23 ديسمبر، 2024 12:41 م

المسألة الطائفية بين التديُّن الصحيح وتجاذبات السياسة

المسألة الطائفية بين التديُّن الصحيح وتجاذبات السياسة

1- التديُّن العبقريّ في مقابل التديُّن الغبيّ البليد

ليست الألمعية في التديُّن أن تكون متديِّناً طبقاً لمذهبٍ محدَّد، باستطاعة الجميع أن يفعلوا ذلك، حتى من لم يكن يملك مثقال ذرَّةٍ من وعيٍ أو ثقافة، إنما الألمعية في التديُّن، أن تدرك العمق الفلسفيّ للحقِّ في مذهبك**، فتنظر إلى المذاهب الأخرى من زاوية ما تتضمَّنه من الأجزاء التي تتطابق مع هذا الحقّ، فتكون حريصاً عليها من هذا المنطلق بالذات، ثمَّ تحاول أن تعزِّز تلك الأجزاء بأجزاءٍ أخرى لا بأساليب العنف والجريمة ونبذ الآخر، ولكن بأساليب مستمدَّةٍ بشكلٍ مباشرٍ من الجوهر الفلسفيّ المتسامح في الأجزاء التي تمثِّل الحقّ في مذهبك ذاته، حتى تكون مصداقاً للمبعوث رحمةً لا نقمةً للعالمين. هذا يعني أنَّ هناك حقّاً يجب أن يكون معترفاً به في كلِّ الأحوال لذوي العقائد الدينية من منطلق التعاليم التي تتضمَّنها العقائد الدينية كلُّها تقريباً، هو حقُّ الدعوة والتبليغ على وجه التحديد، فهو حقٌّ لا يمكن التنازل عنه بالنسبة إلى كلِّ ذي عقيدةٍ آمن بصوابيَّتها وحقّانيتها في إطار ما يوفِّر له الحجَّة أمام الله سبحانه في اعتناق الدين الحقّ والدعوة إليه على أساس ذلك، بيد أنَّ ما لا بد من الانتباه إليه هو أن لا ملازمة إطلاقاً وفق منطق الدعوات الدينية ذاتها بين الاعتراف بهذا الحقّ وأن يأخذ الإنسان على عاتقه مسؤولية هداية الناس جميعاً، أولئك الذين هم مغايرون له في العقيدة، أو مختلفون معه حول بعض المسائل المذهبية في إطار الدين الواحد،أي إنَّ الدعوة إلى العقيدة الدينية أو الاتجاه المذهبيّ المعيَّن هي من مسؤولية الفرد المتديِّن والمجتمع المتديِّن بتلك العقيدة الدينية المعيَّنة، بيد أنَّ الهداية مسؤولية الله سبحانه حصراً، فلا يكون من حقِّ أيِّ إنسانٍ، أو أيِّ مجتمعٍ الاشتراك مع الله في ممارسة هذا الحقّ، أو احتكاره من دون الله لنفسه هو من بابٍ أولى***.
هنالك جوهرٌ أصيلٌ في كلِّ دينٍ إلهيٍّ أو مذهبٍ منضوٍ تحت لافتة هذا الدين، هو بالضبط ما يشكِّل النقطة المركزية التي يجب أن تتمحور حولها كلُّ جهود الدعوة في الواقع، إنه ماثلٌ للعيان أمام كلِّ متديِّن، وإن كانت عوامل الغفلة هي التي تمارس تأثيرها على الفرد والمجتمع المتديِّن فلا يتمّ الالتفات إليه أحياناً، انطلاقاً من ذلك، لا بدَّ  من تحجيم هذه العوامل أو محاصرتها كلياً، لكي لا تمارس التأثير على بصائر المتديِّنين بحيث لا يلتفتون إلى هذا الجوهر، ومن ذا الذي هو قادرٌ على مساعدة جماهير الناس في هذا الإطار إلا العلماء والمفكِّرون، إنَّ هؤلاء بالذات هم القادرون على إنجاز القسم الأكبر من هذه المهمَّة، بأن يقولوا للناس إنَّ هذا الجوهر إنما هو ما أنتم تفقدونه وتقومون بالإجهاز عليه من خلال ما تنطقون به من الأقوال، وما تنفِّذونه من الأفعال، التي تبدِّد طاقات الأمة الإسلامية على ما سوف يصبُّ لا في مشروع جعل كلمة الله هي العليا كما تتصوَّرون، بل يصبُّ في مشروعٍ مضادٍّ تماماً لهذا المشروع، وهو المشروع الذي يؤدِّي إلى تبديد الطاقات المادِّية والمعنوية للمسلمين جميعاً في العالم على ما يؤدِّي إلى ضعفهم وخورهم أمام المشاريع المضادَّة للدين، بأن تتخذ من الصراعات الدينية والمذهبية مختلف الذرائع لدعوة الجماهير إلى التخلِّي عن المشاريع الإلهية بشكلٍ مطلق، كي تحلَّ محلَّها تلك المشاريع العلمانية المتطرِّفة التي تدعو إلى التميُّع والتحلُّل من القيم الأخلاقية والدينية، هذا من جانب، ومن الجانب الآخر، فإنَّ أحداً لا يخفى عليه الواقع المتخلِّف للمجتمعات الإسلامية على وجه العموم من النواحي الاقتصادية والعلمية والاجتماعية، وعليه فإنه لا بدَّ من أن يفكِّر الجميع في إحداث نهضةٍ في هذه المجالات جميعها، تجعلهم قادرين على مواكبة المجتمعات المتقدِّمة في العالم المعاصر، فإنَّ في مثل هذا الإجراء