التأسيس للتمييز العنصري في الواقع الإسلامي
لم يكن الإسلام منذ أظهره الرسول محمد في الجزيرة العربية، ديناً لقوم أو جغرافيا أو لغة أو لون؛ فكل الأعراق والأقوام والألوان من منظار الإسلام؛ بشر متساوون في الإنسانية، ولا يميزهم عن بعضهم سوى مستوى التزامهم بإنسانيتهم، أمّا المسلمون منهم، عرباً وفرساً وأوزبكاً وأكراداً وأتراكاً ونوبيين وأمازيغ وهنود وأُوروبيين وروس وغيرهم؛ فهم متساوون كأسنان المشط، لا فرق بينهم إطلاقاً، إلّا بمستوى إيمانهم وتقواهم وخدمتهم للدين، وهو ما تؤكده النصوص الإسلامية بوضوح، دون الحاجة لعناء التفسير والتأويل، ولعل أوضحها: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}(1)، فالالتزام بالدين هو معيار الأفضلية حصراً، وليس العرق والقبيلة واللون، وقول الرسول: «لا فرق بين عربي وأعجمي وأبيض وأسود، إلّا بالتقوى»(2).
أمّا تحريف مسار المسلمين بعد باتجاه تفضيل قومية على أُخرى، وتحديداً تفضيل العرب على غيرهم من الأقوام؛ فهو صناعة أُموية بامتياز، وقد بدأها معاوية، حتى ظهر التمييز بين المسلمين، بين عرب وموالي، وبات الأُمويون يبثون روح الاستعلاء والاستكبار تجاه القوميات الأُخر، وانعكس ذلك على ظهور الحركات المعادية للعرب في شمال إفريقيا وبلاد فارس وغيرهما، ومنها الحركات الشعوبية. وأخذ هذا الفصل العنصري الأُموي يضعف تدريجياً، بفضل حراك أهل البيت الاجتماعي والتبليغي من جهة، وسقوط الدولة الأُموية وسيطرة العباسيين على زمام أُمور المسلمين من جهة أُخرى، إلّا أنّ العقيدة الأُموية الطائفية العنصرية، ظلت حاضرة في عقول وسلوكيات كثير من المسلمين العرب، يقابلها ردود فعل متعارضة من القوميات الأُخر، ولا سيّما الفرس.
ورغم هذه الحساسيات القومية؛ فقد ساهم كثير من الأقوام في انتشار الإسلام والتأسيس لعلومه، إلّا أنّ قومين كان لهما الدور الأهم في هذا المجال، هم العرب والفرس، وخاصة في مجال التأسيس للمذاهب الإسلامية وانتشارها. ونذكر هذه الحقائق، ليس للتنابز بالألقاب والأنساب والانتماءات العرقية أو تمييز قومية مسلمة على أُخرى. وإنما للتاريخ فقط ولرفع الشبهات عن بعض المذاهب الإسلامية في هذا المجال، وهي الشبهات التي ظلت تساهم في تعميق الخلافات النفسية والسلوكيات المتعارضة بين المسلمين، وتحديداً الشبهات التي ظلت مدرسة آل البيت تتعرض لها، ومنها شبهة فارسية التشيع، والتي بدأ الخصوم المتأخرون ترديدها، بعد النجاحات الكبيرة التي حققها الشيعة خلال العصر الصفوي في إيران والعراق والشام والخليج والقوقاز وشبه القارة الهندية، وهي نجاحات تاريخية غير مسبوقة، جعلت الدعاية العثمانية والعربية الطائفية تبحث عن كل السبل لضرب هذه النجاحات، وهي لم تكن تستهدف الفرس في هذه الدعاية، وإنما تستهدف الشيعة؛ فلو كان من حقق هذه النجاحات فرساً سنة، لوقف جميع سنة العالم خلف الفرس، كما سبق أن اتبعوهم حين أسسوا أغلب المدارس الحديثية والفقهية السنية.
ولا تشكل إسهامات الإيرانيين في المجال العلمي الديني، لمصلحة هذا المذهب وتلك المدرسة، أيّ انتقاص من المذاهب السنية أو الشيعية، ولا يشكل مثلبة أو عيباً؛ فليس المعيار هو في من ينتج العلم والفكر والقواعد، عربياً كان أو فارسياً أو هندياً أو بربرياً أو تركياً أو كرديا، وإنما المعيار هو تطابق المنتج العلمي الديني مع الثوابت الإسلامية، أي القرآن الكريم ثم الصحيح من السنة.
