يلاحظ في الآونة الاخيرة، ان الاحساس بالمسؤولية العامة قد ضعف الى حد كبير، وربما بسبب عدم القدرة على الفصل بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة، وربما لعدم الوعي بحدود المسؤولية العامة ومقتضياتها، وربما ايضاً لفقدان الاهلية لدى اولئك الذين يتوقع منهم الاحساس بهذه المسؤولية والعمل بها اكثر من غيرهم. وقد ينطبق هذا على المؤسسات الرسمية في الدولة بقدر انطباقه على مؤسسات المجتمع المدني.
فاذا كانت المسؤولية العامة تعني ضرورة القيام بالواجب والالتزام بامانة واخلاص، وتعني ان على الفرد والجماعة ممارسة الدور الوطني بايجابية وفعالية ضمن حدود المصلحة العامة وبالاستناد الى الرقابة الخارجية، فانها تعني ايضاً وفي كل الاحوال الاحساس بكلية المسؤولية والحرص على الترتيب المنطقي للاولويات فيما يخص او يعم من الامور، بحيث اذا كانت المصلحة الخارجية للفرد او للجماعة او الهيئة او التنظيم تتناقض او لا تتحقق الا على حساب المصلحة العامة، فالاولى ان يتم تجاوزها لمصلحة الوطن وذلك اضعف الايمان.
ان الوطن بمعناه المادي والقيمّي، والمجتمع او الشعب بمعناه السياسي والانساني، والدولة بمكوناتها الرسمية ومقوماتها المادية واقانيمها المعنوية… ان هذا كله اكبر من الفرد او التنظيم او الهيئة، واولى. ولهذا يفترض ان تكون المصلحة العامة غاية ومعياراً، ويفترض ان تضبط الادوار والتحركات والمساهمات على هدى الاحساس بالمسؤلية العامة. وتأتي اهمية هذا الضبط كاعتراف فعلي بتوفير شرطين من شروط الدولة القابلة للبقاء:
الشرط الاول- هو الايمان بالتعبير المؤسسي للمواطنة، بمعنى ان المواطنة حالة مستمرة لها خصائصها ونظامها في الحقوق والواجبات، وهي مؤهلة لتأكيد هوية صاحبها، وان من شأن ذلك ان يؤدي الى تلاحم الفرد والمجتمع والكيان السياسي والقانوني الذي يعبر عنه ويمثله، وبالتالي يوجد بين هذه العناصر مجتمعة في الوظيفة والوسيلة والغاية. اي ان كلاً منها يبرر وجوده من خلال علاقته بالآخر وليس على حساب هذه العلاقة. وعليه، فان انتقاء هذا الفهم ينفي العلاقة ويلغي مفهوم الحق والواجب، ويصبح مفهوم المواطنة بلا معنى، وادعاء اكثر منه حقيقة، وربما لو تفحصنا واقعنا لاكتشفنا الكثير من الامثلة على ذلك.
اما الشرط الثاني- فانه الربط بين الدور والمصلحة العامة والاحساس المستمر بالمسؤولية العامة، وهذا يؤكد وجود حالة من المجتمع المتمدن الذي يعبر عن نظام اجتماعي اقتصادي قابل للتطور وفقاً لعوامل ذاتية وبصورة لا تعتمد بالضرورة على متطلبات محددة سلفاً او على ما تفرضه المؤسسات القانونية والسياسية، التي هي لها حق السلطة وفرض القرارات والاتجاهات، بل ان هذا الشرط/ المجتمع المدني يؤكد وجود حياة متفاعلة تسمح بانشاء علاقات اجتماعية واقتصادية خاصة لدى الجماعات المختلفة التي يتكون منها الشعب/ المجتمع، اي ان هذه الجماعة تمتلك قدرة ذاتية ونظام حركة وتطور ومساهمة في تحمل المسؤولية العامة وخدمة المصلحة العامة، حيث تفرز المؤسسات المختلفة في الحياة الاجتماعية المدنية ووفقاً لتفاعلاتها الخاصة منظومة القيم التي تحكم عملها ودور كل فرد فيها. اي وبمعنى اوضح يتمكن المجتمع من ايجاد ترتيبات اجتماعية واقتصادية وقيمية تعبر عن كونه مجتمعاً حديثاً له القدرة على الارتقاء والتقدم.
