23 ديسمبر، 2024 7:21 ص

المرجعية الشيعية وخيارات ما بعد السيستاني والخامنئي

المرجعية الشيعية وخيارات ما بعد السيستاني والخامنئي

القسم الأول:
الحوزة العلمية في النجف الأشرف
ونهضة ما بعد 2003

الحوزة العلمية النجفية هي المركز التاريخي للمنظومة العلمية الدينية الإجتماعية الشيعية العالمية، منذ (1000) عامٍ تقريباً؛ فقد أخذت موقعها هذا بعد العام 1038 م (448 هـ) على يد زعيم الشيعة في وقته الشيخ محمد بن الحسن الطوسي المعروف بشيخ الطائفة. وبقيت تمارس دورها العلمي والفكري والديني والتبليغي والإعلامي والأدبي والإجتماعي والسياسي دون توقف حتى اللحظة الراهنة.
وبلغ عدد منتسبي الحوزة العلمية في النجف الأشرف في العام 2020، حوالي (15) ألف طالب وأستاذ، يتوزعون على مراحل الدراسة الثلاث: المقدمات والسطوح والبحث الخارج، فضلاً عن وجود علماء ومراجع دين متفرغين للشأن العام أو البحث والتحقيق والتأليف والتبليغ. وهناك ما يقرب من ثلاثة آلاف منتسب في الحوزات العلمية في كربلاء والكاظمية ومدن عراقية أخرى. ويتواجد في النجف الأشرف حوالي (40) مجتهداً أو يرى في نفسه ملكة الإجتهاد، و يقدم (20) منهم تقريباً دروس البحث الخارج. وهناك خمسة صفوف للبحث الخارج أيضاً في كربلاء والكاظمية. أما مراجع الدين الذين لديهم رسالة عملية للتقليد فيزيدون على عشرة مراجع في النجف؛ إلّا أن العرف الحوزوي النجفي حصر المرجعيات في أربع فقط بعد العام 2003، وهم السيد علي الحسيني السيستاني (من اصول إيرانية) والسيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم (عراقي) والشيخ بشير النجفي (من أصول باكستانية) والشيخ اسحق الفياض (من أصول أفغانستانية). ويتصدرهم السيد علي السيستاني بوصفه المرجع الأعلى. وتعود جذور هذا الحصر الى عقد التسعينات من القرن الماضي، ولا سيما بعد وفاة المراجع السيد أبي القاسم الخوئي في العام 1992 والسيد عبد الأعلى السبزواري في العام 1993 والسيد محمد الصدر في العام 1999.
و لاتزال طريقة اختيار المرجع الأعلى في النجف الأشرف تقليدية ومتوارثة منذ مئات السنين، وتتمثل في الإجماع النسبي للوجوه الدينية والعلمية الأبرز في الحوزة على شخصية معينة بعد رحيل المرجع الأعلى السابق. ويسمون في العرف الحوزوي ب “أهل الخبرة”، والتي تتكون من أساتذة البحث الخارج وبعض أساتذة السطوح العالية وبعض الفاعلين (الحواشي) في مكتب (بيت) المرجع الأعلى وبيوتات مراجع الصف الأول. فيما يطلق بعض المراقبين على هذه الوجوه “جماعات الضغط”، و السبب يعود الى وجود افراد بينهم ليسوا من أهل الخبرة، بل ممن يطلق عليهم “جماعات المصالح”. ولكن يبقى دور جماعات المصالح تكميلياً وترجيحياً وليس هو الأساس والمنطلق الذي يقع على عاتق أهل الخبرة.
وتلعب مجموعة من العوامل دوراً في خلق هذا الإجماع النسبي؛ إلّا أن العامل الأبرز الذي يؤكد عليه أهل الخبرة هو عامل الأعلمية الفقهية والأصولية، إضافة الى شرط العدالة. أي اعتقاد تلك الجماعات بأن الشخصية المرشحة هو أعلم الفقهاء الشيعة الأحياء؛ بصرف النظر عن الشروط الشخصية ذات العلاقة بالكفاءة الإدارية والقيادية مثلاً، وهي الأساس في إدارة الشأن العام؛ لأنهم لا يعتبرونها محل ابتلاء في الواقع الشيعي عامة، والشيعي العراقي خاصة، ولاسيما في ظل الأنظمة السياسية العراقية القمعية السابقة التي لاتسمح للمرجع الديني بممارسة واجب التصدي للشأن العام.
و غالباً ما يكون المرجع الأعلى الجديد من مراجع الصف الأول. مثلاً في الحال الحاضر؛ فإن مراجع الصف الأول في النجف الأشرف هم ثلاثة فقط حسب ماتعارفت عليه الحوزة، وهم: السيد محمد سعيد الحكيم والشيخ بشير النجفي والشيخ اسحق الفياض. أما السيد السيستاني فهو المرجع الأعلى الذي تفوق رتبته مراجع الصف الأول، وبالتالي فإن من يخلف السيستاني يكون ـ عادة ـ من مراجع الصف الأول، أي أحد الثلاثة المذكورين.