ولكن كحقيقة تاريخية؛ ينبغي القول بأن أغلب المذاهب السنية الفقهية والحديثية، تدين للفرس والأعاجم في تأسيسها وانتشارها، وهم الذي كانوا يشكلون أغلب محدثي التسنن ورواته وفقهائه ومفسريه ومتكلميه. على العكس من التشيع، الذي هو مدرسة حجازية عراقية من الناحية الجغرافية، وحاضنته عربية، وأئمته عرب من الناحية القومية. وقد كان أغلب العرب في المغرب العربي ومصر وبلاد الشام والعراق من الشيعة، خلال القرنين الرابع والخامس الهجريين، حتى قام السلاجقة الزنكيين والكرد الأيوبيين والبربر الصنهاجيين، بإسقاط الدول الشيعية العربية الواحدة تلو الأخرى، وذبح الشيعة العرب وتدمير حواضرهم، وفرض التسنن على من تبقى منهم بقوة السلاح؛ فقد كان سلاطين الدول الشيعية الحمدانية والإدريسية والفاطمية، والذين حكموا العالم الإسلامي كله(3)، من ذرية رسول الله أو من العرب الأقحاح، وكان أغلب شعوب هذه البلدان هم من الشيعة العرب. وكان صلاح الدين الأيوبي، الكردي الإيراني، المتعرّق، أكثر شخصية في التاريخ نجحت في فرض التسنن على العرب الشيعة بالقوة. في حين كان السيد إسماعيل الصفوي الموسوي، المتأرين، ذا الأصل العربي العلوي، هو من يقف وراء تشيّع ما بقي من الفرس.
اتهام المسلمين الفرس بالمجوسية وبالكيد بالإسلام
يتميز الفرس بدور تاريخي خاص في حركة ظهور المذاهب في الإسلام وانتشارها، ولا يمكن للأبحاث العلمية المختصة بتاريخ المذاهب أن ترقى لمستوى أهدافها بمعزل عن دراسة هذا الدور بموضوعية؛ لأنّ عمق دور الفرس وسعة مساحته يشمل جميع المذاهب، بشكل أو بآخر، سواء الفرق والمذاهب السنية أو الفرق والمذاهب الشيعية. ولكن، ما يعنينا هنا انقلاب الصورة تجاه هذا الدور بمجرد تحول إيران رسمياً إلى دولة شيعية خلال العصر الصفوي.
فبعد تشيع من تبقى من شعوب بلاد فارس على يد الدولة البويهية ثم الدولة الصفوية، وتحول بلاد فارس رسمياً إلى دولة شيعية، وتأجج نار الصراع الطائفي ـ السياسي بين الدولة السلجوقية والدولة البويهية ثم بين الدولة العثمانية والدولة الصفوية؛ فإنّ المنظومة الطائفية المخاصمة للمذهب الشيعي؛ أخذت تغير من لهجتها تجاه الفرس ودورهم العلمي، وأعادت إلى الأذهان دعاية العقيدة الأُموية الطائفية العنصرية ضد غير العرب وغير السنة، ولا سيّما الفرس الشيعة، وأخذت تربط دور الفرس في التاريخ الإسلامي بظهور المذهب الشيعي وانتشاره(4)، في إطار الحالة الطائفية المتعصبة، فالاتهام بالفارسية يُقصد منه هنا الإساءة باللمز والتشويه، وما يترتب عليه من محاولات الطعن بالشعوبية، والبحث عن جذور غير إسلامية وغير عربية لهذا المذهب أو ذاك.
وتبنى بعض المستشرقين الأُوروبيين هذه الرؤية، ثم المؤرخين المسلمين السنة الذين تأثروا بهم، ومن أبرزهم، المستشرق “دوزي”، الذي رأى أنّ الفرس وجدوا انسجاماً بين إدانتهم بالملكية الوراثية والإمامة الوراثية، في حين يرى “فلهوزن” أنّ الشيعة نبعت من اليهودية أكثر من الفارسية(5).