مشروعاً حقيقياً لجعل كلمة الله هي العليا، وما سوى ذلك من الأهداف التي إن وافقنا عليها من الناحية النظرية، فإننا سرعان ما سوف نشير إلى أكثر من خرقٍ لها على الصعيد الإجرائيّ والتطبيقيّ لدى جميع أتباع المذاهب الإسلامية مع الأسف، فليست الكارثة أن تكون الغالبية العظمى من المجتمعات الإسلامية في العصر الراهن مجتمعاتٍ فقيرةً من الناحية الاقتصادية، أو مضمحلَّةً من الناحية العلمية والتكنلوجية وما سوى ذلك من المجالات، لكنَّها كارثةٌ بالفعل أن تبدِّد المجتمعات الإسلامية -وهي على هذا المستوى من الفقر واضمحلال القدرات- القسمَ الأكبر من طاقاتها ومقدَّراتها المادِّية والمعنوية على تدمير ذاتها، والقضاء على كلِّ فرصةٍ لنفسها مستقبلاً في التنمية والازدهار.
ليس هناك ما هو مشرِّفٌ فعلاً في هذا الصراع الدمويّ بين أتباع الديانات عموماً، وبين أتباع المذاهب الإسلامية على وجه الخصوص، ليس من زاويةٍ قيميةٍ خاصةٍ يعتقد بها الكاتب فقط، بل من الزاوية المتعلِّقة بالاستدلال الذي يتأسَّس علىهمنطق كلِّ مذهبٍ من هذه المذاهب، بداهةَ أنَّ من يعتقد أنَّ التشيُّع هو المذهب الحقّ، فعليه أن يقول هو حقٌّ بماذا؟ أهو حقٌّ لأنه يمثِّل الإسلام مثلاً، فعليه أن يجعل من تشيُّعه صورةً طبق الأصل من الإسلام على هذا الأساس، ومن يعتقد أنَّ التسنُّن كذلك، فله أن يعتقد بهذا، شريطة أن يجعل من تسنُّنه صورةً قريبةً جداً من واقع سماحة الإسلام، لا أن يجعل منه صورةً طبق الأصل من الأجندات التي تتشكَّل على أساسها عصابات القتل والإجرام، فلا يستطيع في رأيي لا الشيعيّ ولا السنيّ أن يثبت أيٌّ منهما أنَّ أساليب الصراع المعهودة الآن من شأنها أن تقرِّبه أكثر إلى الروح الإلهية المبثوثة في جميع أجزاء الكيان الذي تتألَّف منه المنظومة العقائدية للمذاهب الإسلامية جميعاً، فإذا كان الدين الإسلاميّ لا يسمح لمعتنقيه أن يباشروا القتل أو أيّاً من أشكال الصراع المبتني على أنماط العنف مع الآخر العقائديّ، فكيف لنا أن نعتقد بأنَّ منطق التفكير الإلهيّ في الإسلام يسمح لنا بأن نتعامل مع الآخر المذهبيّ طبقاً لأشكال العنف ذاتها، علماً أننا جميعاً متأكِّدون من هذه الحقيقة الناصعة، وهي أنَّ جوهر الاختلاف لا يمكن أن يتعدّى تلك الحدود الاجتهادية المسموح بها في دائرة الاستدلال بين الفقهاء والمفسِّرين والمتكلِّمين والفلاسفة الذين طالما أغنوا الثقافة الإسلامية بالثمرات الإيجابية لهذا الاختلاف حتى أصبحت واحدةً من أهمِّ الحضارات التي يفتخر بها المسلمون جميعاً في التأريخ الإنسانيّ الطويل، فلو أنَّ أتباع كلِّ مذهبٍ فكَّروا باجتثاث الآخر هو وثقافته، فلن تكون النتيجة إلا اختفاء المسلمين جميعاً هم وثقافاتهم التي أسهمت بشكلٍ فاعلٍ في وصول البشرية إلى ما هي عليه اليوم من مظاهر التطوُّر والتقدُّم في نهاية المطاف.
بات الأمر لا يحتاج إلى برهانٍ الآن لو قلنا إنَّ الصراعات الطائفية الدموية لا تخدم أحداً من جميع الأطراف، لا السنَّة ولا الشيعة ولا المذاهب والأديان الأخرى، إنه لمن الحماقة بمكانٍ أن يتصوَّر السنيّ أنه يستطيع أن يجعل الشيعة سنَّةً عن طريق المفخَّخات والقتل العشوائيّ العامّ، وإنه لمن الحماقة بمكانٍ أيضاً أن يتخيَّل الشيعيّ أنه قادرٌ على أن يجعل السنَّة شيعةً بهذا الأسلوب العصابيّ والهيستيريّ الذي يتمسَّك به بعض الساسة البراغماتيين ورجال الدين من ذوي الأفق الضيِّق في النظر إلى المشكلات الحقيقية التي يعاني منها المسلمون في ظلِّ التحدِّيات المعاصرة في العالم، كن سنياً كما تشاء، وسيكون المجال مفتوحاً أمام الشيعيّ لينتفع من تراثك وثقافتك، وكذلك أنت أيها الشيعيّ، كن شيعياً كما تشاء، وسيكون المجال مفتوحاً أمام السنيّ لينتفع من تراثك وثقافتك، إلى أن تصلا إلى حالةٍ تجعلكما معاً تنظران إلى مواطن الخلاف على أنها ليست بتلك المثابة التي تؤهِّلها لنسف العدد الهائل من المشتركات الموجودة بين الاتجاهين اللذين تجاورا في الحياة والازدهار طيلة التأريخ السابق للإسلام.

