مازال بعض الخطاب الاعلامي العراقي المكتوب والمسموع الموجه لمختلف شرائح المجتمع يعاني خللا فاضحا في بنيته التركيبية واللغوية والثقافية , فهو ركيك الصياغة , ضعيف الفكرة, تكثر فيه كلمات الاطناب والتهويل والتمجيد لصاحب المنجز ويهمل المنجز نفسه , ومع اول سطرين تكتشف ان الغرض من الخطاب أو الخبر هو لعمل هالة اعلامية حول شخص المسؤول وصفاته الخارقة , وتكتشف سريعا ضحالة وغباء الفكرة التي يدور حولها الخبر , بحيث يضيع الانجاز وسط كلمات التضخيم لصاحب الانجاز وتضمحل الفكرة الاصلية وسط ضجيج وصخب كلمات رنانة متكررة ساذجة عفا عنها الزمن وتجد نفسك امام كم هائل من كلمات التبجيل والتعظيم حتى تتخيل نفسك انك في مجلس لتعظيم احد الاباطرة او القياصرة في العصور الوسطى المتخلفة !!. ونحن في عصر السرعة والتقنيات تجد خطابنا الاعلامي تغلب عليه صفة الانشائية الركيكة, ومبتعدا عن الواقع المعاش المرير, وملئ بالافكار المكشوفة المكررة ,وفاقدا لبوصلته, وتضيع في مرات كثيرة أهمية الخبر بسبب سذاجة وغباء الطرح الاعلامي المبتذل والتركيز على تلميع وتضخيم صورة الشخص المراد تعظيمه .
ومن اهم أسباب تلك الخطابات المقيدة بسلاسل النفاق والتعظيم لصاحب السيادة هو الموروث الهائل من الاف الخطابات الاعلامية التي كتبت في الماضي القريب وهي تمجد وتخلد وتعظم سيادته ومقامه وفخامته , ناهيك عن سطوة الاعلام المسيس بواسطة المال القذر المستخدم في تلميع صورة أقبح مخلوقات الله على الارض؟ .فكم من جلاد ظالم صورته الخطابات كأنه نبي , وكم من لص مشهور سرق اهله وضح النهار صار راعيا للفقراء والمساكين , وكم من خائن عميل حولته الدوائر الاعلامية الى بطل وطني يقود الوطن الى الخلاص والحياة السعيدة ؟ .
وانت تتمعن يوميا في قراءة عشرات الخطابات المكتوبة في مختلف وسائط الاعلام , تصاب بالغثيان والحنق بسبب الطريقة التي كتب بها الخبر , ولنأخذ أمثلة لنماذج عدة من خطابات موجهة لشرائح بعينها , أختار منها عشوائيا لنطلع على ضحالة الفكرة والاسلوب الموروث القديم المنافق الذي لاهم له سوى التبجيل لصاحب الخبر دون التركيز بموضوعية على عملية سرد وكتابة الخبر بمهنية عالية , واقرأوا معي هذا الخطاب المنشور في احدى المواقع التابعة لواحدة من الجامعات العراقية وهو طبعا موجه الى جمهور عالي الثقافة في مجتمع الجامعة وسأخفي الاسماء الصريحة حتى لا أتهم بالشخصنة , يقول الخبر : زيارة السيد رئيس الجامعة المحترم، يرافقهُ مساعد رئيس الجامعة للشؤون العلمية المحترم ، إلى أقسام رئاسة الجامعة هذا اليوم. هنا ينتهي المقطع الاول من الخبر وهو كارثة كبرى بحق الجامعة ومسؤوليها , حينما يتم تصوير زيارة مسؤولي الجامعة الى اقسامهم التي من المفروض أنهم يداومون فيها يوميا على انها خبر يستحق النشر والاهتمام؟؟, والا فمن المنطقي انهم يتواجدون يوميا بين اقسام دائرتهم التي توجد بها مكاتبهم , فهل هم يحتاجون لترخيص او لتحفيز لزيارة مكاتبهم والاطلاع على عمل موظفيهم الذين لا يبعدون عنهم سوى بضعة امتار؟؟؟. ولنتابع تكملة الخبر وهويقول : واطلع السيد رئيس الجامعة على الأداء الوظيفي في الأقسام والتقى بالسادة رؤساء الأقسام والموظفين واستمع إليهم , وأشاد بجهودهم جميعا وما يقدموه خدمة لجامعتنا ولمواكبة التقدم العلمي والإداري في المؤسسات التعليمية ؟؟ انتهى المقطع الثاني, وهنا يبرز سؤالا مهما : ألم يكن المسؤول قد أطلع من قبل على سير العمل مع رؤساء اقسام دائرته ؟, بالتأكيد أنه يلتقيهم يوميا والا كيف يستطيع انجاز مهامه؟