أمّا “كارل بروكلمان” فيقول: بأنّ حزب علي (الشيعة) أصبح فيما بعد ملتقى جميع النزعات المناوئة للعرب(6)، ويعني ذلك أنّ التشيع كان مرادفاً للشعوبية. ومن المؤرخين المعاصرين الذين ذهبوا إلى هذا الرأي، أحمد أمين في كتابه «فجر الإسلام»، والشيخ محمد أبو زهرة في كتاب «تاريخ المذاهب الإسلامية»، إذ يقول أحمد أمين: «نظرة الشيعة في علي وأبنائه هي نظرة آبائهم الأولين من الملوك الساسانيين»(7)، وهو مضمون رأي “دوزي” نفسه، فيما يقول الشيخ أبو زهرة: «في الحق إنا نعتقد أنّ الشيعة قد تأثروا بالأفكار الفارسية حول الملك ووراثته… وإن الشيعة الأولين كانوا من أهل فارس»(8).
وبالتالي؛ فإنّ التأكيد على سلبية دور الفرس جاء متأخراً، وتحديداً مع تصاعد الدعاية العثمانية ضد الدولة الصفوية والشيعة، ثم انتقال الدعاية العثمانية إلى ولاياتها العربية، وصولاً إلى تقريرها رسمياً في كتابات المؤرخين والباحثين العرب المعاصرين، بينما لم يجرِ الحديث عن مجوسية الفرس وكيدهم بالإسلام قبل ذلك، حتى أصبح هذا الحديث، أحد أبرز حراب الماكنة الدعائية للتكفيريين الجدد ضد الفرس الشيعة، ليس لأنّهم فرساً، بل لأنّهم شيعة.
ورغم أنّ هذه الماكنة الدعائية؛ لا تصرح بفارسية ومجوسية المذاهب الإسلامية السنية، لكنها حين تقرن الفرس بصفة المجوس والكيد بالإسلام في تنظيراتها وكتاباتها وإعلامها؛ فإنّها توحي تلقائياً بأنّ أهل السنة هم أتباع المجوس، وأنّ المذاهب السنية التي تتبع أئمة وفقهاء ومحدثين ومفسرين من الفرس؛ باتت فاقدةً لشرعية التمذهب؛ لأنّ الفرس إذا ظلوا على مجوسيتهم بعد الفتح الإسلامي لبلاد فارس، وعلى كيدهم بالإسلام؛ فهذا يعني أنّهم أسسوا مذاهب أهل السنة وكتبوا أحاديثهم وفسروا لهم القرآن الكريم وكتبوا تاريخهم وقننوا لهم النحو والصرف وفقه اللغة العربية، من منطلق الكيد بالإسلام، وهي دعوى لا تصح عقلاً ولا شرعاً.
وغير خاف على أحد أنّ السلفية التكفيرية هي الفرقة الأكثر تكريساً لقواعد التمييز العرقي والقومي، وتفضيل العرب على غيرهم من المسلمين، ووصف كل من يدعو للتساوي بين المسلمين بأنّه شعوبي ومعادٍ للعرب، وهي نزعة جاهلية أعرابية أسسها الأُمويون، وأورثوها للمدرسة السلفية التكفيرية، ثم تلقفها منهم بعض العرب الشوفينيين؛ ليمعنوا تكريس فلسفة الكراهية للشعوب المسلمة، ولا سيّما للفرس؛ ولكن ليس على أساس ديني؛ بل على أساس عنصري. وبذلك مثّل السلفيون التكفيريون(9) الجناح اليميني الثيوقراطي من الآيديولوجيا الأُموية الجديدة، فيما مثلت العقيدة الشوفينية لبعض العرب(10) الجناح اليساري العلماني للآيديولوجيا الأُموية؛ على اعتبار أنّ جوهر الحكم الأُموي كان علمانياً ببرقع ثيوقراطي.
ولا شك أنّ هدف المنظومة الطائفية العنصرية في وصف المسلمين الفرس بالمجوسية بالأساس، هو مدرسة أهل البيت وليس المذاهب السنية؛ لأنّ مشكلتها ليست مع الفرس، بل مع الشيعة، حين تصف التشيع بأنّه فارسي، وبالتالي فهو دين مجوسي، ولكن؛ حين تفشل هذه الدعاية في إثبات حقيقة فارسية التشيع بالأدلة العقيدية والفقهية والرجالية والتاريخية؛ فإنّها سترتد على المذاهب الإسلامية السنية، بقصد أو بدونه، إلّا إذا أخذنا بالتفسيرات الطائفية الانتقائية التي تخلو من أي منطق ومنهج علمي، والتي ترى بأنّ الفارسي يكون مجوسياً حين يكون شيعياً، أمّا الفارسي السني فهو ليس مجوسياً، بل مسلم ينطبق عليه حديث «لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي؛ إلّا بالتقوى»(11)، وإن كان هذا الفارسي السني شعوبياً وعدواً للعرب، في حين لو كان الفارسي شيعياً وعادلاً وتقياً، بل من أصل عربي وسيد شريف من سلالة رسول الله، ولكن بما أنّه شيعي؛ فلا بدّ أن يكون مجوسياً وعدواً للعرب!
