المسؤولية الأخلاقية في اسكان الفقراء

المسؤولية الأخلاقية في اسكان الفقراء

لم يكن السكن يمثّل حاجة ملحّة في العراق إلا بعد موجات الهجرة الواسعة من الريف إلى المدينة، تلك الهجرة التي كانت أقرب إلى فرار جماعي من الظلم، كمن يفرّ من الطغيان بلا زادٍ ولا مأوى. وجد الفلاحون أنفسهم أمام خيارين: إما البقاء تحت رحمة الإقطاع، بسياط أعوانه ورصاص سراكيله، أو الهجرة نحو المجهول، بحثًا عن خلاص وكرامة.

لكنّ هذا الخلاص لم يكن سهلاً؛ لم تكن هناك خيام ولا كرفانات، ولا مساعدات إنسانية أو حكومية، ولا حتى سلال غذائية. عوائل كاملة افترشت الأرض والمستنقعات، وبنت مساكن من الطين والتنك وبقايا الأنقاض، اتقاءً لحر الشمس وغدر المطر. هكذا بدأت العشوائيات تتكوّن في قلب بغداد، لا كعبء على المدينة، بل كرافعة لها. فالفقراء المهاجرون جلبوا معهم أيادي عاملة ساهمت في الإنتاج والعمران، دون كلفة تُذكر.

غير أن تلك “الصرايف” الجديدة خلقت فوارق طبقية بين ساكنيها وسكان بغداد الأصليين. مشهد البؤس أثار أزمة أخلاقية عميقة، وكان أحد محركات الغضب الشعبي الذي فجّر ثورة تموز. لكن، وكما يحدث في كثير من الثورات، اختلط الحق بالباطل، فبدل الاقتصاص من الإقطاع وأعوانه، وقع القتل على الملك ورئيس وزرائه، ودخل العراق في دوامة من الفوضى لم تخرج منه حتى اليوم.

ولو أن الثورة وجّهت رصاصها نحو رموز الإقطاع بدل رأس الدولة، لربما انتهت فتنة الطبقية، ولما تحوّل الإقطاع إلى شبح يلاحق العراق حتى الآن.

وبدل اجتثاث الجذور الفاسدة، صار الثوار الجدد أنفسهم جزءًا من منظومة الاستبداد، حين تساهل قائد الثورة، عبد الكريم قاسم، مع من تلطّخت أيديهم بدماء الأبرياء، فصاروا لاحقًا أدوات فاشية انقلبت عليه، واغتالته بالتواطؤ مع بقايا الإقطاع، والمخابرات الأمريكية، والحكومة الكويتية.

كانت تموز مزيجًا من النوايا النبيلة والأخطاء القاتلة، وكان قاسم، الزعيم الساذج كما يراه خصومه، هو الاستثناء المضيء فيها. وحده تعامل مع الشعب بعفوية وصدق، وفتح قلبه للفقراء دون حساب. بعد أيام من التمرد، وزّع أكثر من مئة ألف قطعة أرض على المهاجرين، كحل مؤقت ريثما تُبنى مدن متكاملة بالخدمات. لكن المؤامرة على الرجل لم تنتظر طويلاً، فتمت تصفيته في مشهد يذكرنا بيوم عاشوراء.

عبد الكريم قاسم هو أول من فكّر بجدّية في حق العراقي بالسكن الكريم، دون تمييز بين ضابط أو عامل فرن، معلم  أو مهندس او طبيب او قاضي. منح الضباط أراضي بمساحة 600 متر، ومنح مثلها لعمال الافران دون تمييز او طبقية او انتماء حزبي او قبلي او واسطة. كانت تلك عدالة اجتماعية نادرة في تاريخ العراق الحديث، وكان إسكان الفقراء بالنسبة له مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون سياسة عامة.

لكن الصورة تنقلب تمامًا عندما نقارن ما فعله عبد الكريم قاسم بما يفعله اليوم من تسلّموا الحكم باسم الديمقراطية.

