اثار توقيع اربعة عقود بين وزارتي النفط والكهرباء من جهة وشركة توتال انرجيز الفرنسية قبل عدة ايام الكثير من التساؤلات والشكوك بل وحتى الاتهامات. وقد ساهمت عدة عوامل في ردود الافعال هذه، منها توقيع هذه العقود مباشرة بعد حضور الرئيس الفرنسي ماكرون لمؤتمر جوار العراق في بغداد مما ولد الانطباع بان هذه العقود هي الثمن الاقتصادي لحضور الرئيس الفرنسي؛ وانه سيُستثمر سياسيا لأهداف انتخابية من قبل رئيس الوزراء العراقي و وظيفيا من قبل وزير النفط لترسيخ تسميته لرئاسة شركة النفط الوطنية العراقية اصالتا وليس تكليفا كما هي عليه الحالة الان؛ اي التضحية بمصلحة العراق لأغراض شخصية مصلحية. وقد يكون الامر كذلك؛ ولكن الافتقار في الافصاح عن المعلومات وانعدام الشفافية وركاكة الطروحات الرسمية كانت، بنظري من النواحي التحليلية، من اهم مبررات ودوافع ردود الافعال المعترضة على تلك العقود.
انني اتابع موضوع عقود شركة توتال منذ بدايته وقد كتبت عنه في متابعتي السابقة بعنوان “وزارة النفط بين تدوير المشاريع والتعاقد مع الشركات الوسيطة الهزيلة وتوقيع اتفاقيات هشة” في السادس من حزيران الماضي والتي نشرت في مواقع عديدة ووزعت بشكل واسع.
اعتمدت في اعداد المتابعة الحالية على المعلومات التي وردت في المصادر التالية: 1- بيان المكتب الاعلامي لرئيس الوزراء بتاريخ 5 ايلول 2021؛ 2- المؤتمر الصحفي لوزير النفط مع رئيس شركة توتال الفرنسية بتاريخ 5 ايلول 2021 ؛ 3- تصريح شركة توتال انرجيز حول الموضوع بتاريخ 6 ايلول 2021 ؛ 4- مقالات “تقرير نفط العراق” بتاريخ 27 آب و 3 و 6 ايلول الحالي. ومن الجدير بالذكر ان المكتب الاعلامي لوزارة النفط لم يصدر اي تصريح حول الموضوع بل اكتفى بتوزيع بيان المكتب الاعلامي لرئيس الوزراء مع ست صور عن وقائع التوقيع!!
تتلخص المشاريع الاربعة بما يلي:
مشروع تطوير حقل ارطاوي (او رطاوي) النفطي لزيادة انتاجه من 85 الف برميل يوميا الى انتاج الذروة البالغ 210 الف برميل يوميا؛
مشروع مجمع غاز ارطاوي او مشروع تطوير الغاز المتكاملGas Growth Integrated Project (GGIP)؛ ويتضمن انشاء وحدة معالجة الغاز المصاحب بطاقة قدرها 300 مليون قدم مكعب قياسي يوميا لانتاج الغاز الجاف والغاز الخام والمكثفات والغاز المسال؛
مشروع حقن ماء البحر بطاقة تصميمية قدرها 7.5 مليون برميل يوميا من ماء البحر المعالج لأغراض حقن الماء في الحقول الجنوبية؛
مشروع انتاج الطاقة الشمسية بطاقة 1كيكاواط ( 1000 میغاواط) في محافظة البصرة.
هيكل الكلفة والعوائد
تشير المعلومات الى ان الكلفة الكلية للمشاريع الاربعة حوالي 27 مليار دولار منها 10 مليار دولار التزامات استثمارية راسمالية اولية توفرها شركة توتال والباقي، 17 مليون دولار، تكاليف تشغيلية وصيانة تمول من عوائد شركة توتال من هذه المشاريع الاربعة- اي تدوير عوائد الشركة؛
في الوقت الذي يتفق فيه كل من وزير النفط ورئيس شركة توتال على مبلغ 10 مليار دولار التزامات استثمارية راسمالية اولية، فان توزيع هذا الاستثمار على المشاريع الاربعة كما يلي حسب تصريح وزير النفط: 5 مليار دولار لمشروع تطوير الغاز المتكامل؛ 3 مليار دولار لمشروع حقن ماء البحر و مليار واحد لمشروع انتاج الطاقة الشمسية. لم يذكر الوزير اي تخصيص لمشروع تطوير حقل ارطاوي، ولكن يمكن الاستنتاج بانه مليار واحد؛
يبلغ مجموع العوائد الصافية من المشاريع الاربعة بحدود 95 مليار دولار خلال فترة سريان العقود لمدة 30 عاما وعلى اساس سعر النفط 50 دولار للبرميل.