الفرس وتأسيس المذاهب السنية
نقصد بالفرس هنا، عموم شعوب بلاد فارس، بمن فيهم شعوب خراسان الكبرى، أو الإيرانيون بمعنى آخر؛ لأنّ هذا الإطلاق هو المعيار الذي اعتمده المؤرخون العرب والمسلمون، منذ حركة الفتوحات الإسلامية باتجاه شرق العراق، ما يعني أنّ الإمام أحمد بن حنبل هو العربي الوحيد بين أئمة المذاهب الأربعة، أمّا أبو حنيفة فهو من بلاد فارس، ومالك والشافعي مستعربان من بلاد فارس، كما أنّ أصحاب الصحاح الستة ليس فيهم عربي سوى واحد فقط أيضاً، هو مسلم القشيري النيسابوري، والباقون: البخاري والترمذي والنسائي وأبو داود السجستاني وابن ماجه، جميعاً من بلاد فارس، وهكذا أغلب الفقهاء والرواة والمفسرين السنة هم من بلاد فارس، كمجاهد وعطاء بن أبي رباح وعكرمة والليث الأصفهاني وربيعة الرأي والبيهقي والطبري، وعشرات آخرون، ونذكر هنا أهم الشخصيات التأسيسية منهم:
مجاهد بن جبر (ت 104 هـ)؛ من كبار المحدثين.
عطاء بن أبي رباح (ت 114 هـ)؛ من كبار المحدثين والفقهاء.
كيسان (أيوب بن أبي تميمة) السختياني (ت 131 هـ)؛ تابعي، من مؤسسي العقيدة السلفية، كانوا يسمونه سيد فقهاء السنة، من سختيان في بلاد فارس.
ربيعة الرأي بن فروخ (ت 136 هـ)؛ أُستاذ الإمام مالك وكبير محدثي أهل السنة، فارسي من الري وسط بلاد فارس.
أبو حنيفة النعمان بن زوطي بن ماه (ت 150 هـ)؛ إمام المذهب الحنفي، تاجيكي فارسي من إقليم خراسان في بلاد فارس.
الليث بن سعد الإصفهاني (ت 175 هـ)؛ مؤسس المدرسة الفقهية السنية في مصر؛ فارسي من إصفهان في وسط بلاد فارس.
مالك بن أنس (ت 179 هـ)؛ إمام المذهب المالكي، مستعرب، قدم والده من بلاد فارس إلى المدينة.
محمد بن إدريس الشافعي (ت 198 هـ)؛ إمام المذهب الشافعي، مستعرب، قدم والده من بلاد فارس إلى المدينة.
محمد بن نصر المَرْوَزِي (ت 202 هـ)؛ إمام الشافعية في زمانه، أُوزبكي من مرو في إقليم خراسان.
إسحاق بن راهويه (ت 238 هـ)؛ كبير المحدثين والفقهاء السنة في إيران، وكان يسمى سيد المشرق، تركماني من خراسان.
محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256 هـ)؛ أهم أئمة الحديث عند السنة، وأبرز أصحاب الصحاح الستة، أُوزبكي من إقليم خراسان في بلاد فارس.
مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (ت 261 هـ)؛ أحد أصحاب الصحاح الستة، إيراني بالولادة، من نيسابور في شمال بلاد فارس.
محمد بن ماجه القزويني (ت 273 هـ)؛ أحد أصحاب الصحاح الستة، فارسي من قزوين في وسط بلاد فارس.
سليمان بن الأشعث السجستاني (ت 275 هـ)؛ أحد أصحاب الصحاح الستة، تاجيكي من إقليم خراسان في بلاد فارس.
