارة التربية الحالية، فالطالب العراقية يعطى دروس عن التاريخ الأوربي، أكثر مما يعطى دروس عن ميراث وطنه وتعدد لغاته وتنوع جغرافيته وبيئته الداخلية. ويعرف عن قوميته العروبية أكثر مما يعرف عن وطنيته العراقية.

إن العراق يمتلك كنزا لاينضب من الموروث الوطني، القادر على خلق وعي جماهيري بالهوية العراقية، وإنتاج ايدلوجية شاملة عميقة تذيب الجميع في مياه رافديه دجلة والفرات ، كيف تكون بابل رمزا اسطوريا لتنوع لغات العالم وتبلبل الألسن، ولاتصلح أن تصبح مشروعا عراقيا، سنين ونحن نهرول خلف مشاريع تقذف إلينا من خارج الحدود، أحيانا قومية واشتراكية وربما اسلاموية ،جعلت العراق تابعا لدول شتى كانت تابعة له في يوم ما.

أما آن الأوان للحكومة العراقية الحالية أن تصنع مؤسسات إعلامية وتربوية، تكون مركزية ولكنها تضمن تنوع الثقافات المحلية والمشتركة بين أبناء وطننا، اما ان الاوان لتكون لنا مناسبات وطنية تشمل الجميع، مثال على ذلك عيد الربيع الذي كان يحتفل به السومريون ويسمونه (زكموك )والبابليون والاشوريون ويسمونه(اكيتو )أي عيد رأس السنة، واليوم يحتفل به جميع أبناء الشعب العراقي، وأن كانت طقوس الاحتفال تختلف بين فئة وأخرى، ولربما أعتقد البعض أنه عيد فارسي، والحقيقة أن الفرس اقتبسه من الحضارة العراقية العريقة، وأطلقوا عليه في لغتهم (نوروز )وتعني اليوم الجديد، وهي الترجمة الحرفية للتسمية البابلية (يومو نيشان )وحسب تقويم السنة البابلية فإنها تبدء يوم 21 آذار يقابله 1 نيسان في السنة البابلية .

وأخيرا أتمنى على المثقفين الأكراد أن يبادلونا نفس الشعور ،أليس من المعيب أن نسمع من المثقفين الفلسطينيين مشروع الدولة الواحدة التي تضم الشعبين اليهودي والفلسطيني، علما انهم طردوا من وطنهم ولازالت تنتهك حرمته كل يوم، ولا نسمع من الأخوة الأكراد غير نبرة الإنفصال عن العراق الذي احتضن اسلافهم منذ آلاف السنين.

[email protected]