ملاحظات وتقييم وتساؤلات
تختلف المشاريع الاربعة نوعيا مما يعني ويحتم اختلاف العقود الحاكمة لكل منها من ناحية نوعية العقد وما يتضمنه كل عقد من شروط وضوابط. لم تذكر المصادر المشار اليها معلومات كافية ودقيقة بشان هذا الموضوع وهذا يشكل مصدر قلق كبير ويشكك في مدى خدمة هذه العقود للمصلحة الوطنية العراقية، وخاصة عقد تطوير حقل ارطاوي؛
كذلك لم تقدم الجهات المعنية (مكتب رئيس الوزراء ووزارة النفط وشركة توتال) حسابات الجدوى الاقتصادية لكل مشروع او للمشاريع الاربعة باستثناء ما ذكر اعلاه والتي بدورها مدعاة للتساؤل كما سنلاحظ ذلك لاحقا؛
وجود تباين واضح ومؤثر بين ما اعلنه وزير النفط وبين وما اعلنته شركة توتال. فقد اعلنت شركة توتال بتاريخ 6 ايلول الى الغاز المصاحب المنتج من “ثلاثة حقول” دون تسميتها، في حين يشير وزير النفط الى الغاز المصاحب المنتج من خمسة حقول وهي ارطاوي ومجنون وطوبا واللحيس وغرب القرنة2. وهنا لي ملاحظتين الاولى اين الحقيقة بشان الحقول المشمولة بهذا العقد: هل هي ثلاثة ام خمسة ومن هي؟ والثانية لماذا شمول حقل غرب القرنة2؟ لكلا الملاحظتين جوانب تعاقدية مهمة للغاية لا بد من معالجتها قبل توقيع الصيغة النهائية لعقد هذا المشروع. الاولى تتعلق بشمولية العقد حيث ان الفرق بين ثلاثة وخمسة حقول مسالة اساسية لا بد من حسمها.
اما الملاحظة الثانية فتتعلق بان معالجة موضوع الغاز المصاحب مشمولة بالعقد الخاص بحقل غرب القرنة 2 الموَقع بموجب جولات التراخيص الثانية الذي دخل حيز التنفيذ عام 2010. وهذا يعني تعاقديا: اما اعفاء شركة لوك اويل من التزاماتها التعاقدية، في حالة موافقتها على ذلك او تلجأ الشركة الى التحكيم الدولي في حالة عدم موافقتها على حرمانها من معالجة الغاز المصاحب والحصول على اجور الخدمة المحددة في عقد الخدمة؛ وفي كلتا الحالتين يكون العراق هو الخاسر. فلماذا وما هو مبرر شمول الغاز المصاحب المنتج من حقل غرب القرنة2؟ وهل هذه الاشكالية القانونية التعاقدية تفسر عدم ذكر شركة توتال لهذا الحقل في بيانها المشار اليه اعلاه؟!
كذلك تمت الاشارة الى عقود Engineering, Procurement, and Construction (EPC) وهذا يتناقض مع هيكل الكلفة الذي يشير الى تشغيل تلك المشاريع من قبل شركة توتال بعد انجاز تلك المشاريع وذلك بدلالة كلف التشغيل والصيانة البالغة 17 مليار دولار المذكور اعلاه.
كما وانني لا اتوقع ان توافق شركة توتال على تطوير حقل ارطاوي بموجب صيغة EPC كما سأناقشه ادناه.