2- التعدُّدية الدينية واحترام الآخر المختلف مذهبياً وعقائدياً من زاوية الإسلام.

متى تكون التعددية الدينية أو الطائفية  تعدديةً ضارَّةً بحيث أنها تشكِّل تهديداً واقعياً لحقيقة الإنسان، لا أقول الإنسان في البلد المعيَّن، بل الإنسان العالميّ بشكلٍ مطلق، إنها تكون كذلك عندما يتمُّ التغافل عن جملةٍ من الأفكار التي لا بدَّ لها من أن تكون ماثلةً في جميع الأذهان، منها أنَّ الهدف من أيِّ دينٍ أو من أيِّ مذهبٍ منضوٍ جنباً إلى جنبٍ مع مذاهب أخرى مجاورةٍ في إطار دينٍ محدَّد، هو أن تحصل الهداية الإلهية عن هذا الطريق، فإذا ما اتفقنا على أنَّ المضمون الواقعيّ للهداية لا يمكن إلا أن يكون من مختصّات الله عزَّ وجلّ، إنها وظيفته الرئيسية بمقتضى كونه إلهاً، وليست وظيفة أيِّ كائنٍ آخر حتى لو كان هذا الآخر نبياً أو وصياً أو زعيماً لمذهبٍ من المذاهب، بمقتضى قوله تعالى: ((إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ))1 وقوله تعالى: ((لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُون))، فلا يكون من واجب أتباع الأديان والمذاهب مهما اعتقدت طائفةٌ أنَّ دينها أو أن طائفتها هي الدين أو الطائفة التي تتوفَّر على عنصر الحقّانية بالقياس إلى الأديان والمذاهب الأخرى إلا التبليغ والدعوة إلى هذا الدين وإلى تلك الطائفة بالأساليب الفكرية التي لا تنقض هذا المبدأ، لتتعدّاه إلى ما اتفقنا على أنه من مختصّات الله تعالى، وهو المجال المتعلِّق بالهداية، على أساس أنها خطوةٌ لاحقةٌ يجب أن يقع التمييز بينها وبين الخطوة السابقة المتعلقة بالتبليغ والدعوة، هذه الخطوة الأخيرة هي وحدها ما ينبغي أن تكون مجال العمل بالنسبة إلى أتباع المذاهب والأديان كما هو واضح.
لك أن تقوم بالتبليغ والدعوة إلى دينك أو مذهبك، بعد أن تكون قد أفرغت الوسع في تمحيصهما واختبارهما من الناحية النقدية وفق الطاقة البشرية المتاحة لك كما تشاء، لكن ليس لك أن تتعدّى هذا الحيِّز لتأخذ على عاتقك مسؤولية هداية الناس جميعاً، مهما كان مستوى قناعتك بحقّانية هذا المذهب أو ذاك الدين كبيراً، فإذا ما فعلت ذلك، فاعلم أنك تتعدّى حدود الله، لتكون مواجهتك بالأساليب التي تناسب العصاة الحقيقيين لمنطق الله سبحانه واجباً على جميع أتباع المذاهب والأديان على أساس ذلك.
ثمَّ إنَّ هناك فرقاً لا بدَّ من الإشارة إليه في هذا المقام، بين أن يتصرَّف كلُّ متديِّنٍ بمذهبٍ معيَّنٍ طبقاً للقاعدة التي تدعو إلى الاعتراف بالتعدُّدية الدينية ومنح أتباع كلِّ دينٍ أو مذهبٍ الحقّ في التبليغ والدعوة إلى القناعات الدينية والمذهبية التي هم مؤمنون بها، وبين الاعتراف بحقّانية جميع الأديان والمذاهب، فمن الطبيعيّ أن لا يعترف المسيحيّ بحقّانية الدين الإسلاميّ، وإلا لآمن بالإسلام وترك ديانته، وكذلك بالنسبة للمسلم، فلو أنه اعترف بحقّانية الديانة المسيحية كما هي مقرَّرةٌ في دساتير الكنيسة حالياً،إذن لهجر إسلامه والتحق بالديانة المسيحية بناءً على ذلك، إنَّ الاعتراف بالتعددية الدينية لا يعني مطلقاً الاعتراف بحقّانية جميع الأديان والمذاهب، لكنه يعني فقط الاعتراف بحقِّ الوجود وممارسة الدعوة والتبليغ على قاعدة الخضوع للدليل والبرهان، على أن يكون أيُّإنسانٍ حرّاً في اختيار الدليل والبرهان الذي يؤدِّي إلى قناعته بأيِّ مذهبٍ أو أيِّ دينٍ يشاء على هذا الأساس.