رئيس الوزراء الحالي، محمد شياع السوداني، قدّم نموذجًا فاقعًا للتمييز الطبقي: فقد منح فريق كرة قدم وطاقمه الفني والإداري قطعًا من الأرض كمكافأة على فوزهم في مباراة غير رسمية ضد سلطنة عُمان، بينما نكث وعده ولم يمنح متراً واحداً للمتقاعدين ممن خدموا الدولة لأكثر من أربعين عامًا.

في زمن قاسم، مُنح الطلبة الأوائل بعثات دراسية على نفقة الدولة، وكان الطالب يحصل على سكن ومصرف جيب وغذاء مجاني أو مدعوم. أما اليوم، في عهد السوداني، فلا يُسمح حتى بتقسيط أجور الدراسة الباهظة للطلبة المتفوقين في الكليات الاهلية ، ولا تُمنح قروض للفقراء واليتامى، بحجة أن “هذه أموال الشعب ويمنع القانون مخالفة استخدامها”. لكن القانون نفسه يُجيز له توزيع ملايين الدولارات كهبات ومساعدات ووقود ولابتوبات لجهات مختارة، بلا أي معيار عادل.

حين سُئل السوداني: لماذا تُكرّم شيوخ العشائر وأبناء السياسيين وأحفاد الإقطاعيين وتمنحهم الاستثناءات، بينما تحرم منها أبناء الفقراء؟ أجاب بمنتهى الصراحة: “عددهم لا يتجاوز العشرة آلاف، أما الفقراء فهم أكثر من عشرين مليونًا. وصوت الأقلية دائمًا أقوى في الانتخابات.”

هذا التمييز لم يبدأ مع السوداني؛ سبقه نوري المالكي، الذي وزّع ساحات بغداد وحدائقها ومرافقها العامة كهبات لمقربين وأتباع، خارج أي تخطيط أو قانون. وهكذا تحوّلت المساحات العامة المخصصة لمكتبات ومستوصفات ومتنزهات إلى مشاريع سكنية للمقربين والمتنفذين.

ما يجمع بين نظام الدكتاتورية البعثية والنظام الديمقراطي القائم بعد 2003، هو أن كليهما اعتمد على المحسوبية والمنسوبية والتمييز في توزيع الأراضي والمناصب والامتيازات. كل من استفاد من هذين العهدين ارتكب جريمة أخلاقية وقانونية، لا بد أن يُسأل عنها أمام الله والتاريخ: لماذا هذا التمييز؟ لماذا تُمنح الأراضي والمناصب لناس دون آخرين؟ ولماذا تُكرَّم قلة قليلة بالهبات، بينما يُترك الفقراء يراوحون في مكانهم منذ عقود؟

الدكتاتور صدام حسين، منح الكثير من الامتيازات على أسس الولاء والمحسوبية، وميّز بين الناس في التعيين والترقية والسكن. وحين سقط، ظنّ الناس أن زمن الاستثناءات انتهى، فإذا بهم يواجهون استثناءً جديدًا مغلّفًا بالديمقراطية. بقيت الامتيازات تُمنح لنفس الطبقة، وتُحرم منها “طبقة ولد الخايبة”، الذين ينتظرون الإنصاف في زمن لا إنصاف فيه.

هؤلاء المهمّشون لم يشملهم التمييز في زمن صدام، ولا في زمن المالكي، ولا في زمن من جاء بعده. تتبدل الحكومات، ويبقى التمييز على حاله .

رؤساء الحكومات “الديمقراطية” الذين تعاقبوا على السلطة بعد 2003، من إياد علاوي إلى محمد شياع السوداني، لم يختلفوا كثيرًا في جوهر سلوكهم عن من سبقهم في زمن الاستبداد. إياد علاوي، في أولى سنوات “العهد الجديد”، وزّع أراضي لموظفي مجلس الوزراء رغم قصر مدة خدمتهم، فاتحًا الباب لنهج قائم على الامتيازات لا على الاستحقاقات.