, وتتواصل مطبات الخطاب وهفواته حينما يأتي المقطع الاخير محيرا في كيفية فهمه وهو يقول : وشكرَ السادة رؤساءِ الأقسام والموظفين السيدَ رئيس الجامعة على زيارته الكريمة, ومتابعته الحثيثة ودعمه الكبير وحرصه الشديد على الأداء الوظيفي . انتهى, وهنا نتساءل : هل يجوز تقديم الشكر للمسؤول من قبل موظفيه بأعظم كلمات التقدير والتبجيل لقيامه بأبسط واجباته ؟ أفلا يعتبر هذا التصرف من باب التزلف والتملق الوظيفي الفاحش الرخيص, فما الجدوى من نشر هكذا خبر عادي سوى كسب ود المسؤول وتضخيم عمله وتصويره على انه منجزا كبيرا بينما هومن صميم عمله العادي الروتيني اليومي, فأين الانجاز في ذلك ؟. ثم تأتي الفاجعة الاخرى بنفس الخبر وهي صورة في غاية الغرابة تعزز خبر زيارة رئيس الجامعة وهو يتمشى في ممرات أقسام رئاسة جامعته نفسها, لا أقسام جامعة لندن ,ويظهر فيها محاطا بثلة من الرجال المتبخترين, ثلاثة على كل جانب متأهبون تماما لمنع من يريد الاقتراب من سيادته , وكأنه يهم بأختراق الخطوط الامامية لدفاعات عصابات داعش!! ملوحا بيديه مؤديا التحية لبعض الموظفين الذين يقفون امام ابواب غرفهم للترحيب بمقدمه , وكأنه لم يرهم منذ سنوات !! , فيكون استنتاجك المؤكد في هذا الخبر والصورة المرفقة معه واحدا من اثنين : أما أن المسؤول بعيد تماما عن اقسام دائرته وان زيارته لهم مرة في السنة كهلال العيد وهذه مصيبة , لذلك يتم الاحتفال به لندرة رؤية وجهه الباسم , وأما أنه يتواصل معهم باستمرار لكنه أحب أن يستعرض زيارته واعتبرها حدثا مدويا وانجازا كبيرا وتلك مصيبة اكبر؟؟. متى يستوعب المسؤول في بلادنا أن الانجاز الذي يحققه ليس في مواظبته الحضور الى اقسام دائرته أنما الأنجاز في تطوير عمل دائرته وتحسين نوعية الخدمات المقدمة لأبناء بلده؟؟.
على المسؤول الكف عن التصرف كطاووس ( منفوش) الريش , يقرب المتملقين الذين يكيلون له المديح , ويعلقون بأعذب التعليقات حتى لو قبل أن يعطس في (الفيس بوك)؟ وعليه أن يتحلى بالتواضع والتفاني في خدمة مجتمعه بعيدا عن عدسات الكاميرات والاستعراضات الرخيصة , وأن لا يسمح للوصوليين والمنافقين بأستغلال منصبه للوصول الى مرادهم , وأن يعمل بصمت وهدوء وبحرفية بعيدا عن الاعلام المكشوف المباشر الرخيص المكتوب بطريقة تجعل المسؤول مادة للتندر والسخرية فيضيع كل حسناته ومنجزاته الحقيقية. ومما يثير السخرية تلك العبارة المكتوبة على باب غرفة مدير عام احدى الدوائر التي راجعتها في بغداد : ممنوع الدخول نهائيا للموظفين والمراجعين ؟, اذن فمن مسموح له الدخول ؟ هل هناك صنف من المخلوقات لا نعلمهم؟ وكيف يعرف السيد المسؤول مشاكل منتسبيه وهو يمنعهم من رؤية طلته الجميلة؟ أم أنه قصد التعبد في مقر عمله بعيدا عن ازعاجات زوجته وبيته ؟ , وانا على يقين أن بطانة السوء زينت له هذا التصرف, بينما نرى دولا اخرى تمنع أي حاجز بين المسؤول والمواطنين , بل بعضها جعل غرفة المدراء دون أبواب ليتسنى لاي مواطن مقابلة المسؤول دون أذن بالدخول!!. على بعض المسؤولين الكف عن التصرف وكأنهم سلاطين وملوك في قصورهم , ويأملون ممن يحضر مجالسهم التسبيح والتحميد باسمائهم والتغني بصفاتهم, وأن من يدخل عليهم عليه ان يكون كالمتنبي وينشد: وَيُغنيكَ عَمّا يَنسُبُ النّاسُ أنّه ….. إلَيكَ تَنَاهَى المَكرُماتُ وَتُنسَبُ.!!
وأن يكون كالرسام فام كوخ فيرسم لوحة عباد الشمس موهما السيد المسؤول أنه قصده بتلك اللوحة, بينما في الواقع هو يشبه كثيرا كافور الاخشيدي ؟؟؟؟؟؟.