23 ديسمبر، 2024 5:30 م

المسرحي محمد جاسم عيسى : الدُرُ النفيس

المسرحي محمد جاسم عيسى : الدُرُ النفيس

“الأشياء تحدث.. لكن لا أحد يجيء”صموئيل بكيت/ في انتظار غودو
أتجاوز مرارات ، عقد كامل مزقَ ، وأتلفَ حياة جيلي وحياتي.كنت قادماً من سجن الحلة الذي أبتلع ثلاث سنوات كاملة من شبابي وآمالي وتطلعاتي الإنسانية و البسيطة،دلفت إلى منطقة “السِيّف” في “البصرة القديمة”، بعد منتصف ستينيات القرن المنصرم،لأصل مقهى “هاتف” ، ثمة أصدقاء قُدامى،جرحى الأرواح والأجساد،بسبب خصومات الأيديولوجيات المتزمتة المتناحرة ومصالحها ومعاركها وساحاتها العراق كله. بين مَنْ كان في المقهى: المفصول من التعليم الناقد جميل الشبيبي، والشاعر عبد الكريم كاصد ، والكاتب الراحل خليل المياح ، والصحفي ، الراقد في صوفيا، جعفر موسى علي، والروائي إسماعيل فهد إسماعيل، الذي رحل وأسرته إلى الكويت ، والشاعر مصطفى عبد الله النائم في إحدى مقابر القنيطرة بالمغرب، والقاص والروائي علي جاسم شبيب، والشاعر محمد طالب محمد،المقتول غدراً برصاصة واحدة أطلقها على رأسه أحد أعضاء الحركة السلفية في الجزائر ، والمثقف البصري اللامع عبد المحسن براك(أبو براك)،الذي يصلنا مساءً قادماً من قضاء الزبير،والثاوي حالياً في مقابر غرباء عمان،والقاص،الفتى حينها،سلمان كاصد،الدكتور في اللغة العربية بعد ثلاثة عقود،والشاعر شاكر العاشور،وعبد الحليم كاصد،الدكتور في الاقتصاد في ما بعد، والمقيم حالياً في موسكو،واسعد احمد الباقر المتخصص باللغة الألمانية،والمعلم الأنيق جداً جعفر موسى عزيز (أبو هشام)،وغيرهم من الأصدقاء،لا تسعفني الذاكرة حالياً على تذكرهم جميعاً فمعذرة أخوية لحضرتهم،ومحمد جاسم عيسى الطالب في كلية الحقوق،والذي قادني نحو المكتبة (الأهلية) لصاحبها ومؤسسها في البصرة عام 1928 الحاج المرحوم ” “فيصل حمود” أبو غازي، وتعرفت فيها على الشاعرين حسين عبد اللطيف ومحمد صالح عبد الرضا والقاص والروائي الراحل كاظم الأحمدي،كل أولئك الأصدقاء كانوا من المحسوبين،بهذا الشكل أو ذاك،على اليسار العراقي، المهضوم ومثخن الجراح حينها.محمد لنحوله الشديد وطرافته التي لا حد لها وكونه يشع حباً وسخاء روح كان القاسم المشترك في جلساتنا بالمقهى التي تحولت زاوية منها، وكانت لصق حائطها الأخير لما يشبه (الملتقى الثقافي) لنا.(محمد) كان يكتب الشعر بتأثر واضح بمظفر النواب ونزار قباني، وكنا ننبهه إلى ذلك فيرد: أقبل هذا!!. لروحه الطلقة وسماحته ودعاباته البريئة وإخلاصه ووفائه الذي لا حد له لكل مَنْ يعرفه كنا نسميه (محمد..الدُرُ النفيس) لكن اسعد احمد الباقر بروحه الفكهة، قَلبهُ إلى(محمد دَرّنَفيس)وبقي هذا الوصف ملتصقاً به ولم يشكل أي عقدة له بل تبناه كعلامة مميزة له. بعد أن طبع الروائي إسماعيل فهد إسماعيل روايته الأولى” كانت السماء زرقاء”/ دار العودة في بيروت/ وقدم لها الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور، زارنا حاملا الرواية وأهداها لنا،في المقهى ، وكتب على نسخة منها ما يلي:” اعترف بان أول مَنْ قرأ هذه الرواية مخطوطة هو محمد جاسم عيسى ثم جميل الشبيبي وحاوراني حولها كثيراً وأعدت كتابة بعض فصولها على ضوء حواراتهما  الغنية معي ، و محمد أحد أبطالها الأساسين وهو الذي عرفني على أصدقائي الأدباء والمثقفين في المقهى”. ووقع عليها ، فتناولها الناقد جميل