18 ديسمبر، 2024 7:23 م

المشكلة العقلية الكبرى في آلية عمل الدماغ البشري

المشكلة العقلية الكبرى في آلية عمل الدماغ البشري

بالطبع هناك الكثير من المشاكل العقلية التي يواجهها بنو البشر يومياً بأشكال وتلاوين مختلفة، ولكن هناك بعض منها تنبع أساساً من جوهر تكوين الدماغ البشري نفسه، دون أن يكون وزر الوقوع بها مسؤولية يتحملها الإنسان المعاصر لوحده؛ وجوهر تلك الإشكاليات ينجم أساساً من حقيقة أن أدمغة أبناء الجنس البشري تطورت وتنقت بقوى الاصطفاء الطبيعي على امتداد سبعة ملايين من السنين لتجعل تلك الأدمغة أكثر تكيفاً وتطابقاً مع متطلبات حياة الصيد والالتقاط التي قضى معظم أبناء الجنس البشري الراهنين وأسلافهم من الأجناس البشرية البائدة حياتهم في لجها، بينما لم يمضوا من الناحية الزمنية أمداً كافياً ليتم تشذيب أدمغتهم بما يتناسب مع اشتراطات مرحلة المدنية المعاصرة، والتي لم يمض عليها سوى بضعة عقود في الغالبية العظمى من المجتمعات البشرية، ولما تتجاوز في أطول آجالها القرنين من الزمان، حتى في المجتمعات التي كانت مهد الثورة الصناعية، وهو ما يعني عملياً بأن البشر المعاصرين يعيشون في كنف تعقيد شبكة حيواتهم المعاصرة، ويبحرون بها بأدمغة لا تختلف على الإطلاق تشريحياً أو وظيفياً عن أدمغة أسلافهم من أبناء العصر الحجري بأي درجة تُذْكَر، على الرغم من أن الدراسات العلمية تشي بأن أسلاف بني البشر في مرحلة العصر الحجري كانوا يتحلون بحجوم دماغية أكبر قليلاً من أخلافهم المعاصرين، و هو ما يومي إلى احتمال أن قدراتهم العقلية كانت أكبر من أخلافهم ممن يعمرون وجه البسيطة راهناً.
وذلك التفارق بين التكوين البيولوجي والوظيفي لأدمغة بني البشر، وواقع حيواتهم المعاصرة يفرز العديد من الإشكاليات التكيفية المتطبقة والمتداخلة والكارثية في كثير من الأحايين، قد يكون في رأس قائمتها تمكن وسائل التواصل الاجتماعي، و غيلان إنتاج المخدرات، و صناعة القمار، و التجارة بالرقيق الأبيض، من الاستغلال الشيطاني الخبيث لنقاط ضعف الدماغ البشري المتمثلة في سعيه الدائب لإدراك أي ما قد ينظر إليه كمكافأة تعزز إفراز نواقل عصبية بعينها من قبيل الدوبامين و الإندورفين في الدماغ البشري، و التي تدفع بدورها في اتجاه الإيغال في السعي لإدراك تلك المكافأة مراراً وتكراراً، إذ أن أدمغة بني البشر تنقت للسعي لإدراك أي مكافأة من قبيل الحظيان بتفاحة ساقطة من شجرة لم ينل منها منافسو بني البشر من الحيوانات الأخرى، ولم تتنقى لتعيش في طوفان من وفرة المثيرات الحسية والبيولوجية والعقلية التي ينظر دماغ إنسان الحجري في جمجمة الإنسان المعاصر إلى جميعها كمؤثرات تعزز من إفراز الدوبامين و الإندورفين ولا بد من الاجتهاد لعدم تفويت أي منها، وهو ما يؤهب لكل ظواهر الإدمان المريعة التي نراها في عالمنا المعاصر من إدمان على الوجبات السريعة الغنية بالسكريات والدهون والأملاح، وعلى المخدرات الصنعية التي تعزز إفراز الدوبامين أو الإندورفين كيميائياً في الدماغ، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي التي تعزز من إفراز الدوبامين في الدماغ إلكترونياً من خلال استغلال اعتبار الدماغ لتقدير الآخرين له مشخصاً بكم الإعجابات والتثمينات التي يحصل عليها كمكافأة لا بد من الحفاظ عليها، إذ أن قبول الآخرين لكل ما يقوم به الفرد كان في مرحلة الجمع والصيد شرطاً لتعزيز احتمالات بقاء الفرد على قيد الحياة وعدم الاندثار بيولوجياً كحد أدنى إن تم نبذه من مجموعته ومحيطه الاجتماعي والبيولوجي، وهو لا يزال شرطاً حتى في حيواتنا المعاصرة لكي لا يقع الإنسان فريسة لأمراض الوحدة والاكتئاب وتمظهراتها المختلفة كما تظهر كشوفات علم وظائف الدماغ الحديثة.