ما يجب ان يكون عليه عقد تطوير وزيادة انتاج النفط والغاز لحقل ارطاوي النفطي. حسب المعلومات الرسمية المتوفرة يبلغ انتاج هذا الحقل حاليا 85 الف برميل يوميا والذي سيتم تطويره ليصل الى انتاج ذروة قدره 210 الف برميل يوميا. من الناحية الواقعية والتجربة التعاقدية السابقة فان هذا الحقل يعتبر من الحقول المنتجة، ولذلك يجب ان يكون عقده مماثلا لعقود جولة التراخيص الاولى. ولذا على وزارة النفط وشركة توتال انرجيز الافصاح الكامل عن مسودة العقد واهم الشروط التعاقدية ومنها: معدل الانخفاض الطبيعى لانتاج الحقل ومستوى انتاج خط الشروع المعتمد تعاقديا؛ التزامات العمل الدنيا وما تتضمنه من نشاطات ونفقات؛ الضوابط الزمنية لتقديم خطة تطوير الحقل الاولية والنهائية؛ الكلف الراسمالية واليات استردادها؛ اسس وضوابط احتساب العائدات الصافية لشركة توتال؛ ضريبة الدخل والضرائب الاخرى؛ بداية ونهاية فترة انتاج الذروة؛ الخطط الفعلية لانتاج ومعالجة واستخدام الغاز المصاحب؛ الشريك الحكومي؛ الاطر الادارية ومستويات اتخاذ القرار وغيرها. ان عدم الافصاح عن عقد تطوير هذا الحقل اثار ويثير الكثير من التساؤلات والشكوك بل وحتى الاتهامات، مما يحتم على الجهات المعنية الافصاح التام والصحيح عن نوعية ونص عقد تطوير هذا الحقل.
الاعتبارات الاقتصادية وافتقار مؤشرات الجدوى. نظرا لعدم قيام وزارة النفط وشركة توتال بتقديم تفاصيل الجدوى الاقتصادية لاي من المشاريع الاربعة فان هذا يشكك في مصداقيتهما وفي مشروعية وقانونية العقود الاربعة. ولذلك فانني سأناقش ما تم الاعلان عنه وخاصة من قبل وزير النفط:
اولا: يقدر وزير النفط ان كلفة مشروع تطوير الغاز المتكامل – غاز ارطاوي (GGIP) بحدود 5 مليار دولار، ويقول ان المشروع سيزود الغاز الذي يعوض استهلاك 200 الف برميل من النفط الخام وزيت الوقود يوميا (التي تكلف سنويا 5 مليار دولار) المستخدمة في توليد الطاقة الكهربائية. أي ان المشروع سيحرر كميات النفط المستهلكة لتوليد الطاقة الكهربائية تعادل كلفتها السنوية كلفة المشروع بالكامل خلال سنة واحدة! وبحساب بسيط يتضح ان الوزير قد اعتمد معدل سعر 68.5 دولار للبرميل من النفط الخام وزيت الوقود المجهز لتوليد الطاقة الكهربائية!! اعتقد ان الوزير قد غالى كثيرا في هذا المجال، ربما، لتبرير احالة المشروع بهذه الكلفة!!
ولكن بالمقابل اذا كانت افتراضات الوزير صحيحة وان اكتمال انجاز هذا المشروع بعد خمس سنوات من بداية العام القادم فان تزويد الغاز ليحل بلا عن النفط الخام وزيت الوقود لتوليد الطاقة الكهربائية سيوفر للعراق ما مقداره 125 مليار دولار للفترة المتبقية (25 عاما) من مدة العقود!! وهذا المبلغ يزيد قليلا على مجموع الكلف الراسمالية (10 مليار دولار) والكلفة التشغيلية والصيانة (17 مليار دولار) والعوائد الصافية (95 مليار دولار)؛ مصادفة ام عدم دقة حسابات وزير النفط!!
واذا كان الامر كذلك فاين ذهبت عوائد منتجات المشروع الاخرى المتأتية من فوائض الغاز الخام raw gas والغاز الجاف dry gas والمكثفات condensates وغاز البترول المسال LPG؟
واذا كانت اقتصاديات المشروع بهذا المستوى الجيد بحيث تسدد كلفته من توفير استهلاك النفط الخام وزيت الوقود لسنة واحدة فقط لتوليد الطاقة الكهربائية فلماذا لم يتم تنفيذه من قبل الوزارة منذ سنوات؟ ومن يتحمل هذه المسؤولية؟ ولماذا الان؟ ولماذا ولماذا؟؟؟
ثم اين هي اقتصاديات مشروع حقن الماء وعوائد الطاقة الشمسية؟؟!!