الشبيبي وكتب أسفل كتابة إسماعيل فهد إسماعيل ما يلي:”أشهد بهذا..” ووقع عليها كذلك ، وقدمها إسماعيل بحضورنا إلى محمد. محمد جاسم عيسى كان عضواً وممثلاً في فرق بصرية مسرحية عدة ، أسسها رواد الحركة المسرحية في المدينة، وأورد ذلك الناقد بنيان صالح في مخطوطة كبيرة كتبها عن تاريخ (الحركة المسرحية في البصرة)،لم ينشرها،لكني اطلعت عليها،وكذلك يورد اسمه الأستاذ احسان وفيق السامرائي في كتابه(لوحات من البصرة.. عبير التوابل والمدن البعيدة)/ص332/ ضمن نشطاء العمل المسرحي الشباب،في مرحلة الستينيات.كتب محمد عدداً من المسرحيات وأسس مع بعض زملائه الفرقة المسرحية في جامعة البصرة،وأخرج بعض مسرحياته التي كتبها للفرقة كذلك، كما كتب السيناريوهات السينمائية وعرضها على المخرج قاسم حول ، والذي طلب منه أن يحتفظ بها إلى الوقت المناسب.بعد مجيء البعث للحكم ثانية تعرض محمد وبعض زملائه في كلية الحقوق لضغوط من قبل الأمن الطلابي التابع لحزب القتلة وتم الاعتداء عليهم بشدة وقسوة، وعندما زرته في بيته، الواقع في منطقة الأصمعي القديم (الومبي)، شاهدت آثارها على عينيه ووجهه وجسده النحيل.بعد تخرجه انتسب لنقابة المحامين وعند ممارسته المحاماة اكتشف التواطؤ والالتفاف على القوانين لصالح سلطة قذرة ومؤيديها،وتلمس الانتهاك الإنساني في أروقة المحكمة والموجه بالذات ضد فقراء البشر،فترك المحاكم وظل يردد ما قاله(جوزيف.ك)بطل رواية (المحاكمة) لفرانز كافكا:”كلما اقتربُ من بناية المحكمة..أشمُ  رائحة عفونة القوانين”. ذات شتاء ما قرر محمد السفر إلى (إيران) فاستعار معطفي الثمين ، والذي أرسله ليّ من الكويت أحد الأصدقاء.بعد جولة في بعض مناطق إيران، وعند وصوله إلى(عبادان)أفلس محمد تماماً،ولم يعد يملك حتى أجرة عودته إلى البصرة،فباع معطفي لتمشية أموره،وذكر لنا في المقهى:” انه يثق بأني لن أطالبه بالمعطف أو ثمنه نهائياً ، لكنه كان يواجه البرد الشديد ويرى المعطف،خلال تجواله في عبادان معلقاً في المتجر ويتحسر على دفئه الذي كان يتمتع به”.عندها التقط القاص سلمان كاصد هذه الحكاية وكتب عنها قصة قصيرة بعنوان (معطف السائح المعلق في سوق عبادان) ونشرها في جريدة(الفكر الجديد)، وأعاد نشرها في أحدى المجلات اللبنانية،ربما(الآداب) أو(الطريق).غادر محمد جاسم عيسى بصحبة القاص خالد الخميسي إلى الكويت، وبعد انتهاء مدة زيارتهما ، وعدم رغبتهما العودة إلى العراق،وإفلاسهما،تكفل الصديق الروائي إسماعيل فهد إسماعيل، كعادته وبيده الناصعة البيضاء الدائمة،بتقديم العون والمساعدة المتواصلة إلى الأصدقاء ، وقام بحجز تذاكر السفر جواً لهما،وعلى نفقته الخاصة،نحو بيروت، مع رسالة تزكية لا يرقى إليها الشك لبعض خلص أصدقائه ومعارفه فيها،وقُبل تطوعهما، نتيجة ذلك في”منظمة التحرير الفلسطينية”وعملا في الفرع الإعلامي فيها. نسب(محمد جاسم عيسى)للعمل مع المخرج قاسم حول في دمشق،والذي كان يعد لفلم تسجيلي عن حادثة واقعية قام بها شاب فلسطيني يتسلل ليلاً منفرداً نحو بلده حاملاً ما استطاع من سلاح و يُكتشف من قبل دوريات الجيش الصهيوني فيصطدمَ بها ويقتلَ بعض إفرادها لكنهم يجهزون عليه ويمثلون بجثته، ثم يرمونها على الحدود. وروى محمد لي ما يلي: صباح يوم ما في دمشق” قاسم حول” يحمل كامرته وحقيبته وإنا احمل دفتراً كبيراً يحتوي على سيناريو فيلم (اليد) والذي كتبه قاسم ويستعد لإخراجه بتكليف من المؤسسة السورية للإخراج السينمائي، طلب قاسم مني أن انتظره في كافتيريا وترك معي ما يحمله.