17 نوفمبر، 2024 9:43 م
Search
Close this search box.

“المدينةُ المفتوحة”: أجمل روايات هذا العام !

“المدينةُ المفتوحة”: أجمل روايات هذا العام !

تنشأ الكتابة من وازع داخلي غريب، وتتحرك قدماً بقوة الكلمات التي تبحث مسرعةً كالحيامن عن بويضات تلتقيها في طريقها بالصدفة. ولا شيء يحرك الكتابة غير الكتابة نفسها، الرغبة فيها، ومحاربة العزلة البشرية بها. تبدأ هذه الرواية، وتمضي وسط مجموعة من المهمشين السائرين في عالم نيويورك الصاخب، أولئك الذين جاءوا من أصقاع العالم المختلفة بحثاً عن شيء أرادوه، قد لا يعرفونه. هناك السجين الليبيري، وصبّاغ الأحذية الهاييتي، والمغربي، صاحب مقهى الإنترنت. يطير الراوي فوق الرؤوس بخوف، ومتى ما ينهض أحدهم، يحط ليجلس في مكانه ليستمع ويسجل. وفي الليل تقوده قدماه إلى مناحٍ مجهولة لم يرها من قبل، وكل ليلة تطول الجولات، ويعود منهكاً ليسجل في الصباح ما رآه في هذه المدينة المطعونة التي لا تنام، والتي لا تستحي من عارها الأبدي. تمضي الأيام ثقيلة، وكل يوم تزداد الوحدة، لكن يخامرنا شعور غريب بأن الرواية بدأت فينا قبل أن نقرأها، فشبح عيدي أمين ماثل في كل فصل حتى من دون أن يرد له ذكر، يريد أن يقول إنني كلما فكرت بنفسي، تراودني رغبة أكيدة بالبصاق على أفريقيا كلها، ماضيها وحاضرها، إن كان لها من حاضر. هنا نعرف أن الراوي نيجيري، ساقه جحيم بلده إلى الخارج. تفرق النيجيريون كما تفرق العراقيون، وكأنهم كانوا على موعدٍ أكيد في العام 1992. لكن الأيام تدور، فيخرج لنا العراقيون شيئاً جديداً، ويخرج لنا الكاتب النيجيري المهاجر تيجو كول أحسن روايات هذا العام. يريد الكاتب أن يعين مكانه الحالي فلا يستطيع. كانت القوة الطاردة أكبر من كل ثقافةٍ، وعرقٍ، أو دين. تتجمع الصفحات، وحينما نصل إلى الصفحة الأخيرة نعرف أن أفريقيا بلد ذو تاريخ، صنعه النيجيريون أنفسهم. لدينا هنا أفريقيا الطفولة، وأمريكا الشباب، وأوربا الخائفة من روح الشباب. والغائب فيها هو التسامح، وأخوة البشر. يعرف الراوي سيبولد في أمريكا لأول مرة معنى البياض، أن تكون أبيضاً، بياض الثلج. لكن هل رأى الأمريكي يوماً أبنوساً أبيض؟ وما الثلج أمام الأبنوس، وتلك هي الزيارة إلى متحف الفن الحديث في نيويورك، بحثاً عن رائحة العرِق، بحثاً عن عَرَق الأجساد أيضا، وهو غير موجود في محلات مزيلات الرائحة العملاقة. يطير العصفور، ويحط، حتى يحترق الجناحان، وينكسر المنقار. نيويورك، العارية، التي لا تنام، ولا تستحي. يدخل سيبولد إلى حيث توجد قراءة شعرية في الشارع 92. نيويورك الرقمية، الحياة والموت فيها ديجيتال. أعداد الإنتحارات اليومية، بلد الحرائق، يوماً بيوم. يتماسك الراوي في شوارع نيويورك، بينما ينكسر في وحدته. إذاً، ما فائدة الأشعار؟ ينتظر تمثال المهاجر الصيني في المدينة زخات المطر التي تزيل عن هامته الذروق. ضابط الشرطة القتيل، ممداً في الشارع، أسطورة نيويورك الباقية.
تتطاحن اللغة عند كول باحثة عن معنى وتفسير للعالم الخاوي حولنا. ينظر إلى رقعة الشطرنج، فتبدو له المربعات كالواحات في الصحراء، توأم من العزلة. يحوم الموت حولنا ببدلته الرخيصة، مخلوقٌ عديم الأخلاق والذوق. تكمن أهمية هذه الرواية في الإخلاص، فمن الصعب العيش في بلد يمحو ماضيك كله. لا أكبر من الحلم الأمريكي، لكنه لا يكفي لغير القلة من الناس، أما الباقون فليس لهم غير أن يستبدلوا أحلامهم باليأس. يقول مغربي في الرواية إن دعوى إسرائيل الحاضرة كدعوانا لو احتللنا إسبانيا اليوم بدعوى أن أجدادنا احتلوها قبل قرون.. هذا باطل، أليس كذلك؟  الرواية تحكي… شخوص مغلقة على ماضيها تتكلم وسط مدينة مفتوحة على البؤس. وهذا ما يفعله الأدب الصحيح. يبني الأفكار والمعتقدات، ويزيل الأوهام.
Teju  Cole, Open City .New York: Random House.

أحدث المقالات