3- الطائفية السياسية تتذرَّع دائماً بالطائفية الدينية.

إنها لمفارقةٌ كبيرةٌ في الواقع أن تجد بعض السياسيين العلمانيين بركِّزون على انتمائهم إلى طوائفهم مع أنَّ بعضهم لا يؤمن بحقّانية الدين من الأساس، فأيَّة قيمةٍ للحديث عن الطوائف الدينية بعد ذلك، هذا يشير إلى حقيقةِ ما يدور في أذهان السياسيين على الدوام، إنهم يبحثون عن عناصر القوَّة التي تدعم أغراضهم الخاصَّة في الحصول على المناصب السياسية بعيداً عما يمكن أن تكون عليه قناعاتهم العقائدية والفكرية، ومن الواضح أننا ضربنا مثلاً بالساسة العلمانيين ليس لنقوم بإدانتهم هم على وجه التحديد، فليس من مبتغانا ذلك، لكن لنشير إلى ما يقوم به الساسة الذين ينتمون إلى الأحزاب الدينية من بابٍ أولى، إنَّ المنطق البراغماتيّ الذي يرتكز عليه نمط التفكير السياسيّ في المفهوم المعاصر للسياسة هو هذا الخروج الدائم عن ربقة الأخلاق، بل إنهم لا يعدّون السياسيّ سياسياً ناجحاً ما لم يكن على هذا المستوى المتدنِّي جدّاً من الناحية القيمية والأخلاقية مع الأسف، ومن المفارقات الغريبة أن يوافق بعض رجال الدين على هذا التوجُّه للسياسة المعاصرة في البلدان الإسلامية، بحيث تكون النتيجة أن يصل إلى السلطة أناسٌ هم على مستوىً غريبٍ من الدناءة والانحطاط، إنني أفهم تماماً كيف أنَّ علماء السياسة المعاصرين من خارج الدائرة الإسلامية يركِّزون على تجريد السياسة من أيِّ بعدٍ أخلاقيٍّ أو قيميّ، لكنني عاجزٌ تماماً عن أن أفهم كيف أنَّ بعض رجال الدين يوافقون على هذا النمط من التفكير، مع أنهم يستندون في أقوالهم وأفعالهم كلِّها إما إلى القرآن الكريم، أو إلى السنة النبوية الشريفة، أو إلى روايات آل البيت المعصومين عليهم السلام، وهي كلُّها مما يتناقض كلِّياً مع هذا النمط من التفكير السياسيّ المنحطّ بطبيعة الحال.
أيها السياسيّ الطائفيّ الشيعيّ، أيها السياسي الطائفيّ السنيّ، دعاني أقل لكما شيئاً، إنكما تتنافسان على مواطن القوَّة والنفوذ في البلدان التي توجدان فيها، أنصحكما أن تدعا الدين للمتديِّنين، فإنهم لن يختلفوا فيه حتى وإن اختلفوا عليه، أما أنتما فكوِّنا لنفسَيكما حزبينِ عاهرينِ وخوضا غمار السياسة، وتنافسا على مكتسباتها الدنيئة التي هي لصوصيةٌ محضةٌ من أموال المساكين الشيعة والسنة على السواء، لكنَّكما لن تعملا بهذه النصيحة، أعلم ذلك، لأنكما تعلمان جيداً أنكما لو تركتما الحديث عن ضرورة الانتصار في الصراع الطائفيّ الذي تؤجِّجانه بأقوالكما وأفعالكما معاً، فإنَّ أحداً من الشيعة والسنة لن يوافق على بقائكما في السلطة دقيقةً واحدة، وستبدوانِ على حقيقتكما مجرِمَينِ ساقطَينِ لتستحقّا المحاكمة على يد الشعب بشيعته وسنَّته جميعاً بعد ذلك.