محمد بن إدريس الرازي (ت 277 هـ)؛ من أهم المفسرين والمحدثين عند السنة، فارسي من الري في وسط بلاد فارس.
محمد بن عيسى الترمذي (ت 279 هـ)؛ تلميذ البخاري وأحد أصحاب الصحاح الستة؛ أُوزبكي من إقليم خراسان في بلاد فارس.
أحمد بن شعيب النسائي (ت 303 هـ)؛ أحد أصحاب الصحاح الستة، تركماني من إقليم خراسان في بلاد فارس.
محمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ)؛ من أهم الفقهاء والمفسرين والمؤرخين السنة، فارسي من طبرستان (مازندران) في شمال بلاد فارس.
محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري (ت 405 هـ)؛ فارسي من نيسابور في شمال شرق بلاد فارس.
أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458 هـ)؛ صاحب السنن الكبرى، فارسي من بيهق في شرق بلاد فارس.
محمد بن عمر الزمخشري (ت 538 هـ)؛ أمام المفسرين عند السنة، تركماني من إقليم خراسان في بلاد فارس.
محمد الغزالي الطوسي النيسابوري (ت 450 هـ)؛ فارسي من نيسابور في شمال شرق بلاد فارس.
عبد الملك بن محمد الثعالبي النيسابوري (ت 429 هـ)؛ أحد أهم المفسرين لدى السنة، فارسي من نيسابور في شمال شرق بلاد فارس.
أبو إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي (ت 476 هـ)؛ إمام الشافعية في وقته، فارسي من شيراز في وسط بلاد فارس.
عبد القادر الگيلاني (ت 561 هـ)؛ كبير فقهاء الحنابلة وإمام الفرق الصوفية؛ فارسي من گيلان في شمال بلاد فارس.
ومن هنا؛ فإنّ المذاهب الأربعة مدينة لعلماء بلاد فارس، لما قاموا به من دور أساسي في نشوئها وانتشارها.
وهذا يعني أنّ أغلب أئمة الفقه والحديث والتفسير واللغة العربية ومشايخ الطرق الصوفية عند أهل السنة هم من بلاد فارس، وبكلمة أُخرى؛ فإنّ أهل السنة أخذوا دينهم وشريعتهم وفقههم وحديثهم وتفسيرهم وتاريخهم ولغتهم العربية من الأعاجم الفرس والأوزبك والتركمان. وهذه الحقيقة ـ كما أسلفنا ـ لا تشكل أيّ انتقاص من المذاهب السنية ولا يحط من قيمتها الدينية إطلاقاً؛ لأنّ الفرس كغيرهم من الشعوب المسلمة، دخلوا الإسلام، وانصهروا في عقيدته، وباتوا جزءاً من مجتمعاته، ولا يعيب على أية فرقة عقيدية مسلمة ولا مذهب ولا موسوعة حديثية ولا مدونة لغوية، أن يكون الفرس أو أية قومية غير عربية، قد أسسوها أو ساهموا في تأسيسها وبلورتها ونشرها، وإنّ من جلب نعرة العرب والعجم والموالي والفرس والشعوبيين هذه؛ هم بنو أُميّة، ومن تبعهم حتى اليوم.
الفرس وانتشار المذاهب الشيعية
من خلال دراسة المدونات الحديثية والعقيدية والفقهية الشيعية الرئيسة، وأعلام الشيعة في مرحلتي الظهور والانتشار الأول، سنتوصل إلى ما يلي:
1ـ إنّ الأحاديث والروايات والمعتقدات الشيعية المثبتة في أمهات كتبهم؛ ترجع أُصولها إلى أئمتهم الاثني عشر، وهم سادة العرب، بدءاً بعلي بن أبي طالب، وانتهاء بمحمد بن الحسن المهدي المنتظر، فيما ترجع تفريعاتها وتفسيراتها إلى كبار متكلمي الشيعة ومحدثيهم وفقهائهم من تلامذة الأئمة، منذ القرن الأول الهجري، وليس بينهم فارسي واحد.
2ـ إن التشيع نشأ وانتشر في الجزيرة العربية، ثم دخل بلاد فارس عبر الفتوحات الإسلامية التي انطلقت من العراق. أمّا الاجتماع الديني الشيعي ونظامه فقد تأسس في المدينة المنورة على يد الإمام علي، بينما تأسس هذا النظام بعد غيبة الإمام المهدي، في بغداد بالعراق.