وزيادة على ما سبق من مشاكل جوهرية تمس الكثير من تفاصيل حيوات بني البشر المعاصرين، تبرز مشكلة أخرى بشكل يكاد يضاهي في تأثيره الكارثي كل الإشكاليات الأخرى مجتمعة، و كما لو أن تلك المشكلة هي أم المشاكل العقلية البنيوية في أدمغة بني البشر مشخصة بأن أدمغة بني البشر تميل بشكل بنيوي راسخ في عمق دارات الدماغ البيولوجية العصبية للسعي إلى إدراك المكافآت بأقصر الآجال، والميل للقبول بأي مكافأة تؤدي إلى إفراز الدوبامين أو الإندورفين أو كليهما معاً في نسيج الدماغ الحيوي و العصبي مهما صغرت، والقبول بها بديلاً عن مكافأة أكبر من الناحية الكمية والنوعية إن كانت تستدعي الصبر والانتظار والاجتهاد لإدراكها. وجوهر تلك الإشكالية العقلية البيولوجية التي تدعى علمياً السعي لإدراك «العائد المباشر»، ونقيضها «العائد المتأخر» يكمن في أن نمط حياة بني البشر في مرحلة الجمع والصيد كان يقتضي التقاط المكافأة متى ما سنحت فرصتها، وعدم التأخر أي لحظة في إدراكها، إذ أن المنافسين كثر من الحيوانات الكاسرة والجارحة، والتي لا بد أنها تتربص للحظيان بتلك المكافأة كما البشر أنفسهم، خاصة وأن الهم شبه الأوحد لبني البشر في رحلتهم التطورية كان يتمحور حول الحظيان بقسط كاف من الطعام يقيهم شر الاندثار جوعاً كما كان حال الكثير من أسلاف بني البشر في لج صراعهم للبقاء على قيد الحياة وفق قوانين الغابة، وتنافس الكائنات الحية فيما بينهم على مصادر الغذاء.
وذلك الميل المتأصل للسعي لإدراك أي ما قد ينظر إليه الدماغ بأنه مكافأة واقتناصه بأسرع الآجال، يفصح عن نفسه في إجماع بني البشر على القبول بصحة وصوابية مقولة «عصفور باليد أفضل من عشرة على الشجرة»، واستهجانهم لأي مقولة من قبيل «عصفور على الشجرة بغنائه ودوره البيئي الحيوي أفضل لسلامة وعيوشية ومستقبل المحيط البيئي الحيوي الذي أعيش به، وسوف يعيش به أولادي وأحفادي من بعدي».
وبمعنى آخر فإن أدمغة بني البشر تمحورت وتقولبت تطورياً للتفكير وفق قاعدة امرئ القيس «اليوم خمر وغداً أمر»، إذ أن دماغ الإنسان في رحلته التطورية الطويلة لم يتنق ويتشذب لكي يفكر في يوم الغد، وإنما لتركيز تفكيره على اللحظة الراهنة، وعلى كيفية تلبية احتياجاته الأساسية التي جلها يتمحور حول عدم الفناء جوعاً أو فريسة يلتهمها كائن كاسر يتطلى بين أغصان الأكمة أو الأجمة المجاورة.
وتلك المعضلة التطورية ليست معضلة معاصرة، وإنما عمرها عمر توطن البشر في مجتمعات زراعية، مما أرغمهم على السعي مضطرين على الاجتهاد في عملية الزراعة التي هي مثال نموذجي عن الدأب لإدراك عائد ومكافأة متأخرة تأتي مع حصاد المحصول، وليس مباشرة بعد زرعه في الأرض. ومع بزوغ تلك المعضلة منذ حوالي اثني عشر ألف عام مع استقرار بني البشر في مجتمعات زراعية، بدأ ظهور حالة القلق السرمدي من احتمال عدم إدراك المكافأة المنتظرة، والذي أفصح نفسه بمحاولات متباينة لإقناع الذات البشرية بضرورة التكيف مع ذلك الواقع القلوق سواء من خلال اختراع فكرة الآلهة والقرابين والتضرع لها، لتسكين قروح ذاك القلق السرمدي باحتمال فوات المكافأة التي ينتظرها كل الزُّرَّاعُ في أرجاء الأرضين، و الذي أفضى لاحقاً إلى استنباط الأديان السماوية والوضعية السائدة في عالمنا المعاصر، والتي تتمحور فحواها جميعها على اختلاف إخراجاتها العقائدية حول أطروحة مفادها بأنه لا بد من الصبر والمصابرة لإدراك المكافأة بشكل متأخر على شكل «جنة مشتهاة»، أو تجنب لعقاب مرير في «جهنم سرمدية حارقة ماحقة»، بشكل يقدم للعقل البشري المنتقل من اشتراطات الجمع و الصيد إلى واقع الاستقرار في مجتمعات زراعية و حضرية تفسيراً و تبريراً لضرورة تقبله و جهاده لانتظار «العائد المتأخر» بعجره و بجره، في نهج يخالف فطرته التي تنقت على امتداد ملايين من السنين، و التي تدفع دائماً باتجاه إدراك « العائد المباشر» وعدم الالتفات إلى «العائد المتأخر» الذي قد لا يمكن إدراكه في كثير من الأحايين.
