بدأت المسيرة السياسية منذ ٢٠٠٣، عاطفية ومتاثرة بدهشة سقوط النظام السابق والانتقال من شمولية طائفية الى واقع مختلف ومنفتح وغامض المعالم ..
حاجة الجماهير الشيعية ( لاننا نحلل هنا المزاج الشيعي حصرا ) كانت ملحة لتأكيد الهوية الشيعية، بسبب التهميش و الثقة العالية ( ثقة مغلفة برومانسية مفرطة) بسياسي المذهب ، والاخلاق التي يشع بها الدين على السياسية، حسب التصور الشعبي المتوارث !!
الشعارات المذهبية والاجواء السياسية المتداخلة مع الدين كانت حاجة ” نفسية” مناسبة للجمهور الشيعي خلال الفترة بعد ٢٠٠٣. وفي هذا السياق كان مظهر السياسي الشيعي الذي ينخرط مع الجمهور في طقوس عاشوراء، مقبولا ومرغوبا لدى الجميع ، بسبب الخلط بين الديني والسياسي داخل الوعي الجمعي .
مع تقدم التجربة ، وعبور مرحلة” تأكيد الهوية الشيعية” ، دخل المجتمع مرحلة اشباع “الحاجة الهوياتية ” والتفت الى حاجاته الاساسية ، كأي شعب يرغب بالحصول على مستوى من الرفاهية والحياة الكريمة … هنا حدثت الصدمة !!
صدمة الفساد والفشل والتعكز على الدين والمذهب …
وفي السياق ذاته، لم تعد صور السياسيين الشيعة الموظفين للطقوس سياسيا مقبولة، لدى الجمهور .
مع توالي السنين ، ظهر جيل جديد متحرر من عقد الطائفية ، ومنفتح على العالم بفضل وسائل التواصل الاجتماعي ،انبثقت منه نواة مجتمع مدني صاعدة، حصلت على مهارات نوعية من قبل منظمات دولية ، ولديها علاقات واسعة مع مؤسسات المجتمع المدني …
وفي الوقت الذي بقت فيه النخبة السياسية الشيعية، ناظرة الى السياسة من نافذتها المذهبية والعاطفية ، صارت الروافد الجديدة في المجتمع ، تسوق السياسة من نوافذ التنمية وتمييز الفرد عن الجماعة ، ورفع وعيه بحاجاته الخاصة، وصرنا نسمع بتمكين المرأة وتمكين الشباب، والمدافعة ( لاحظ كلمة تمكين من ناحية توسيع الافاق باتجاه حقوق المواطنة ومنزلة المواطن وكذلك واجبات السياسي في الديموقراطية)..، وعلى ضوء ذلك، اصبحت سمات المجتمع التقليدية واعرافه تحت اضواء الفرد الكاشفة وفكره الناقد ..
نقرا مثلا في اهداف التدريبات التي حصل عليها الجيل الجديد امورا تتعلق بالقيادة والادارة والتخطيط ورفع الوعي حول الانماط والمسببات الجذرية لحالات العنف والتمييز القائم على النوع الاجتماعي والحصانة او عدم تعرض الجاني للمساءلة وغير ذلك .
وهكذا تعايش الجيل السابق العابر لمرحلة تاكيد الهوية والمصدوم من الفساد، مع جيل جديد خالٍ من العقد الطائفية، بلا ذاكرة حول مآسي النظام السابق ( فشلت النخب السياسية في صناعة ذاكرة جميعة وطنية وتوريثها للاجيال المتتالية ) ، ومتطلع الى المستقبل، وعارف بتفاصيل الفساد والفشل بسبب تمرسه على مخرجات الثورة الرقمية ومهاراته …
هذه الظروف مجتمعة، عززت الحالة الفردية للمواطن individualism ، واصبح يفكر بحاجاته الخاصة اكثر مما يفكر بحاجات الجماعة.
الاطر التقليدية الاجتماعية بدأت تتكسر وتتشكل محلها “عشيرة جديدة” تتضمن مجموعة افراد تجمعهم صفات ومطالب دنيوية مشتركة ومُلِّحَّةْ…هكذا انطلق الوعي المدني الجديد!
الاحتجاجات بصورة عامة، حالة ايجابية للتجارب الديموقراطية، اذا تمت ادارتها بشكل جيد لانها تصوب بوصلة السياسة نحو حاجات ومشاكل المجتمع.