3ـ إنّ الطبقات الأُولى والثانية والثالثة من الشيعة كانوا عرباً في الأعم الأغلب، ولم يكن بين الطبقة الأُولى فارسي سوى واحد هو سلمان الفارسي، وكان ولاؤه لرسول الله، وفيه قال: «سلمان منا أهل البيت»(12).
4ـ حين انتشر التشيع في إيران، وأصبح المذهب الأول في البلاد، فإنّ الفرس لم يكونوا يوماً كل الشيعة، بل هم جزء يشكّل أقل من ربع الشيعة.
وكباقي الفرق والمذاهب الإسلامية؛ فقد ساهم العلماء الشيعة من الفرس، وتحديداً خلال القرن الرابع الهجري وبعده، أي بعد تأسيس الفرس للمذاهب السنية بأكثر من قرن، في تدوين كتب الحديث والعقيدة والفقه، ومنهم المحدثين الثلاثة الذين ألفوا الكتب الحديثية الأربعة عند الشيعة، والتي تعادل الصحاح الستة عن أهل السنة(13)، وهم: الشيخ الكليني، والشيخ الصدوق، والشيخ أبو جعفر الطوسي، وكذا غيرهم، ونذكر هنا أهم الشخصيات منهم:
أبو محمد الحسن بن موسى النوبختي (ت 310 هـ)، مؤرخ وعالم كلام وفلكي وعارف، من قم في وسط إيران.
الحسين بن روح النوبختي (ت 326 هـ)، محدّث وفقيه، السفير الثالث للإمام المهدي في مرحلة الغيبة الصغرى، من قم.
علي بن إبراهيم القمي (ت 329 هـ)، مفسر، من قم.
محمد بن يعقوب الكليني الرازي (ت 329 هـ)، أحد كبار المحدّثين ومؤلف أحد كتب الحديث الشيعية الأربعة، من الري في وسط إيران.
علي بن الحسين ابن بابويه القمي (ت 329 هـ)، عالم كلام ومحدّث وفقيه، من قم.
محمد بن علي الصدوق (ت 381 هـ)، زعيم الشيعة في وقته، مؤلف أحد كتب الحديث الشيعية الأربعة، من قم.
محمد بن أحمد ابن شاذان القمي (حي 412 وقيل: ت 420 هـ)، محدّث ورجالي، من قم.
أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ت 460 هـ)، زعيم الشيعة في وقته، مؤسس الحوزة العلمية في النجف الأشرف، مؤلف اثنين من كتب الحديث الشيعية الأربعة، من طوس في خراسان.
حمزة بن عبد العزيز أبو يعلى الديلمي المشتهر بلقبه سالار (ت 463 هـ)، محدّث وفقيه، من الديلم في غرب إيران.
الحسن بن محمد الطوسي (ت 515 هـ)، زعيم الشيعة في وقته، من طوس في خراسان.
الفضل بن الحسن الطبرسي (ت 548 هـ)، مفسر ومحدّث، من طبرستان في شمال إيران.
الحسن بن الفضل الطبرسي (ت 560 هـ)، محدّث وفقيه، من طبرستان.
قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي (ت 573 هـ)، متكلم وفيلسوف وفقيه، من راوند في وسط إيران.
محمد بن علي بن شهر آشوب المازندراني (ت 588 هـ)، محدّث ورجالي، من مازندران في شمال إيران.
ويلاحظ هنا أنّ العلماء الشيعة الفرس بات لهم دور علمي في وقت متأخر، أي خلال القرن الرابع الهجري، وليس في عصر التأسيس الذي شهد ظهور الفرق والمذاهب، وتحديداً القرون الأول إلى الثالث؛ لأنّ هذا العصر كان عصر الأئمة الاثني عشر المؤسسين، ولم يكن للعلماء الشيعة، عرباً وفرساً، دور تأسيسيّ، وبعد الغيبة الكبرى، أي بعد العام (326 هـ)، بدأ دور المحدّثين والفقهاء والمفسرين وعلماء الكلام الشيعة بالظهور، وهو دور التفريع والتفسير، وليس التأسيس للمذهب الشيعي، على العكس من الفرق والمذاهب السنية، التي تأسست في وقت مبكر على يد العلماء العرب والفرس. ولذلك؛ يمكن القول إنّ علماء الفرس هم الذين سنّنوا أغلب العرب، وأنّ علماء العرب هم الذين شيّعوا أغلب الفرس.