 

 

4- السياسيون الشيعة والسياسيون السنة لا يمثِّلون التشيُّع أو التسنُّن على وجه الضرورة

تلك هي الخديعة الكبرى التي يحاول أن يخدع بها الطائفيون أنفسهم أوَّلاً، وأن يخدعوا بها الآخرين الذين يُراد لهم أن يكونوا مادَّةً للصراع الذي يخوضه الطائفيون السياسيون ثانياً، إنها استراتيجيةٌ سهلةٌ وبسيطةٌ للغاية يمكن إثارتها في أيَّة لحظةٍ يكون فيها السياسيّ الشيعيّ أو السياسيّ السنيّ بحاجةٍ إليها لإثارة مشاعر أبناء طائفته الذين يتوقَّع منهم الدعم في مشروعه السياسيّ الذي هو أبعد ما يكون عن المصالح الحقيقية لأبناء طائفته أنفسهم، فحيث يكون المحور الرئيسيّ للنزاع والصراع هو المكاسب السياسية الفرعونية لمن هم منخرطون في العملية السياسية، يتمّ تحويله إلى محورٍ آخر يكونون قادرين من خلاله على تجييش المشاعر الطائفية لأتباع المذاهب التي ينتمي إليها هؤلاء السياسيون الفرعونيون الطائفيون، وتعبئة أتباع كلِّ مذهبٍ تعبئةً عدوانيةً ضدَّ أتباع المذهب الآخر الذي ينتمي إليه السياسيّ الفرعونيّ المنافس، ولا تتمثَّل المشكلة في تنفيذ هذه الاستراتيجية الطائفية فقط، إذ غالباً ما تلتفت قطاعاتٌ من الشعب إليها، بل تتعدّى ذلك إلى أنَّ هؤلاء الساسة بما لديهم من وسائل القدرة على تحريك الكثير من أدوات السلطة على أرض الواقع، يجبرون أتباع كلِّ طائفةٍ على الكون في وضعٍ لا يجدون معه مخرجاً من المأزق الطائفيّ حتى لو كان مرفوضاً لديهم من الناحية النظرية، إلا أنهم من الناحية العملية يجدون أنفسهم مضطرِّين إلى أن يكونوا طرفاً في الصراع الذي يفتعله هؤلاء الساسة،كأن يقوموا بتجنيد العديد من مجموعات القتل والاغتيالات والتفخيخ..إلخ، فتقوم هذه المجموعات بإشاعة القتل الجماعيّ والعشوائيّ وتفجير المناطق الآمنة واغتيال الكفاءات العلمية والمدنيِّين الآمنين الذين ينتمون إلى طائفةٍ معيَّنة، فيكون ردّ الفعل حاضراً من الاتجاه المقابل، وهكذا تتفاقم عوامل الاقتتال الطائفيّ والحرب الأهلية، ليكون البسطاء في بعض المناطق التي تشهد تنوُّعاً مذهبياً مضطرِّين-للدفاع عن أنفسهم- إلى التخندق الطائفيّ، ومع ارتفاع وتيرة القتل والشحن الطائفيّ بعد ذلك تكون الحرب الأهلية قد آذنت بالاندلاع،ومن ذا الذي يدفع الثمن الباهض لهذه الحرب في حال اندلاعها إلا الشعب المسكين بكلِّ أتباع أديانه وطوائفه وقومياته، أما الساسة الانتهازيون، فهم طبقاً للمعايير اللاأخلاقية التي يؤمنون بها ويصرِّحون بتبنِّيها علانيةً جهاراً- فإنهم الحاصدون لنتائج وثمرات هذا الصراع بالتأكيد.
ماذا يعني أصلاً أن يكون الوزير شيعياً أو أن يكون رئيس الوزراء شيعياً حتى، ما دام لا يتعدّى كلٌّ منهما شريعة الطغيان في كلِّ أقوالهما وأفعالهما، لئن يكون التشيُّع موجوداً في أقصى زاويةٍ من زوايا الابتعاد عن الحكم والسياسة بشكلٍ مطلق، خيرٌ له من أن يمثِّله سياسيون انتهازيون من هذا الطراز الذي جعل الإسلام كلَّه في خطر، هذا الكلام نفسه يقال عن الوزير السنيّ، أو عن رئيس البرلمان السنيّ، أو عن رئيس الجمهورية السنيّ، ماذا ينتفع منهم التسنُّن إلا السمعة السيئة التي تضعف من الرصيد الإلهيّ والإنسانيّ للتسنُّن على مدى التأريخ،  فكما لم ينتفع التشيُّع من السيرة المنحرفة عن المبادئ الإنسانية السامية التي تستند إليها الرؤية الشيعية منذ بداية الإسلام حتى الآن، كذلك لم ينتفع التسنُّن من سيرة الطغاة الذين حكموا العالم الإسلاميّ قديماً وحديثاً باسم المبادئ التي تبنّاها العلماء السنة في التأريخ.