ثم عاد بعد فترةٍ طويلةٍ ومعه كيس مغلق جيداً و لم اعرف محتوياته ، طلب قاسم مني حمله،ذهبنا وتغدينا معاً والكيس إلى جانبي،وعدت إلى غرفتي فوضعت الكيس مجاور فراشي.غادرنا عصراً للبدء بتصوير الفيلم، والكيس معي.طلب مني قاسم، في الأستوديو، فتح الكيس وما أن فتحته حتى أصبت بالرعب والذهول وكدت انهار،كان في الكيس الذي كنتُ احمله طيلة النهار(يـدٌ)بشرية مُجمدة و مقطوعة من الكتف حصل عليها قاسم من فرع التشريح بكلية الطب في جامعة دمشق لغرض استخدامها في الفيلم،وكنت كل ذلك الوقت احمله ولم يعلمني قاسم بمحتوياته.عاد محمد بعد عام(1973 )إلى البصرة ، ثم عين عن طريق مجلس الخدمة العامة ملاحظاً بمديرية التعاون في الموصل وأوفد إلى(ألمانيا الشرقية) للحصول على دبلوم تعاون وبقي سنة كاملة هناك ، وهزه الحنين للعراق فعاد تاركاً الدراسة وتزوج من فتاة (موصلية) كونه عراقياً ولا يعبأ بما يفرق العراقيين ألان،وأنتقل معها إلى البصرة خلال أواخر الثمانينيات،وفُرض عليه مجدداً بالإكراه الانتماء لحزب القتلة فرفض ذلك،واعتقل أكثر من ثلاثة أسابيع في مديرية ” أمن البصرة” بتهمةٍ ملفقةٍ،وبعد إطلاق سراحه،عاد إلى الموصل ومعه أسرته الصغيرة.أتلف(محمد جاسم عيسى)كلَ ما كتبَ لسبب لم أعرفه ولم يتطرق له أمامي نهائياً،لكنه ترك فقط كتاباً مخطوطاً كبيراً بعنوان(قدرات الدماغ البشري الفائقة)وهو دراسة(بارسكولوجية)تكشف عن ثقافة غنية حديثة و عميقة ومتجددة في معرفة النفس البشرية وخفاياها، وصار عضواً في جمعية(البارسكلوجين العراقيين)بعد أن ألقى بعض المحاضرات فيها، ونشرتُ له قسماً منها في مجلة(مرايا) الشهرية البصرية والتي كنت اعمل فيها.في عموده الأسبوعي بجريدة الصباح (العدد2764) كتب القاص والروائي حميد المختار مقالاً بعنوان( أبو إيفان) ، وهو الاسم الذي أطلقه (محمد)على ولده البكر، جاء فيه:” محمد ابن عمي وقد رأيته في حداثة سني وحين كان يزورنا في مدينة الثورة في الستينيات ، يقص علينا  قصصه الغرائبية عن الموتى وحكاياتهم المخيفة  فكان أول مَنْ غرس في داخلي  حب القصص السحرية ذات المنحى الغرائبي الادهاشي”.ذكر لي القاص والروائي والمخرج المسرحي (نصيف فلك)،وهو ابن عمه أيضاً:” انه أول مَنْ حبب المسرح لي خلال زياراته تلك”.عاد محمد إلى البصرة، بعد سقوط النظام،وإحالته على التقاعد لبلوغه السن القانونية ، وأخبرني انه في الموصل، في فترة ما، كان ضمن خلية أعضاء في الحزب الشيوعي العراقي،ومعه في الخلية والد السيدة المناضلة الشجاعة الدكتورة “كاترين ميخائيل”. في العام الماضي ألقى محمد قصيدة في ذكرى تأسيس الحزب الشيوعي العراقي في الحفل الذي إقامته “محلية الحزب في البصرة”. في هذا العام بدأ بكتابة قصيدة عن الشهيد”سلام عادل”، أسمعني بعضاً منها،وقرر المشاركة فيها بعد إكمالها في حفل”محلية البصرة” بمناسبة الذكرى الـ (79) لتأسيس الحزب في 31 آذار. صباح الخامس والعشرين من شباط هذا العام، كنت انتظره ليزورني ويطرد الوحشة عنيَّ بعد أسبوعين على رحيل زوجتي أم (ودّْ)و (وضاح)، والتي تجلهُ وزوجته جداً.لم يصل ذلك اليوم إلى مسكني(الدُرُ النفيس..)..ولم أعلم منه هل أكمل قصيدته عن(سلام عادل) أم لا؟. فقد انقض طائر الموت عليه صباحاً.. وهو يستعد لزيارتي.