أمّا تشيّع شعوب بلاد فارس، كالفرس واللّر والآذريين والكرد والتركمان والأُوزبك والتاجيك والبلوش والبشتون؛ فإنّه جرى على مراحل طويلة، استمرت ما يقرب ألف سنة، وعلى النحو التالي:
1- القسم الأول تشيّع خلال القرن الأول الهجري عن طريق الصحابة والتابعين الشيعة الذين رافقوا عمليات الفتح أيام الخلفاء الراشدين، كسلمان الفارسي، وهم الشيعة الأوائل الذين تركزوا في شرق العراق، وأغلبهم من اللّر والفرس.
2- المتشيّعون خلال القرون الأول إلى الثالث الهجرية، نتيجة معايشتهم العلويين والشيعة المهجرين والمهاجرين إلى بلاد فارس، من الذين نالهم الاضطهاد على يد الدولتين الأُموية والعباسية، ومنهم خمسون ألف علوي وشيعي، هجّرهم زياد بن أبيه من الكوفة إلى طوس وسبزوار (خراسان) والري (جنوب طهران) وطبرستان (مازندران)، فكان لهؤلاء أكبر الأثر في نشر التشيّع وفكره في البلاد.
3- الذين تشيّعوا خلال القرنين الأول والثاني عن طريق عملية التبليغ المستدام التي قام بها أهل الكوفة الأشعريين الذي هاجروا إلى إيران وأسسوا مدينة قم، فكانت قم وأغلب المناطق المحيطة بها هم من الشيعة.
4- من تشيّع على يد العرب المهاجرين إلى منطقة خوزستان الإيرانية، وخاصة مدينة الأهواز، وهي منطقة يسكنها اللّر(14) غالباً، وذلك خلال القرون الأول إلى الثالث الهجرية، ولذلك؛ كانت أغلب مناطق غرب إيران، بقومياتها العربية واللّرية والفارسية هم من الشيعة.
5- الذين تشيّعوا خلال القرن الثالث الهجري، نتيجة قيام العلويين الحسنيين (ذرية الإمام الحسن بن علي) المهاجرين والمهجرين بتأسيس دول إسلامية شيعية في طبرستان (شمال إيران) في العام 250 هـ، وهي أول دولة إسلامية شيعية في التاريخ(15).
6- تشيّع خلال عصر الدولة البويهية الشيعية في القرنين الرابع والخامس، حيث تطور الواقع الشيعي في إيران حينها تطوراً نوعياً، عبر تعاون الحكام البويهيين مع علماء الشيعة في نشر التشيّع في مناطق وسط وغرب إيران، حتى بات أكثر من نصف سكان بلاد فارس من الشيعة حتى القرن التاسع الهجري (القرن الرابع عشر الميلادي).
وقد كانت أغلب الكتل البشرية العربية التي هاجرت أو هُجّرت قسراً إلى إيران، وخاصة إلى الأهواز والري وطبرستان وسبزوار وخراسان، كانت شيعية، وقد ذابت هذه الكتل، لغوياً وقومياً، في القوميات الإيرانية التي كانت في تلك المناطق، باستثناء خوزستان التي بقي أغلب مهاجروها العرب الشيعة، عرباً، نتيجة محاذاة هذه المنطقة إلى العراق، واستحال العرب المهاجرون إلى بلاد فارس، فرساً أو كرداً أو لُرّاً أو آذريين، لكنّ بعضهم ظل يحمل الألقاب والأنساب العربية، وخاصة العلويين السادة المنتشرون في كل منطقة من مناطق إيران.
واستقر توزيع أتباع المذاهب الإسلامية على خارطة بلاد فارس خلال القرن التاسع الهجري (القرن الرابع عشر الميلادي)، أي قبل تأسيس الدول الصفوية، يميل بوضوح لمصلحة الشيعة، فقد كانوا الأكثرية في أقاليم خراسان وطبرستان ولرستان وخوزستان وشيراز وقم والري والديلم، في حين كان أتباع المذهب الحنفي يتركزون في أردبيل، ويتواجدون في خراسان والري، والشافعية يتركزون في كرمان ويتواجدون في خراسان، كما يتواجد الشافعية في خراسان والأهواز، والحنابلة في رامهرمز والري، والمالكية في الأهواز(16).