يقول سماحة السيد الشهيد محمد الصدر ((قدِّس سرُّه)) في هذا السياق: “سوف لن نتمنّى أن يملأ الوزارة أو مختلف مرافق الدولة رجالٌ من الشيعة وحسب، لن نتمنّى ذلك رغم كونهم معنوَنين بهذا العنوان، لأنه عليهم عنوانٌ فحسب، من دون أن يكون وراء هذا الاسم واقعٌ خارجيّ، فهو وإن كان يشعر بالعصبية الشيعية عند ضيق الخناق، لا يفكِّر من قريبٍ أو بعيدٍ في خدمة الإسلام، ولا بالمشاركة الفعالة في العمل الإسلاميّ المثمر، واستغلال الفرصة لخدمة دينه ومذهبه، لا يفكِّر إلا في حدود مصالحه، وفي حدود القوَّة التي حصل عليها شخصياً، والراتب الضخم الذي يقبضه كلَّ شهر، فإذا نظرنا بمقاييس الإسلام، لن تعجبنا الكثرة من هؤلاء الأشخاص، وتسلُّمهم زمام الحكم والإدارة في البلاد، رغم كونهم محسوبين على الشيعة ومنتسبين إلى المذهب، إذ لعلَّ أيَّ رجلٍ آخر يعتنق مذهباً من مذاهب الإسلام، أو يحمل عقيدةً باطلة، إذا كان منصفاً ومخلصاً يحمل بين جنبيه عقلاً وقلباً وضميراً إنسانياً، فإنه خيرٌ من هذا الرجل الشيعيّ المتفسِّخ”*****.
انطلاقاً من هذه الحقيقة، فإنه لا يحقّ لأيّ سياسيٍّ تسنَّم منصبه باسم الإسلام، ثمَّ اختار لنفسه السيرة الطغيانية في عمله السياسيّ أن يحتجَّ على العلمانيين مثلاً، لأنه هو بالضبط من وفَّر للرؤية العلمانية في السياسة والاجتماع تلك الدعائم والأسس التي تستند إليها في إقناع الناس بالابتعاد عن الدين في مجال إدارة الحياة، إنَّ هؤلاء السياسيين الإسلامويين الكاذبين هم من يجب أن نوجِّه إليهم أصابع الاتهام أوَّلاً، قبل أن نقرِّر إدانة العلمانيين على دعوتهم المستمرَّة إلى فصل الدين عن السياسة، أو فصل الدين كلِّياً عن الحياة.
عندما نكون سياسيين، أو ساعين إلى أن تكون لنا مناصب مرموقةٌ في الدولة، أو راغبين بأن يكون الدستور معبِّراً عن الرؤية الإسلامية العامَّة التي تُجمِع عليها المذاهب الإسلامية من دون خلاف، فإننا لا نقصد بكلِّذلك أن توجد شراذمُ من الانتهازيين والنفعيين الذين ضاق بهم العراق ذرعاً، وإذا شئنا أن نقول الحقّ، فإنَّ شعورنا بضرورة الحفاظ على السمعة العامَّة للإسلام هو الذي جعل هؤلاء يتصوَّرون أنهم في أمانٍ شاملٍ من العقوبة والمؤاخذة، مستندين في هذا الاعتقاد إلى تجارب مماثلةٍ تكرَّرت في التأريخ، إذ يجد المجتمع في ظلِّ مستوياتٍ ضعيفةٍ من الوعي نفسه مضطرّاً إلى أن يسكت عن مثل هذه التجاوزات، للربط الموهوم في أذهان الناس بين هؤلاء كأشخاصٍ يرفعون اللافتات الإسلامية في الحكم وبين الإسلام نفسه كدينٍ يجب أن يحظى بمنزلة التقديس على الدَّوام.
هل أفلحتأيها السياسيّ الشيعيّ أن تجسِّد ولو جزءاً يسيراً من الروح الإسلامية العظيمة في عهد أمير المؤمنين إلى مالك الأشتر، إذ ولاه الإمام على مصر بعد الغدر الذي تعرَّض له واليه المبارك محمد بن أبي بكرٍ رضي الله عنه، وهل أفلحت أنت أيها السياسيّ السنيّ أن تجسِّد ولو مجموعةً يسيرةً من كلمات علماء التسنُّن في التأريخ، أم أنَّ كليكما انحاز إلى سيرة الطغاة المارقين عن الإسلام، فكان السياسيّ –الشيعيّ ظاهراً- أقرب ما يكون إلى سيرة طغاة الأمويين ممن حاربوا آل البيت عليهم السلام،  كما كان السياسيّ –السنيّ ظاهراً- أقرب ما يكون إلى سيرة الخوارج الذين اتفقت كلمة المسلمين على أنهم مارسوا العنف والقتل والغصب بحقِّ الناطقين بعبارة ((لا إله إلا الله، محمد رسول الله))، ولماذا فشلتما في تجسيد ما ادَّعيتما أنكما تمثلانه لولا أنكما كنتما تسعيان إلى مصالحكما الذاتية والانتهازية الضيِّقة بعيداً عن أية صلةٍ لكلِّ ذلك بالتشيُّع أو بالتسنُّن على الإطلاق؟!.