وعلى الرغم من كل محاولات البشر لإيجاد حلول لذلك الصراع الداخلي المستبطن عضوياً بين كينونة تلك المعضلة العقلية البيولوجية وبين واقع نهوض المجتمعات البشرية المتصاعدة في درجة تعقيدها إلى درجة أصبح فيها الصبر لإدراك العائد المتأخر شرطاً للسواء الاجتماعي، من قبيل التحصيل العلمي الطويل الذي يمتد على سنين طويلة قبل إدراك فرصة العمل بذاك التحصيل العلمي، وإدراك دخل مادي وموقع اجتماعي معين يمثل المكافأة التي تم انتظارها طويلاً؛ وعلى شاكلتها العمل اليومي على قالب وظيفة يقوم فيها الإنسان بتأجير قوة عمله كل يوم بانتظار الحظيان بالمكافأة في نهاية الشهر على شكل راتب شهري لقاء عمله.
والحقيقة العلمية الثابتة هو أن كل ما قد يرتبط بالصبر والمصابرة «القهرية أو الإرادية» في انتظار إدراك مكافأة متأخرة يقتضي من الفرد اجتهاداً عقلياً باستخدام قدرات القشرة الدماغية ما قبل الجبهية التي يتميز بها بنو البشر على أقرانهم من الرئيسيات في مملكة الحيوانات، من قبل قردة البانوبو وغوريلا الجبال، قردة الغيبون والشمبانزي، الذين يتطابقون مع بني البشر وراثياً إلى درجة تقارب 99% وراثياً وتشريحياً. وتلك القشرة الدماغية ما قبل الجبهية في أدمغة بني البشر هي المسؤولة عن قدرات التحليل والمحاكمة والرشاد والتعقل والعقلنة، والتفكير بعيد المدى والاستبصار في نتائج الأفعال الراهنة في المستقبل الذي قد لا يكون قريباً.
ولكن استخدام تلك القشرة الدماغية ما قبل الجبهية ليس الحالة الافتراضية في عمل أدمغة بني البشر لأسباب تتعلق بأنها تحتاج إلى التدريب والتمرين والتعليم لتكشف طاقاتها الاستثنائية، إذ أن طفلاً ترك ليعيش في غابة راهناً لوحده سوف يتحول إلى وحش كاسر وآكل رمم حاذق في أحسن الأحوال، وسوف تنطفئ قدرات قشرته الدماغية مع الزمن، وتتنكس قدرته العقلية عموماً إلى درجة بالكاد يستخدم فيها إلا حيزاً محدوداً من قدرات دماغه وخاصة القشرة الدماغية ما قبل الجبهية.
وهنا يبرز دور التعلم بالاستقاء المجتمعي الذي أداته استشراب العقل تقليداً لما يقوم به الآخرون المحيطون به، ودور التربية والتعليم والتثقيف لتمكين الدماغ البشري من أدوات ثاقبة حاذقة لا بد أن يتكئ عليها حينما يبدأ في استخدام طاقات قشرته الدماغية ما قبل الجبهية بقدراتها القصوى.
ولكن الواقع المعاش معاصراً في ظل نمط الإنتاج القائم على نهج الرأسمالية المعولمة بشكلها البربري المتوحش، الذي لا قيمة فيه لأي ما قد لا يمكن تسليعه وبيعه وشراؤه في السوق الكونية، وهو الذي كان تمظهره في حيز التربية والتعليم، نموذج تربية يرسخ قيم الفردانية و«الأنا المتورمة» التي تنظر إلى أن سدرة منتهاها هو الاستهلاك غير المحدود دون التفكير بعقابيل ذلك الاستهلاك على المحيط البيئي الحيوي وعلى البشر الآخرين، ونموذج تعليم بائس على المستوى الكوني لا يهدف سوى لتعليم البشر فن النجاح في الامتحان، وليس كيفية استنهاض وتدريب أدمغتهم على أساليب استخدام طاقاتها العقلية العليا في سياقات إبداعية خلاقة تتجاوز حدود مهارات الإجابات الصحيحة على أسئلة الامتحان، مما أفضى إلى حالة عدمية بائسة من أكداس الأميين على المستوى الكوني من خريجي الجامعات في غير موضع من أرجاء الأرضين.