7- القسم الأخير من شعوب بلاد فارس؛ فقد تشيع خلال حكم الدولة الصفوية، خلال القرون العاشر إلى الثاني عشر الهجري (الخامس عشر إلى السابع عشر الميلادي)، وعلى يد الدعاة الشيعة العرب(17)، إذ استعانت الأُسرة الصفوية بفقهاء ومبلغين عرب قدموا من العراق ولبنان والبحرين، وأعلنت المذهب الشيعي مذهباً رسمياً للدولة. والأُسرة الصفوية هي أُسرة عراقية عربية الأصل علوية تعود بنسبها إلى الإمام موسى الكاظم، وكان أجدادها يقيمون في شمال شرق العراق، ثم هاجر بعضهم إلى إقليم أردبيل في إيران، وأصبحوا يتحدثون اللغة الآذرية التركية، كغيرهم من المهاجرين العرب الذين ذابوا لغوياً في القوميات الإيرانية.
ونعيد القول؛ بأنّ ذكر هذه الحقائق بلغة البحث التاريخي العلمي، وبعيداً عن تسييس الموضوع والحرب الدعائية ولغة المهاترات والجدل الساذج الذي تصرّ عليه ماكنة التشويه الطائفية الشوفينية، لا يعني بأي شكل من الأشكال ترجيح قومية مسلمة على أُخرى إطلاقاً؛ لأنّ الانتساب للعرب أو إلى أية قومية أُخرى ليس ميزةً في معيار الإسلام، ولا مدعاة للفخر أو التمييز العرقي أو علو الشأن والقيمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإحالات
سورة الحجرات، الآية: 13.
أحمد بن حنبل، «المسند»، ج 5 ص 411.
خارطة دول المسلمين في أغلب الولايات، خلال القرون الرابع والخامس والسادس والسابع الهجرية هي دول شيعية، وهي: البويهية، الحمدانية، الفاطمية، الإدريسية.
أحمد أمين، «فجر الإسلام»، ص 277.
المصدر السابق نفسه.
“كارل بروكلمان”، «تاريخ الشعوب الإسلامية»، ص 128.
أحمد أمين «فجر الإسلام»، ص 112.
أحمد الوائلي، «هوية التشيع»، ص 70، نقلاً عن محمد أبو زهرة، «تاريخ المذاهب الإسلامية»، ج 1 ص 41.
تمثلها اليوم العقيدة الوهابية السعودية، ولعلها تهدف من وراء ذلك حصر شرعية التمذهب بمدرستهم (السلفية التكفيرية)، وهي فرقة تكفيرية قتالية لها خصائصها العقيدية والمذهبية المتمايزة عن باقي المذاهب السنية والشيعية.
وتمثلها آيديولوجيا حزب البعث العراقي.
أحمد بن حنبل «المسند»، ج 5 ص 411.
الحاكم النيسابوري، «المستدرك على الصحيحين»، ج 3 ص 598.
إلّا أنّ الشيعة لا يعدون كتبهم الأربعة ولا أي من كتبهم الأُخر صحاحاً، ولا يستسهلون الأخذ بأحاديثها إلّا بعد عمليات مشددة من الجرح والتعديل والدراية.
وهم الذين يطلق على بعض شرائحهم الكرد الفيليين، وهم لُر في أُصولهم، ولعل اللُّر هم إحدى القوميات الثلاث الشيعية الأُولى، أي العرب واللّر والفرس، قبل القوميات الأُخر.
وكانت على المذهب الشيعي الزيدي. أُنظر: الفصل الرابع من هذا الكتاب.
هذه الرؤية تقريبية، وتم فيها الاستفادة من مصادر تاريخية وجغرافية سكانية كثيرة. وكان بعض الجغرافيين والمؤرخين قد اهتموا بموضوع توزيع أتباع المذاهب في البلدان الإسلامية، ومنهم الرحالة الفلسطيني شمس الدين المقدسي في كتاب «أحسن التقاسيم»، خلال القرن الرابع الهجري، لكن أغلب هذه الكتب لم تخل من الانحياز المذهبي، فالمقدسي كان حنفياً، ولذلك؛ ركز على تغليب الحنفية في كل البلدان التي زارها.
أحمد الوائلي، هوية التشيع، ص 113 ـ 115.