وقد شهدت الحوزة العلمية في النجف نهضة نوعية وكمية بعد سقوط النظام البعثي في العام 2003. ولعل ما وصلت اليه منذ ذلك التاريخ وحتى الآن يعد عملاً إعجازياً. إذ استعادت النجف الأشرف جزءاً كبيراً من عافيتها، بعد حرب شاملة استمرت (35) عاماً، شنّها ضدها نظام البعث، فاعتقل وقتل وشرّد واضطهد أغلب منتسبيها. فقد كان عدد منتسبي حوزة النجف يبلغ في العام 1968حوالي (16) ألف طالب وأستاذ. وانخفض هذا العدد الى (500) فقط في العام 1991. أي أن نظام البعث قضى على أكثر من 90 بالمائة من وجود الحوزة النجفية خلال 24 سنة. و لو كانت الأمور تسير بشكل طبيعي بعد العام 1968، لارتفع عدد منتسبي الحوزة النجفية من (16) ألف الى (50) ألف منتسب في العام 2020.
وجزء من هذه النهضة الجديدة بعد العام 2003؛ إستعادة الحوزة العلمية والمرجعية العليا دورهما وثقلهما المعنويين في الشأن الإجتماعي والسياسي العام، وعودة جميع مدارس الحوزة ومؤسساتها ومكتباتها العامة الى فاعليتها، وإضافة مدارس ومؤسسات جديدة، فضلاً عن نشوء النهضة البحثية المتمثلة في المجلات العلمية ومراكز البحوث والتحقيق.
و قد كانت الحوزة العلمية ومرجعياتها، منذ عهود الإحتلال العثماني ثم الإحتلال الإنجليزي ثم النظام الملكي والجمهوري والبعثي، تعاني من الحرب الطائفية والعنصرية والعزلة والإضطهاد، تبعاً للسياسات الطائفية التي كانت تمارسها الحكومات العثمانية والعراقية ضد الإكثرية السكانية الشيعية. ثم تحولت هذه الحرب الى عملية استئصال واجتثاث منظمة في زمن النظام البعثي، فكان مراجع النجف يساقون الى المعتقلات وغرف الإعدام، أو يتعرضون الى التهجير، فضلاً عن إغلاق مدارسهم ومنعهم من التدريس وصلاة الجماعة وطباعة كتبهم. أما المراجع الذين يتحاشون أي نوع من التدخل في الشأن السياسي والشأن العام؛ فإنهم لم يسلموا من ضغوطات النظام وقمعه أيضاً؛ حتى وصل الوضع بعد إغتيال ثلاثة من مراجع النجف الكبار: الشيخ الغروي والشيخ البروجردي والسيد محمد الصدر؛ أن ينعزل المراجع في بيوتهم، ولايخرجون حتى لأداء صلاة الجماعة وإلقاء دروسهم وزيارة مرقد الإمام علي. واستمرت سياسة النظام في عزل الحوزة والمراجع حتى سقوط النظام البعثي في العام 2003.
و لكن بعد سقوط النظام البعثي الطائفي و تأسيس النظام السياسي الجديد الذي أعطى للمكون الشيعي العراقي (الأكثرية السكانية) جزءاً مهماً من حقوقه المذهبية والسياسية، وبات مشاركاً أساسياً في قيادة الدولة؛ تغيرت علاقة الحوزة العلمية والمرجعية الدينية النجفية بقضايا الشأن العام والدولة العراقية تغييراً جذرياً. فقد بدأت المرجعية العليا تمارس دورها الطبيعي في الرعاية الدينية الإجتماعية، وتشخيص المفاسد والمصالح العامة. وأخذ السيد السيستاني الذي يعتقد بولاية الفقيه الخاصة، أي عدم شمول الولاية لجانب الحكم؛ يمارس دوره الإرشادي والتوجيهي لحركة المجتمع والدولة من باب ولاية الفقيه على الأمور الحسبية. وهو الدور الشرعي الطبيعي الذي يتطلب توجيه حركة الدولة وإرشادها عندما يتطلب الأمر ذلك. وبذلك فإن الموقع الذي حظي به السيد السيستاني؛ لم يحظ به سابقاً أي مرجع في العراق، بمن فيهم الشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي، الذين كانت لهم سطوتهم العامة وحضورهم شبه الرسمي في عهد الحكم البويهي الشيعي في بغداد.
وفضلاً عن تأثيرات سقوط النظام البعثي ومشاركة الأحزاب الإسلامية الشيعية في حكم العراق؛ فإن الفضل الحسي الأهم في بقاء الحوزة النجفية ونهوضها وممارستها دورها الجديد، يعود الى أداء استثنائي لثلاث مرجعيات دينية كبيرة:
صبر السيد أبي القاسم الخوئي، حتى وفاته في العام 1992.
نهضة السيد محمد الصدر، حتى استشهاده في العام 1999.
حكمة السيد علي السيستاني، و لاسيما بعد العام 2003.