وفي مثل هذا المجتمع يكون الربط بين المواطن والفرد والشعب والدولة ربطاً حقيقياً عضوياً ومعنوياً. ويكون الربط او التلازم بين المصلحة العامة والمسؤولية العامة امراً حتمياً ونتيجة لتربية وطنية وحتى المصلحة الخاصة تجد مكانها في سلم الاولويات الوطنية والعادلة والنزيهة.
لهذا يلاحظ في المجتمعات المتقدمة ان يترافق حس المواطنة مع الحس العام بالمسؤولية العامة، وان تترافق المصلحة الخاصة مع المصلحة العامة، بصورة شرعية وكفؤة. ومن هنا تندر مظاهر التناقض والانحراف والفساد، اي ان المواطنة كنظام للحق والواجب تقلل الى حد بعيد مظاهر التهميش الاجتماعي، والتوافق بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة يولد الاستقامة بالعمل كقاعدة لممارسة المسؤولية الواجب، كما ان نظام الثواب والعقاب الفعال ادى الى ان تكون مظاهر الانحراف وعدم الاحساس بالمسؤولية على اقلها.
في ضوء ذلك كله ما الحال لو نظرنا الى واقعنا؟ فهل يمكن ان نصل الى مثل النتائج الآنفة الذكر؟ وبمعنى اعم هل تحقق لدينا مفهومي المسؤولية العامة والمجتمع المدني؟
قد يكون من الانصاف وقبل الاجابة بالنفي ان تشير الى وجود مؤسسات مختلفة للوظائف والواجبات في الدولة وقد يكون من الانصاف ايضاً ان لا ننسى جهد المخلصين قلة كانوا ام كثرة، وقد يكون الشرط الاولي لبناء المجتمع المدني- وهو الاقتصاد- قد تحقق في هذه الدولة ولكن حتى يمكن الجزم باجابة مرضية وايجابية، يبدو ان كل ما حدث بحاجة الى نقاش واقناع حتى يمكن قبوله كحجج وحقائق.
المجتمع المدني يقوم على اساس ربط واضح ومؤسسي بين الوطن (قيمة) والمواطن (حق وواجب) والدولة (مؤسسة وكيان)، وبهذا يمكن القول بان المجتمع المدني قد يوجد رسمياً وشعبياً. فالتقصير الذي يلمسه الجميع في الاداء والاحجام عن ممارسة الدور لا بد ان يتلاشى لمصلحة الفعالية وان تتحول المؤسسات ويتحول المجتمع وبافراده كافة الى مهمة بناء الوطن وخدمته في سياق منتظم. عند ذاك تصح السياسات وتنشط الادارات ويتحرك الاقتصاد وتضيق مساحة التهميش السياسي والاجتماعي وتتراجع مظاهر السلبية في المواقف والافعال ازاء كل ما يعتبر عاماً. وعندها ايضا لا تكون الحدود بين ما هو مباح وما هو ممنوع معومة وغير معروفة، فيندر التجاوز على العام والخاص.
اما المظاهر السلبية الاخرى للسلوك الانساني غير السوي مثل النفاق والاستزلام وعبادة الذات والتشهير واغتيال الشخصيات وتعظيم الدور الفردي بالادعاء والاعلام… كلها ستخف لمصلحة السلوك الانساني السوي المعتدل. وفي حينها لن يكون التوتر هو سيد السلوك والتصرف، وسيكون التسامح والحوار والمنطق السليم هي مظاهر السلوك الفردي والجمعي والمسؤول.
ان الوطن بحاجة الى بناء وبحاجة الى العقلية الايجابية او بحاجة الى الاحساس بالمسؤولية العامة كقاعدة للعمل، وبحاجة الى تأكيد المصلحة العامة كمعيار وغاية. وكل هذا لا يوجد الا حيث توجد القناعة بان الوطن والحق اولى بالرعاية.
[email protected]