والاخطر من ذلك اين تذهب عوائد نفط حقل ارطاوي التي تبلغ 1.6 مليار دولار سنويا (على اساس 50 دولار للبرميل المعتمد وعلى اساس مستوى الانتاج الحالي) وتبلغ 3.8 مليار دولار سنويا (على اساس 50 دولار للبرميل المعتمد وعلى اساس مستوى انتاج الذروة)
ثانيا: كما ذكر اعلاه، يوضح كل من بيان مكتب رئيس الوزراء وتصريحات وزير النفط الى ان حجم العائد الصافي بحدود 95 مليار طيلة عمر المشاريع البالغة 30 عاما. وهنا توجد العديد من الامور التي على الوزارة ومكتب رئيس الوزراء توضيحها والاجابة عليها بدقة وهي:
1- هل هذا المبلغ يمثل مجموع صافي التدفق النقدي للارباح ام القيمة الحالية لصافي التدفق النقدي للارباح، واذا كان الاخير فما هو معدل الخصم الذي اعتمد في احتساب القيمة الحالية؟
2- هل ان هذا المبلغ (95 مليار دولار) عائدا صافيا للعراق من هذه المشاريع الاربعة ام لشركة توتال حصة فيها، وان كانت كذلك فكم هي حصة شركة توتال ولماذا؟
3- ما هو هيكل الكلف الراسمالية والتشغيلية لكل من المشاريع الاربعة وما هي مساهمة كل منها في مجموع الارباح (95 مليار دولار)
4- تم احتساب العوائد على اساس سعر 50 دولار لبرميل النفط، فما هي حسابات حساسية اقتصاديات المشاريع عند تباين اسعار النفط اعلى او اوطأ من هذا السعر المعتمد؟ .
من الغريب والمؤسف حقا ان نرى هذا الافتقار الشديد والغير مبرر في عدم توفير البيانات الاساسية لاقتصادات هذه المشارع وعدم الافصاح عن حسابات الجدوى الاقتصادية لها، علما ان وزير النفط اشار في مؤتمره الصحفي مع رئيس شركة توتال الى حوالي عشرين ورشة عمل للمناقشات بين الطرفين!!! فماذا كانوا يناقشون؟؟
الاعتراضات على العقود الخاصة بوزارة النفط
وردتني معلومات مباشرة عن اعتراضات مهمة ابداها بعض المعنيين في وزارة النفط، كما واشارت بعض المصادر الاعلامية الموثوق بها الى تلك الاعتراضات. تتعلق الاعتراضات بموضوعين اساسيين: الاول ربحية شركة توتال العالية والتي لا مبرر لها على الاطلاق والثاني هو امكانية الشركات العراقية التابعة لوزارة النفط تنفيذ قسم من هذه المشاريع بدلا من احالتها الى شركة توتال.
انني أأيد تلك الاعتراضات واضيف اليها بعدم وجود اي مبرر اقتصادي لتحويل تطوير حقل ارطاوي من الجهد الوطني المباشر الى شركة توتال وخاصة في حالة عدم الافصاح عن طبيعة العقد وشروطه التي تطلبها هذه الشركة. وهنا لا بد من الاشارة الى ما قاله رئيس شركة توتال بما معناه ان شركته تدخل الى العراق في الوقت الذي يغادره الاخرون وتسعي للحصول على “عقد مربح جدا”!! فما هو معدل ربحية الشركة او معدل المردود الداخلي الذي حصلت عليه على حساب مصلحة العراق!
يشير بيان المكتب الاعلامي لرئيس الوزراء بانه تم توقيع العقود “بالاحرف الاولى”، وهذا يعني انها لم توقع بشكل نهائي ولم تدخل بعد حيز التنفيذ. ومن المحتمل جدا ان تعمل الجهات المعنية بالإسراع في اكمال الاجراءات لادخالها حيز التنفيذ قبل انتخابات الشهر القادم، وعندها تقع الواقعة.
لذا ادعو المخلصين في وزارة النفط وفي مجلس النواب وكافة المعنيين بهموم الوطن العمل على تجميد هذه العقود الاربعة والزام وزارتي النفط والكهرباء بتوفير نصوص العقود وحسابات الجدوى الاقتصادية الخاصة بكل منها للتاكد من انها تتوافق مع المصلحة العليا للشعب العراقي حسب ما يتطلبه الدستور العراقي.
لاهمية الموضوع وخطورته ومستعجليته، ارجو نشر وتوزيع هذه المداخلة الى اوسع نطاق ممكن.