وفي هذا السياق، على سبيل المثال ، تمكن النظام الديموقراطي الاميركي من تحويل ازمة الاحتجاجات الواسعة التي انطلقت في مدينة سانت بطرسبرغ في ولاية فلوريدا عام فلوريدا 1996، بعد مقتل شاب أسود، غير مسلح على يد الشرطة الأمريكية، الى فرصة لتحقيق قفزة اخلاقية وقانونية مركبة، في مسيرة مكافحة العنصرية في المجتمع.
رفع المحتجون حينها، شعارات مثل “أوقفوا وحشية الشرطة” و”لا يمكنكم قتلنا جميعًا” و”إنهاء الإبادة الجماعية”، وبعد ان اضطرب الامن، لجأت الادارة الاميركية، الى اتباع طريقين للمعالجة ، اولهما “امني” ، تمحور حول اللجوء الى العنف الشرعي، بالاستعانة بقوات مكافحة الشغب لتفريق الحشود ، وثانيهما، “تنموي” يستهدف معالجة جذور الازمة ( حسب المستطاع )، من خلال الشروع في برنامج ضخم اطلق عليه اسم “تحدي 2001″، لتحسين الظروف وبناء علاقات مجتمعية أفضل و تخصيص أكثر من 100 مليون دولار لتنفيذ هذا البرنامج وتعيين أول رئيس شرطة أمريكي من أصل إفريقي في المدينة، الذي أدخل بدوره تغييرات شاملة في سياسة الإدارة ( نلاحظ هنا الاستخدام الايجابي لمفردة “تحدي” ، كونها تستهدف معالجة اسباب الاحتجاجات وليس معاقبة المحتجين..
عراقيا، فقد حدثت الاحتجاجات في العراق بشكل متدرج وبطابع مطلبي وجهوي محصور في مناطق معينة ( البصرة تطالب بماء وكهرباء منذ عام ٢٠١١ ، والمناطق الغربية تطالب برفع التهميش منذ عام ٢٠١٠ ) وتكررت بلا حلول جذرية وصولا الى ٢٠١٩، حيث تحولت الى مطالب وطنية شاملة ( نريد وطن )!!!
بصورة اجمالية، هناك سياسة تدير العراق بعقلية ابوية ومنهج الاجيال السابقة وتضع اسقف فوق سقف الوطن، وهناك جيل جديد يتطلع الى نفسه والمستقبل واضعا سقف الوطن فوق كل شيء وناقد للأبوية السياسية.
التطور الاجتماعي بعد ٢٠٠٣، افرز جماعة مدنية جديدة، لها ثقافتها وادبياتها وتضحياتها ( الشهداء والجرحى الذين سقطوا تباعا ) التي تشكل بمجملها هوية لها ذاكرة، تتدافع مع الهويات التقليدية ( هويات حركات الاسلام السياسي والحركات الاخرى، التي هي كذاك لها رموزها وذاكرتها) وتتوسع مع الزمن… مع كل شهيد يسقط هناك صفحة جديدة تضاف الى الذاكرة الناشئة …تدافع الهويات يخفي بين طياته تدافع الذاكرات القديمة والناشئة.
بصورة عامة، هناك فقدان ثقة بدا من الطلاق من النخبة السياسية مرورا بالنفور من العملية السياسية ( يعيشه العراق حاليا ) وهو سائر في اتجاه الطلاق من الدولة، وهذا اخطر ما تبلغه مسيرة التردي من مراحل..
الاستفتاءات الحقيقية ، نجدها في صرخات الشباب وتضحياتهم واعداد الاطفال المشردين ونسب الجريمة والانتحار والمخدرات واعداد الارامل وفي
منزلة العراق على سلم الدول الفاشلة!
التصويت في انتخابات ديموقراطية هشة وفي ظل بيئة امنية سلبية وثقة منخفضة، لا يعني قبولا بالنخب السياسية، بل تحضيرا لموجات من التذمر الجماهيري الساخن “ظاهريا” التي قد تنسف الدولة في لحظة مفصلية ، وتغيرات سريعة وخطيرة في “عمق المجتمع” التي تسير في اتجاه تفكيكه وجعله مشابها لبعض مجتمعات اميركا الجنوبية من نواحي التنمية وانعدام السلم المجتمعي !
هذه الملاحظات – حسب راي- مهمة في مجال تقييم القوى السياسية العراقية لواقع المجتمع والبلد، ومفيدة في صياغة مشروع اصلاحي حقيقي… هنا تدوي في الاذن المقولة العراقية الشائعة ( امشي ورة المبجيك ولا تمشي ورة المضحكك) … دون ذلك، فالطوفان قادم