ولم تسلم الثقافة والتثقيف وكل نتاجات اجتهادات البشر الفكرية السالفة منها والمعاصرة من هول وخبث نمط الإنتاج الرأسمالي المعولم بشكله البربري المتوحش، وسعيه المحموم لإدراك الربح السريع بأقصر الآجال، إذ حُوِّلَتْ جل تلك الاجتهادات إلى شكل «نافل» عن احتياجات الإنسان المعاصر الذي لا بد أن يكفيه لملء فضاء عقله وإشغال قدراته الدماغية متابعة البرامج التليفزيونية التافهة، وأخبار فضائح المشاهير، والأفلام التشويقية الفارغة، والمباريات الرياضية التي لا تنتهي، وما كان على شاكلتها من منتجات الحضارة السطحية الشكلية الاستهلاكية.
وخلاصة الواقع المتناقض السالف الذكر بين واقع بيولوجي عضوي مبتنى هيكلياً في عمق الدارات الدماغية لبني البشر، وواقع معاصر لا يمنحهم فرصة المعاوضة عبر استكشاف وتعلم أكثر السبل كفاءة للتكيف مع تناقض اشتراطات وتعقيدات حيواتهم المعاصرة من خلال التدرب الذي لا بد منه للتمكن من استخدام طاقات قشرتهم الدماغية الفائقة التي تميزهم عن باقي أقرانهم وأبناء عمومتهم من الحيوانات الأخرى في مجموعة الرئيسيات كما أشرنا إليه آنفاً، لا بد أن تفضي إلى استنتاج شبه أوحد لا يمكن الوصول إلى سواه، يتمثل في أن حل ذاك التناقض لا يمكن إلا من خلال الدأب والاجتهاد على طريقة السجين المظلوم الذي لا خيار له في الخروج من قمقمه إلا باستخدام أظافره وجلده المتقرح لحفر نفق مضن للانعتاق من سجنه المضني، وهو الذي لا يمكن أن يتم إلا من خلال اجتهاد كل الذين لم يمسهم كليانياً خبث الرأسمالية المعولمة بشكلها البربري المتوحش، وهول إفرازاتها القيحية من الفردانية والأنانية والتقوقع والشخصانية، في صراع وجودي جوهره السعي بكل الإمكانات المتاحة للقيام بواجب جمعي لا بد للبشر أن يقوموا به بشكل ملح وطارئ وعاجل لتعرية نقاط ضعفهم ونهج خطلهم وزللهم، خاصة وأن إيغال الغالبية العظمى من البشر الهائمين على وجوههم في أصقاع الأرضين، لاهثين للبقاء على قيد الحياة وسد رمق أنفسهم ومن يعولونهم، أو مغيبين في دهاليز تيه تضييع الطاقات، أو تشتيت الانتباه، وغرائبية اقتصاد السوق وقيمه السلعية المحضة، ومتعه المصطنعة الإدمانية على شاكلة وسائل التواصل الاجتماعي، وطوفان المخدرات الصنعية الذي يجتاح كل أرجاء المعمورة، وجائحة نمط الأطعمة الجاهزة و استهلاكها المرضي للإدمان في نسق الوجبات السريعات وحضارة «ماكدونالدز»؛ بدأ في الإفصاح عن نفسه بأم الكوارث التي أصبحت قاب قوسين أو أدنى لتحققها، ويحتمل أن تذهب ليس بمجموعات بشرية بعينها، ولكن بكوكب الأرض بأسره، وتحيله إلى كوكب غير صالح لحياة البشر بالشكل الذي اعتادوا عليه خلال بضعة آلاف السنين المنصرمة، وأعني هنا كارثة «تسخن كوكب الأرض»، والتي يتعامى ويتغافل عنها البشر مغرقين في غيهم عن عمد، أو بسبب سريهم في نسق عطبهم البيولوجي الذي لم يتمكنوا من تكشف عواره وهوله و استيعابه باستخدام طاقات قشرتهم الدماغية ما قبل الجبهية المعطلة المستقيلة، أو التي لم يتعلموا فن استخدامها سوى لاجتياز الامتحانات من قبل، فأدى بهم لأن يصبحوا بشراً لا حكمة تعلو في قاموسهم على حكمة امرئ القيس السالفة الذكر، وهمهم الوحيد هو الانغماس أكثر في إفراط وشطط اليوم ومتعه الحسية تاركين هول الغد للأجيال القادمة لتواجه رعبه الذي سوف يكون أسطورياً بكل المقاييس، ولن يترك لأخلافنا ليتذكروه عن أسلافهم سوى خطاياهم وتقصيرهم وتقاعسهم عن القيام بواجبهم في الدفاع عن حق ذريتهم ومن سوف يأتي بعدهم بحياة طبيعية ليس عنوانها العريض الرعب والهول والهروب من كارثة وتهلكة للوقوع في أخرى.