تعريف:
أستنبطت فكرة المركزية الديمقراطية من قبل ماركس وأنجلس نظرياً، ثم طبقاها ومارساها عملياً في نضالهما ضمن الضروريات التطبيقية، أن كان على نهج العمل الحزبي الخلاق، والثوراة البروليتارية ضمن الأممية الشيوعية الأولى، فالأسس التنظيمية بالعمل الشيوعي الحزبي لجميع الأحزاب الشيوعية في العالم، تم تبنيه في برامجها السياسية خلال مؤتمراتها، لكن لينين تبنى مبدأ المركزية الديمقراطية سياسياً تنظيمياً قبل الثورة البلشفية وما بعد نجاحها، أما الأحزاب الثورية الأخرى خارج الشيوعية، فقد تبنت مبدأ الديمقراطية المركزية من الناحية النظرية فقط، وكلا المفهومين الشيوعي والثوري أخفقا في تبني المفهومين من الوجهة العملية، كونهما لم يتمكنا من خلق التوازن بين المفهومين المركزي والديمقراطي، أو الديمقراطي المركزي في آن واحد.
فالمبدأ من حيث النظرية الفكرية في الممارساة الحزبية، هو خير معبر للعمل التنظيمي الخلاق.. ولكن الخلل كان في التطبيق العملي الفعلي لهذين المفهومين المتكاملين، بأعتبارهما مصطح فكري متكامل بحيثياته الواقعية العملية، وفقاً للظروف الذاتية والموضوعية للموقع الجغرافي المعين.
الأهداف:
1. يعتبر مبدأ المركزية الديمقراطية أحد أهم الأسس في البناء التنظيمي لقوى وأحزاب ثورية منضبطة وخلاقة، كونها تشكل العمود الفقري في البناء التظيمي الأساسي لأي حزب أوحركة سياسية ناجحة عملياً.
2. المركزية معنية بها قيادة الحزب المعين، فهي تخطط وتطرح مشاريعها الأنية والمستقبلية على المشاركين في المؤتمرات الحزبية، وبعد أقرارها من قبل الأكثرية بحوار ديمقراطي سليم وشفاف، يتم أقرارها ومن ثم العمل وفقها.
3. ضمان تبني سياسة الحزب ما بعد نجاح المؤتمر من قبل جميع المنتسبين للحزب، من القاعدة وحتى القيادة المشرفة على التنفيذ.
4. الحفاظ على المتانة التنظيمية والفكرية والسياسية المقرّة، بأنضباطية عالية ومستوى متميز في التنفيذ الخلاق المبدع المتجدد بضبط حزبي سياسي.
5. أولى مهام المركزية، هو البناء الفكري الحزبي والسياسي التنظيمي ضمن أساليب الضبط الحديدي، مع طواعية الأنتماء السياسي الحزبي بعيداً عن سياسة الترغيب والترهيب. بممارسة الديمقراطية الحزبية الشفافة.
6. تربية الأعضاء وتثقيفهم وتجدد أدائهم نحو الأفضل، لخلق قياداة بديلة وبتجدد دائم، والحزب الذي يخفق في خلق قيادة بديلة متجددة، لآ يمكننا أعتباره حزب مؤثر على المستويين الداخلي والشعبي.
7. تعزيز أداء الكادر الحزبي، وتقربه الدائم من الجماهير الغفيرة، والأستماع لها بحنكة ودراية بما فيه الرأي الآخر المختلف، لخلق وحدة حقيقية بين الحزب وجماهيره.
8. ضرورة تامة ودائمة في ممارسة النقد والنقد الذاتي، وقبول الرأي والرأي الآخر بعناية فائقة.
9. أيجاد أساليب عملية في الأرادة والأدارة المعبرة عن مصلحة الشعب العليا لتبنيها بأمانة وأخلاص.
10. العمل المسؤول والجاد، لمنع الأنقسامات داخل البيت الحزبي الواحد.
