23 ديسمبر، 2024 11:09 ص

المرحوم في اسطنبول

المرحوم في اسطنبول

في مقبرة عراقية موحشة اجتمع بعض الموتى ذات ليلة مقمرة وطرق رحيلهم عن الدنيا واحلامهم التي اجهضها الموت وتفسيراتهم لما حصل بعد رحيلهم .. من استولى على الثروة ؟ وتزوجت من التي اصبحت الارملة ؟ وكثرت شكوكهم باصدقاء او اقارب وكانت اغلب الاحاديث والشكوك والاتهامات تدور حول امر واحد هو من تزوجت بعده ؟ او ارتبطت بمن ؟ وكانت كل التهم تكال لمن كانوا اصدقاء مقربين ومن كانت حبيباتهم او زوجاتهم تبدي بهم اهتمامهن يوم كانوا هم على قيد الحياة وتشعب الحديث وتعددت اسماء المتهمين وكيلت التهم للنساء حد الشجار والخلاف الا واحد ظل متمسكا بصمته وذهوله ولم يسمع منه كلام فالتفتوا اليه جميعا وسألوه :

. لماذا السكوت وانت بعيد عن الدنيا ومخاطرها ؟

ابتسم بمرارة وقال :

قصتي مختلفة جدا فأنا في دنياي احببت امراة واخلصت لها وفضلتها على غيرها لم نتزوج ولم يشغلني غير وجودها ورغم انها كانت شحيحة المشاعر الا اني رضيت ببخلها وكان لنا اصدقاء تختار هي في كل فترة واحدا منهم تقربه منها لتشعل غيرتي عليها فنختلف .. شجار وقطيعة وخلاف وصلح لكن اخر مرة قربت صديق وبالغت كثيرا في قربه وللامانة كان حمدي خدوما مطيعا لها يمشي خلفها ويحمل كل مشترياتها برضا وطيب خاطر ويبتسم لها كلما نظرت اليه وكنت احسبه مثل سابقيه ستستغني عن خدماته ذات يوم لكنها تمادت كثيرا حتى وصل بها الحد تركت كلمة ( تريد ) التي كانت تكلمني بها واستبدلتها بكلمة ( نريد ) وتقصد هي وهو ولم ينفع بها النصح ولا التنبيه بل كان يزيدها عنادا واصرارا على التمادي وفي احدى الليالي اتصلت وقالت : ( نريد الذهاب الى .. هل تذهب معنا او لديك مايشغلك ) وافقت وحددنا موعدا في الصباح ولما وصلت وطلبت منها الذهاب اصرت على انتظار صديقها ( حمدي ) الذي لم يدر بخلدي انه شغل مكاني منذ اشهر وانا اختلق لها في نفسي التبريرات والاعذار لكنها كشفت عن نفسها بوضوح وقدمت حمدي علي وفي الطريق تركتني وسارت معه وتركتني وحيدا في الطريق فتركتهم وعدت ادراجي اجر اذيال خيبتي ولم تمضي الا ايام قلائل وزارني ملك الموت ليريحني من الامي واحساسي بالغدر والخيانة وفي التشييع رأيتها تستند على كتفه وترائي بالحزن فكنت سعيدا بموتي وانقاذ عزرائيل لي من ان اراها ويراها الاخرون مع غيري .

قبل ان يردوا عليه او يستفسروا منه نادى احد الملائكة الموكلين بالمقبرة ..

اسمعوا ايها الموتى ..

ان كبير الملائكة الموكل في هذه المقبرة قرر منح ثلاثة منكم اجازة لمدة سنة تعودون فيها للحياة والشرط الوحيد ان لاتعودون لاوطانكم ولا لدياركم انما لغيرها وتتكلمون بلغة غير لغتكم لكن من حقكم ان تزوروا اوطانكم ان استطعتم وتروا ماحل باهلكم واصدقائكم بعد موتكم . رفض الجميع العودة خوفا من كون المتغيرات ربما ستكون عسيرة الهظم لكن الملك التفت له قائلا :

ربما انت الوحيد بينهم الذي مات ناقص عمر لذا خذ هذه السنة اجازة وتمتع بها واعلم انها لن تعرفك فأنت ستكون بهيئة وشكل اخر لاتعرفه هي .

فهز رأسه بايماءة موافقة وطلب ان يكون له حق اختيار البلد فوافق الملك فورا واختار تركيا ولم يسأله الملك عن السبب وبدأت الاجازة فورا وجد نفسه في اسطنبول شباب وسيم وغني ونشاط وحيوية وبلغة تركية صافية كأي اسطنبولي اخر .

. اخذ يجوب اسطنبول كل ليلة يفتش الفنادق عن افواج سياحية قادمة من العراق وفي ليلة شاتية رآها مقبلة تتابط ذراعه وتهم بدخول الفندق فاستشاط غضبا وغيرة لكنه كتم غيظه يوم تذكر انه ميت في اجازة وان الموكل بالمقبرة قادر على اعادته لقبره عند ابسط مخالفة وقد حذره قبل ان يمنحه الاجازة . دخل خلفهم وجلس قريبا منها على احد ارائك صالة الاستقبال وتحدث معهم بعربية ركيكه لكنها مفهومة واخبرها انه يملك مصنعا للاحذية وانه يجيد قراءة الكف والطالع ويستطيع قراءة الماضي وليثبت لها ذلك اخبرها باسمها واسم صديقها وهمس باذنها باشياء لايعرفها غيره فاندهشت وداخلها خوف ورغبة بمعرفة الكثير لكنه اعتذر منها بلطف واخبرها انه يروم الذهاب لتناول طعام العشاء وتمنى عليها ان تقبل هي وصديقها دعوته فقبلت واخذهما الى مطعم تركي فاخر واختار طاولة منفردة جلسوا حولها فهمس بأذنها اذا تحدثت لك عن ماضيك هناك اسرار هل ترغبين بسماعها من قبل صديقك ؟ صمتت برهة ثم قالت لاعليك سابعده لكي تتكلم براحة واسمعك بهدوء .

. طلبت من حمدي ان يكون بعيدا قليلا لخصوصية الحديث فأمتثل كعادته وتنحى بعيدا

. امسك بيدها وضحك وقال ..

هذه ليس المرة الاولى التي امسك يدك فيها لكن لازلت اذكر المرة الاولى يوم مسكتها على ارض وقعت عليها معركة كبرى بين الاتراك والانكليز في بداية احتلالهم للعراق فجفلت بقوة وسألت من انت ؟

. اهدئي وساخبرك في النهاية من انا وقد اعلمتك ان لي قدرة على قراءة الماضي هل تذكرين . ثم سرد لها كثير من الوقائع الصغيرة التي وقعت بينه وبينها ايام زمان ولما حضر الطعام حدثها بنفس الطريقة التي كان يحدثها بها سابقا وتصرف كأنه لازال حيا معها على مائدة طعام .

. طلب قائمة الحساب وقبل ان يدفعها طلب منها ضرورة ان تفرغ نفسها له لكي يروي لها كل ماضيها ويخبرها عن حاضرها .

. لكن من انت بالله عليك ؟

. انا المرحوم

فسقطت مغشيا عليها وقطع اجازته