من بعده جاء المالكي والعبادي والكاظمي والسوداني، وكلهم واصلوا المسار ذاته: توزيع الأراضي على المسؤولين في الرئاسات الأربع، وهيئة الاجتثاث، والنزاهة، والسجناء السياسيين، والدرجات الخاصة، في حين بقي موظف الدولة، والمعلم، والجندي، والشرطي، والعامل، والمضمد، والطبيب، والمهندس، خارج هذه القسمة، وكأنهم ليسوا من أبناء هذا البلد.

في زمن البعث، كانت عائلة الشهيد تُمنح قطعة أرض وسلفة عقارية ومنحة مالية، وإن كان ذلك مقابل دمٍ سال في معركة عبثية. أما اليوم، في ظل “الديمقراطية”، فالأب الذي استُشهد ابنه في حرب داعش، لا ينال قطعة أرض إلا إن ظهر في لقاء تلفزيوني يستجدي فيه حقًا تأخّر عقدًا من الزمن. لولا الكاميرا، لبقي الطلب في الأدراج.

الشعب ما زال يحلم بزمن قاسم، وأحيانًا بزمن أحمد حسن البكر، عندما كانت الأراضي توزّع بناءً على المهنة لا الولاء: حي الضباط، حي النواب ضباط، حي العمال، حي الشرطة، حي الصحة، حي المالية، حي الأمانة، مدينة الثورة… الأخيرة التي ظلّت عنوانًا للفقراء، رغم كل ما تعرّض له سكانها من قمع وتنكيل واضطهاد على يد الدكتاتورية، ثم الإسلام السياسي.

الفقراء في مدينة الثورة دفعوا ثمن كل الحروب، من حرب إيران، إلى الكويت، إلى داعش، إلى الفقر الممنهج. وفي كل بيت من بيوتهم عُلق نعش، أو قُرئ عزاء. ومع ذلك، كانوا أول من ابتهج بسقوط أعتى دكتاتور في تاريخ العراق، لا حبًّا بالأمريكان، بل انتصارًا لكرامتهم المهدورة.

ولولا دخول المارينز بغداد، لكان قصي وعدي قد أكملا المجزرة، ولظل شيوخ الولاء يرقصون على أنغام “الله يخلي الريّس”. لكن حلم الخلاص لم يدم طويلاً؛ فسرعان ما استُبدل القمع القديم بقمع جديد، تمارسه أحزاب الإسلام السياسي تحت يافطة “المقاومة”، و”السيادة”، و”الدولة العميقة”.

مدينة الثورة – ظلت على حالها منذ قاسم، وكأن الزمن توقف فيها. أحياء مكتظة، طرق محفرة، بنى تحتية متهالكة، وملايين من البشر يعيشون في منازل أقرب للمقابر. وحين يُسأل الإسلاميون عن سبب الخراب، لا يجدون جوابًا سوى “المؤامرة”، و”الصهيونية”، و”الإمبريالية”، وكأن الفساد والإهمال لم يكن من صُنع أيديهم.

أما السوداني، فبعد وعوده بتعديل سلم الرواتب، وتخفيض رواتب الدرجات الخاصة، قرر أن يُنجز وعدًا واحدًا فقط: أن تُمنح الأراضي السكنية للمستثمرين، لا للفقراء. وعلى المستثمر أن يبني وحدات سكنية عمودية أو أفقية، بأسعار “رمزية” لا تقل عن ربع مليار دينار. هذه ليست عدالة، بل إعادة إنتاج للفقر بصيغة جديدة .

لو كان في هذا النظام السياسي قليل من الغيرة أو الحد الأدنى من المسؤولية الأخلاقية، لفعل كما فعلت دول خرجت من الحروب مدمّرة بالكامل، لكنها أعادت بناء نفسها بسواعدها:

ألمانيا، كوريا الجنوبية، اليابان، روسيا، بل حتى إيران التي تعيش تحت حصار دائم، استطاعت بناء أكثر من ثلاثة ملايين وحدة سكنية بأسعار مدعومة، وبكفاءات محلية.

أما العراق، الغني بالنفط والعقول والعمالة، فكل شيء فيه معطّل:

الجيش والشرطة بالملايين، وأغلبهم لا يُنتجون.