الجدل:
المفهومان المتعلقان في بناء الحزب الثوري، المركزية والديمقراطية لاستيعابهما، كونهما متعارضان ومتناقضان، فالأولى تناقض الثانية كما والثانية تناقض الأولى، فالمركزية هي الضبط الحديدي الذي لابد منه في العمل الحزبي المنظم والمنضبط، والديمقراطية هو مفهوم متقدم في الحوار الجاد والموضوعي لقبول الآراء بما فيها المناقضة والمختلفة مع حرية الرأي للأعضاء بالقبول بها من قبل قيادة المركز، ولابد من تفاعلها وتفعيلها والأستماع اليها، أياً كانت مختلفاتها الفكرية والسياسية يتوجب التفاعل معها بموضوعية جادة. ولكن كلا المفهومين مكملين أحدهما للآخر، فيجب العمل لوحدتهما ودمجهما ضمن مفهوم واحد، للعمل التطوري التقدمي العملي الفاعلي نحو الأفضل، وفي خلاف ذلك يكون قد جنينا على المبدأ الوحدوي الحزبي، فيتم تفكيكه وتقزيم أدائه، خاصة عندما يتبنى الليبرالية السياسية في غياب الضبط الحزبي المركزي. فلابد من المركزية المنضبطة والمتفق معها ضمن الديمقراطية الموجهة.
الحذر:
هناك علاقة جدلية بين المفهومين المركزية والديمقراطية، فلابد من التوفيق والموازنة بين المفهومين، دون أعلاء شأن أحدهما على حساب الآخر، فممارسة المركزية على حساب الديمقراطية الحزبية، تتحول الى دكتاتورية حزبية سياسية، كما ممارسة الديمقراطية دون النظر للمركزية تتحول الأولى الى فوضى سياسية وثرثرة فكرية من دون ضبط وخارج القانون والدستور الحزبي المتفق عليه في المؤتمر.
فالديمقراطية يجب أن تكون منضبطة بعيداً عن الفوضى والتسيب وضعف الضبط الحزبي، وعدم السماح للآراء والأفكار المسمومة ولربما المندسة المعادية للحزب، في غياب التكتلات الداخلية الطارئة على الحزب، نتيجة أستغلال الديمقراطية والأنفتاح السياسي الداخلي.، وهذا لا يعني عدم ممارسة النقد والنقد الذاتي في الأداء الحزبي الفاعل، ولكن يتوجب المشروعية الحزبية ضمن النظام الداخلي للحزب المعين، مع تجاوز التخريب والفوضى والتفكك والبلبلة الغير الموفقة للعمل الحزبي، وعدم ممارسة النقد خارج المشروعية، أو ممارسة أعمال التخريب ونشر الفوضى أو البلبلة داخل كيان الحزب.
أما ممارسة المركزية على حساب الديمقراطية، يجر الحزب إلى ديكتاتورية داخلية غير موفقة، أو فرض أساليب ملتوية بعيدة عن روح الديمقراطية وجوهرها وأدائها الخلاق، مما يؤدي الى ضعف الحزب وتعطيل فعالياته وتهديد كيانه وتواجده.
كما العمل المفرط في تبني المركزية، يؤدي إلى ظهور البيروقراطية العقيمة في العمل الحزبي، ويبقى الحزب مجرد أوامر مركزية مبتذلة في العمل الحزبي، من خلال أوامر غير مدروسة وغير شفافة، كونها تمثل الرأي القيادي الواحد المتسلط على كيان الحزب. مما يؤدي الى بتر العلاقة بين الهيئات العليا والأدنى منها، وصولاً الى قاعدة الحزب. فيتحول الحزب الى أداة تنفيذ أوامر بوليسية قاهرة لرفاقه في الحزب الواحد والرأي الواحد، النتيجة تكون ظلم للشعب في ظل الحزب الواحد، متحولاً الى نظام دكتاتوري فاشي أرعن.
ولنا تجارب عديدة في أخفاق حاصل للمركزية الديمقراطية، مارستها الأحزاب الشيوعية برمتها في العالم، مخالفة بذلك المبدأ اللينيني الديمقراطي المبني على أسس التفاعل الحر والشفاف مع المبدأ المركزي، كما جرى لحزب البعث العربي الأشتراكي في تبنيه للديمقراطية المركزية، التي فرغها من محتواها الحقيقي، ليس على مستوى الحزبي الداخلي فحسب، بل تعداه على مستوى الدولة التي حكمها بالحديد والنار، وبالضد من رفاقهم الحزبيين أيضاً، فتحول الحزب الى عسكر ينفذ الأوامر العليا دون قيد أو شرط، (نفذ ولا تناقش)، بما فيهم القياديين في الصف الأول من الحزب، كما وكوادره المتنوعة ضمن مواقعها السلطوية، ناهيك عن دور الجهاز الحزبي القمي للشعب، مع ممارسته سياسة الترغيب والترهيب في آن واحد.(تريد تمرة أخذ تمرة.. تريد جمرة أخذ جمرة.).