5- عندما تكون الديمقراطية باباً من أبواب الشقاء

لا يجب أن يتَّخذ الحديث عن الديمقراطية وجهةً واحدةً كما أتصوَّر، حتى فلاسفة السياسة المختصّون بمعالجة القضايا الفلسفية المتعلِّقة بالديمقراطية لا يعتبرون مثل هذا الإجراء صحيحاً في الواقع، لا شكَّ أنَّ الديمقراطية واحدةٌ من النعم الكبرى على الشعوب الإسلامية التي عانت طويلاً من الاستبداد، لكن ليس بلا شروطٍ كما يتخيَّل الساذجون.
 أوَّل شروط الديمقراطية أن تكون الذات المجتمعية عند الإنسان الديمقراطيّ واسعةً بحجم الوطن، لا بل واسعةً بحجم الإنسان، الإنسان كلّه في جميع أنحاء الأرض، فإذا كانت العنصرية من الزاوية الديمقراطية مرفوضةً حتى لو تعلَّقت بالوطن المحدَّد ذاته، مع ما له من معنى مقدَّسٍ في جميع النفوس****، إذ يجب أن يتَّسع مفهوم الإنسانية الذي يتأسَّس عليه التفكير الديمقراطيّليشمل كلَّ المنتمين إلى هذا الحريم المقدَّس ((الإنسانية)) فماذا يمكن أن يُقال بعد ذلك عمَّن يشاء أن يكون ديمقراطياً انطلاقاً من أنَّ أحداً لا يستحقُّ أن يكون منطبقاً عليه هذا المفهوم الواسع للإنسانية ما لم يكن منتمياً إلى طائفته هوفي نطاق البلد الواحد، لا شكَّ أنَّ تفكيراً ديمقراطياً مؤسَّساً على هذا المفهوم الضيِّق للإنسانية لا بدَّ أن يضيق أيضاً عن استيعاب فئاتٍ واسعةٍ من أبناء الطائفة ذاتها في النهاية.
إذا شعرت أقليةٌ أو طائفةٌ معيَّنةٌ بأنَّ الحاكم يشكِّل عبئاً ثقيلاً عليها، فإنَّ هذا دليلٌ ناصعٌ على أنَّ هذا الحاكم إنما يحكم باسم الطائفة، علماً أنَّ طائفته ذاتها ليست بخير، هذا مؤكَّد، فمن المستحيل أن يخرق الحاكم القاعدة الأساسية للحكم الناجح المتمثلة بالعدل وهو ينوي أن ينصف الطائفة التي ربما دعمته في الوصول إلى السلطة، إنَّ الحاكم الطائفيّ أوَّل ما يظلم يظلم طائفته ذاتها بأن يجعلها طبقاتٍ تتراوح بين الثراء الفاحش والفقر المدقع، وبهذا يضمن أن تنطلي خديعته على أبناء الطائفة التي ينطلق منها ويضمن دعمها على الدوام، فإذا ما نطق الفقير أو توجَّع فإنه سرعان ما يكون متَّهماً بأنه يخطِّط للانقلاب على الطائفة، لا على ذلك الحاكم الجائر على وجه التحديد******.
أما الشرط الثاني للديمقراطية فيتضح فيما لو فقد أتباع الأديان والطوائف والقوميات هذا الرشد الإسلاميّ والديمقراطيّ، فلا يكون النظر إلى هذا التنوُّع الدينيّ والطائفيّ والقوميّ في البلد الواحد على أنه يمثل صورةً فسيفسائيةً تضفي المزيد من الجمال والثراء الثقافيّ والمعرفيّ على الجميع، فإذا ما أفلس الشعب من رشدٍ كهذا، فإنَّ البديل الذي هو
أفضل من الديمقراطية بالتأكيد هو الاستبداد، لأنَّ هذا الأخير حريصٌ على حالات السلم الأهليّ بين الناس لمصلحةٍ تعود عليه هو، تتمثَّل في استقرار الحكم كما هو معلوم، بناءً على ذلك فإنَّ المقدِّمة الضرورية الصحيحة لأيِّ حكمٍ ديمقراطيٍّ في بلدٍ ما هو أن توجد ضمانةٌ تكفل وجود هذا الرشد لدى الجميع، ولا تتمثل تلك الضمانة إلا في المحاولات الجادَّة المستمرَّة التي تقوم بها النخب الدينية والثقافية والسياسية باتجاه أن يرتفع وعي طبقات الشعب كلِّه إلى هذا المستوى المتقدِّم من تقبُّل الآخر الدينيّ والمذهبيّ واحترام خياراته العقائدية والثقافية والسياسية، تجنُّباً لكلِّ الحالات والظروف التي يمكن أن تجعل من الاستبداد هو البديل الأمثل للمشكلات التي يمكن أن تخلِّفها حالات الوعي المضادّ لهذه الفلسفة عند الجميع.
ليس النظام الديمقراطيّ في الحكم مجرَّداً من الرشد الذي يجب أن يكون متوفِّراً لدى الشعب ليكون متمتِّعاً بنعمة الحرية كما يتوهَّم السطحيون، الحرية كنزٌ كامنٌ في ضمير الشعوب التي تتوهَّج فيها الحياة على الدوام، أما الشعوب التي لا تعرف فرقاً بين الحياة الحياة والحياة التي حقيقتها الموت، فإنها لا يمكن أن تضع تعريفاً صحيحاً للحرية حتى لو أتيح لها أن تطبِّق بين ظهرانيها أعظم أشكال الديمقراطيات في العالم، لا بدَّ أنها ستقوم بإعادة تصنيع الديمقراطية بحيث تكون نتيجتها كلَّ هذا الدمار.