الوزارات ممتلئة بموظفين لا يعملون، بطالة مقنّعة بنسبة 90٪.

ومع ذلك، تستعين الدولة بشغيلة من شبه القارة الهندية!

تخيل لو أن هذه الدولة المترهلة قررت أن توظّف ربع قواها الأمنية والعسكرية – أي 25٪ فقط – في بناء وحدات سكنية للفقراء، بمواصفات لائقة، وفي مناطق مخططة بعيدة عن الزحام، وتخدمها مشاريع صناعية وزراعية وخدمية، مع معامل طابوق، وأسمنت، وحديد وطنية، ومهندسين ومشرفين عراقيين.

تخيل لو أن الأموال التي تُهدر على أرصفة الملح، ونخيل الزينة، وأثاث المكاتب الفاخره، والولائم، والجكسارات، والنثريات، والهبات والمشاريع الوهمية خُصّصت لبناء مساكن حقيقية، تؤوي العوائل لا الصور التذكارية.

لكن طامتنا مع الدكتاتورية، ومن بعدها الإسلام السياسي، لا تُشبه أي تجربة أخرى. فهم يتحدثون عن “جمهورية العدل”، بينما المواطن يعيش في جمهورية الأوهام.

لو أراد هؤلاء أن يتعلموا، فعليهم فقط أن يشاهدوا فيلمًا وثائقيًا عن تجربة السعودية في تحلية المياه وبما يوازي نهر دجلة والفرات والنيل أو كيف أنشأت روندا، الخارجة من مجازرها، بنية تحتية وسكنًا حضاريًا في سنوات.

ليت أحدهم يقرأ عن تجربة كوريا الشمالية في بناء المساكن المجانية، أو عن إيران التي، رغم ظروفها، يسكن قادتها في بيوت متواضعة، ويتنقلون بسيارات بسيطة، فيما خصصت اموال متواضعة لبناء شقق سكنية للطبقات الفقيرة ودون هدر او فساد، ولديهم الآن أكثر من ثلاثة ملايين وحدة سكنية فائضة.

هنا، في العراق، يسكن “ثوار الكهاوي” والوعاظ في الفلل، ويقودون مواكب من الجكسارات، بينما يسكن الفقراء في أحياء بلا خدمات، ولا كهرباء، ولا ماء صالح للشرب.

في إيران، القادة زاهدون، متعففون متواضعون ،وفي العراق، الوعّاظ يستعرضون موكبهم كأنهم ملوك وأباطرة .

وقد لا يكون هذا هو سبب “تفوق إيران” في المواجهة مع إسرائيل، لكنه بالتأكيد أحد أركانه: أن يعيش القادة كما يعيش الناس، وأن تكون القيادة مسؤولة لا منتفعة.

ومع ذلك، الزمن بيننا.

لقد أصبحت إيران دولة قوية. كوريا باتت قوة اقتصادية. رواندا تنهض من ركام الحرب.

حتى أفغانستان، رغم كل تاريخها من الحروب والتخلف، قد تصبح يومًا ما دولة أفضل من العراق.

أما نحن، فنراوح مكاننا، لأننا محكومون بمن لا ينتجون، ولا يفكّرون، ولا يملكون مشروعًا سوى الغنيمة

أزمة السكن في العراق ليست قضية عقارات وأراضٍ فقط، بل هي امتحان أخلاقي لدولةٍ فقدت بوصلتها، وطبقة سياسية لا ترى في الفقير مواطنًا، بل عبئًا انتخابيًا يُشترى ببضاعة بائسة .

وما لم تُعلن الدولة أن السكن حق لا منّة، واستحقاق لا هبة، فسيبقى الفقراء يتناسلون في العشوائيات، ويُدفنون فيها.

إن العدالة التي يحلم بها العراقيون اليوم، لم تأتِ لا من الدكتاتور، ولا من “الحاكم المؤمن”، بل من رجلٍ اسمه عبد الكريم قاسم، مات مديونًا، لكن سيرته ظلت تسكن في ذاكرة الفقراء.

جمعة سلمان

أحدث المقالات

أحدث المقالات