الممارسة والتطبيق:
بحكم المبدأ النظري، المركزية الديمقراطية تعني وجود حرية العضو المنتسب للحزب وأحترام توجهاته وأفكاره، بما فيها المختلفة مع توجهات القيادة الحزبية وكادرها المتقدم في التركيبة الحزبية، مع توفير ظروف واعية للأنتخابات في الحزب، من القاعدة وحتى أعلى موقع في القيادة من خلال كونفرنسات قاعدية ومحلية وأقليمية وصولاً لمؤتمر الحزب العام، لدراسة جماعية لمشروع الحزب ونظامه الداخلي والمصادقة عليهما بموجب رأي الأكثرية، مع الأحتفاظ الكامل برأي الأقلية بعد تثبيتها كتابياً والحفاظ عليها أرشيفياً، مع الألتزام الكامل بنتائج ومقررات الحزب وبيانه الختامي، وعدم الخروج مما تم الأتفاق عليه في مؤتمر الحزب العام، بعيداً عن الثرثرة والتشكيك الغير المبرر ما بعد المؤتمر، وما يلفت للنظر من حيث التطبيق لمنهاج الحزب، ما بعد أستلامه للسلطة السياسية، يبدأ تغليب النهج المركزي على النهج الديمقراطي داخل الحزب والسلطة، وهنا يخلق الفجوة البدائية ثم تتوسع الى حدها الأقصى، والتي لا تنسجم مع تطلعات وأهداف الحزب المرسومة قبل أستلامه السلطة ولاحقاً بعدها، ليبدأ الشرخ الكبير بالتوسع ما بين القاعدة والقيادة هرمياً، بعد أن تكون القرارات المركزية ملزمة التنفيذ على حساب الديمقراطية المعلنة ضمن برنامج الحزب ونظامه الداخلي، وخاصة القرارات المركزية بالتنفيذ اللاشرطي من قبل القاعدة والكادر الوسطي، وبهذا يتحول العمل الحزبي الى تبني النهج الدكتاتوري بعيداً عن الديمقراطية ومستبعداً لها، في كل مجالات الحياة الحزبية والعامة، بعد تطبيق الأنضباط الصارم والحديدي، ليس على أعضاء الحزب وحسب بل تعداهم لعموم الشعب، في ظل سلطة حزبية قمعية همجية، خارج المبادي المتيسرة، بما فيه المبدأ المركزي الديمقراطي.
إن أي مبدأ يحمل في طياته ميلاً إلى المركزية أكثر مما يحمل ميلاً إلى الديمقراطية، تكون نتائجه مخيبة للآمال، فأكثر الناس ديمقراطية من المناضلين الشيوعيين، تحولوا بعد تبوئهم المراكز القيادية في السلطة إلى ديكتاتوريين ففقدوا ثقة شعوبهم بهم. فالمركزية المفرطة سواء في الحزب أم في إدارة الدولة والاقتصاد، شكّلت أحد أهم أسباب انهيار تلك الأحزاب، ناهيك عن أنهاء الدولة ونظامها الشيوعي.
والمهم لابد من المركزية القانونية والدستورية الفاعلة والمؤثرة، القابلة للتطبيق العملي بعد فهم وأستيعاب النظري، وفق صياغة التوجيهات المنفذة قانوناً ودستوراً، بموجب الآليات المتاحة والمتفق عليها سلفاً، بمتابعة سير العمل بطريقة سلسة ومؤثرة ضمن العمل المخطط له.
فتطوير الديمقراطية المستمر وتكوين الآليات الواقعية والممكنة لظروف كل بلد، هي المسؤولة عن حماية الحزب بتحوله إلى بيروقراطية مدمرة تودي بحياته، والديمقراطية هذه يجب أن تفرضها الشعوب على النخب الحاكمة في المجتمعات والأحزاب، لذلك تم التأكيد على أن الديمقراطية هي التي يجب أن تحرك وتفعل المركزية وليس العكس، وتم تقديم أولوية الديمقراطية على المركزية في الأحزاب الثورية غير الشيوعية، ومع ذلك يمكن القول إن العبرة في المضمون والممارسة أكثر من التسمية الشكلية للمفهوم، لكن تلك الأحزاب فشلت فشلاً ذريعاً في تطبيق العمل الديمقراطي المركزي الذي تبنته الأحزاب القومية في برامجها، ومنها تجربة البعث العربي الأشتراكي في العراق وسوريا مثالاً.