الهوامش:

*كاتب وشاعر عراقي من محافظة النجف الأشرف-العراق.
**أرى أنَّ من اللازم أن أشير إلى الفرق بين أن يكون المرء متديِّناً طبقاً لمذهبٍ محدَّد، وبين أن يكون من المتبنِّين للفكر الطائفيّ، فإذ يكون المرتكز الأساسيّ لهذا الأخير هو إلغاء الآخر المذهبيّ، بحيث لا يوافق على وجوده أصلاً ما لم يعتنق المذهب المختار عنده، فيوجِّه إليه مختلف أشكال الإلغاء والعداء، فإنَّ المتديِّن طبقاً لمذهبٍ محدَّد، لا يتبنّى هذه الفكرة بالضرورة، كلُّ كما في الأمر أنه يرى جانب المعذريةوالمنجزية متوفراً في اختياره للمذهب المعيَّن تحت لافتة الدين العامّ، أي إنَّ المذهب عنده ليس إلا طريقاً إلى تجسيد الدين، مع رضاه بأن يكون أتباع المذاهب الأخرى متمتِّعين بذات الحقّ على أساس ما رأوه معذِّراً ومنجِّزاً من الأدلة التي احتوتها استدلالاتهم التي شاؤوا من خلالها تجسيد ذات الدين، فيكون المجال مفتوحاً لدى الجميع للحوار والنقاش على أساس الخضوع للدليل والبرهان ليس إلا، هذا من جانبٍ، ومن جانبٍ آخر، فإنَّتمظهرات الطائفية لا تكون دينيةً على وجه الحصر، فقد تكون الطائفية دينيةً أو قوميةً أو قبليةً حتى، فلا يكون هدفها دينياً على وجه الضرورة، في حين أنَّ المذهبية لا يمكن إلا أن تكون متمحورةً حول الدين، ومستهدفةً لتحقيق غاياتٍ دينيةٍ في نهاية المطاف، وهو ما يجعلها منفتحةً على قبول الآخر المذهبيّ الذي يستهدف الغايات الدينية ذاتها وإن كان ذلك عن طريق اعتناق مذهبٍ آخر.
*** لعلَّ هذا هومفاد مجموعة من الآيات القرآنية الكريمة، منها قوله تعالى: ((إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)) سورة القصص-الآية 56، وقوله تعالى: ((لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ)) سورة البقرة- الآية 272. إلى آياتٍ أخرى كثيرةٍ بهذا المفاد يمكن تتبُّعها في القرآن الكريم.

****لا شكَّ أنَّ التفكير الذي يتأسس على النزعات العنصرية سواءٌ كانت باتجاه الطائفة أو باتجاه القومية، مبدأ مرفوضٌ من وجهة نظر الإسلام، بمقتضى قوله تعالى: “وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ” سورة المائدة –الآية 7. وقوله تعالى: “وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى” سورة الأنعام-الآية 152، وهو ما يجعل في الأسس الفلسفية والنظرية للاسلام قاعدة ارتكازٍ للديمقراطية هي أوسع نطاقاًمن جهة احتوائها على المضامين الإنسانية العامة من الأسس والمرتكزات الفلسفية والنظرية للعلمانيات المتعدِّدة في الواقع، نظراً لأنَّ ما هو شائعٌ من الديمقراطيات في العالم المعاصر لا يركِّز على هذا البعد الإنسانيّ العالميّ لمفهوم الديمقراطية كثيراً، بل ربما استُغلَّت الديمقراطية ذاتها للاعتداء على الشعوب المستضعفة المسالمة، لا لشيءٍ إلا لأنها لا تمتلك من مقوِّمات القوَّة العسكرية وأسلحة الدمار الشامل ما تمتلكه القوى الاستكبارية المهيمنة في العالم، بناءً على ذلك، فإنَّ هناك حاجةً ملحَّةً اليوم لتشذيب الديمقراطيات في العالم من هذا النقص الهائل المتمثل في ضيق مساحة الإنسانية لدى جميع الديمقراطيات في العالم على مواطني الدول التي توجد فيها، وهو ما يجعل من نعمة الديمقراطية تبدو كما لو أنها نقمةٌ كبيرةٌ في نظر الشعوب المستضعفة مع شديد الأسف.
***** الطائفية في الإسلام ص41-44.
******لاحظت ذلك بنفسي عندما اشتركت في مظاهرة 25 شباط المباركة، قبل أكثر من عامين، فلقد كانت مظاهرةً من أجل إجراء الإصلاحات على أداء الحكومة ومحاكمة الذين ثبتت عليهم تهم الفساد من الوزراء والمسؤولين، ولم تكن تهدف إلى تغيير النظام، اشتركت فيها قطاعاتٌ واسعةٌ من المثقفين العلمانيين والإسلاميين الشيعة والسنة، ومع أنَّ المظاهرة كانت تهدف إلى تحسين الخدمات وإلى إجراء تعديلاتٍ على رواتب وامتيازات المسؤولين في السلطتين التنفيذية والتشريعية لا غير، فإنَّ عناصر من الحزب الحاكم أشاعوا في الناس أنها مظاهرةٌ تهدف إلى الانقلاب على الحكم، وإعادة البعثيين، وما إلى ذلك من التهم التي أثبت الواقع أنها باطلةٌ فيما بعد.