23 ديسمبر، 2024 10:53 ص

المدن المقدسة لدى المسلمين الشيعة في العراق

المدن المقدسة لدى المسلمين الشيعة في العراق

ترجمة : وليد خالد احمد

                            كتابة : ثوماس لايل

المؤلف جاء مع الحملة البريطانية من الهند وشغل وظيفة معاون حاكم سياسي ثم اشتغل معاونا لمدير الطابو في بغداد وحاكما في محاكمها المدنية وقد كتب كتابه هذا الذي ننشر الفصل الاول منه باسم ( دواخل العراق ) .

المقدمة :

كُتبت الصفحات الآتية لتوضح للقارئ الإنكليزي الشخصية الحقيقية لشعب مابين النهرين، أو العراق ومعتقداتهم وما يفضلونه. وتشتمل هذه الصفحات على تحليل دقيق لتعليمات النبي في القرآن، لاسيّما ما يخص الاعراف الإجتماعية والتنظيم السياسي، إلى جانب تفسير للإضافات والإنحرافات عن السنة القويمة – او التقاليد- التي جاء بها الشيعة الإمامية الذين يتقبلهم مابين النهرين.

    وحيث ان القارئ الإنكليزي، مقتنع قناعة راسخة، مثل قناعتي، من معارفه المقرّبين بأن عقيدة الإسلام عقيدة غير تقدميّة، وواهنة بذاتها، ومدمّرة لأي غريزة للمواطنة والتكامل الإجتماعي والطموحات الوطنية، فقد بذلت قصارى جهدي لتبيان ان المسلم، ولا سيّما الشيعي – سيظل لسنوات طوال- غير مؤهل لحكم نفسه بنفسه، وهو امر “يرغب به” لا اكثر بصفته فرصة للتملّص من كل قانون ونظام.

    ولتوضيح هذه الفكرة واقامتها على اسس، فقد وصفت بالتفصيل كبريات “المدن المقدّسة” في مابين النهرين – وهي مدن قلّما يعرفها القارئ الإنكليزي- وشعائر الناس الدينية وقوانينهم وعاداتهم وسماتهم مع العديد من النوادر من خبرتي في المحاكم.

    في الفصل الثاني سعيت إلى تلخيص المسار الكلي للأحداث في مابين النهرين منذ الحرب العالمية اولى، لأتغلغل في الموضوعات الأكثر تعقيداً (التي يعتمد عليها مصير امبراطوريتنا) والتي أدّت إلى سياستنا الحاضرة، ولبيان كيفية ان تآمر المسلمين، بعد العرض النفسي في الفصول القادمة ، كان يعمل لنسف مكانتنا الإجتماعية التي كانت تتضائل اصلاً في المسائل الهندية.

    ولو اُجبرنا على حل وسط مع مكة (بديلاً عن الإتحاد التركي)، بل ولنتكلم عاطفياً على “حكم ذاتي ثقافي”، فانني ازعم ان ضعف ادارتنا الحالي سيؤدي إلى انهيار كارثي ذو عواقب قد تحرق العالم برمته.

    فبذور البولشفية، قبل أي شيئ، تشيع في صفوف المسلمين وما هي في مابين النهرين والهند بأقل منها بين صفوف الأتراك، وستكون اكبر حماقاتنا ان نُخلي، ولو جزئياً، هذه الأراضي. ولقد أشرت، في فصلي الأخير عن المستقبل، إلى ما اعتقده الخط السياسي الممكن الوحيد: “توطيد” الشرق، والمحافظة على مكانتنا الإجتماعية في الإسلام وتطوير موارد العراق الهائلة لضمان شيئ من العودة النهائية إلى الإنفاق البريطاني والعمل البريطاني.

*       *          *

    لعلّي كتبت الكثير عن كبيرنا السير ارنولد ولسن 1917- 1920. كان مثالاً نادراً على مايمكن ان ينجزه التصميم الحديدي اذا ما رافقته قدرة يبدو انها لاتنضب على العمل الشاق والذكاء الحادّ الإستثنائي. لم يكن لديه مزاج للتعامل مع عدم الكفاءة والضعف. كانت مواهبه التي جُبِلَ عليها عديدة حقاً، غير ان الموهبة التي بزَّتها جميعاً موهبته في الهام كل ضابط من ضباطه بروح صداقته الشخصية وإياه على اساس من الهدف والغرض المشتركين.

    وليس من المبالغة القول انه في ايام 1919- 1920 السود لم تكن قلّة من الناس يحملون بسعادة ضغوطاً كانت حتى وقت قريب اعباء لاتُحتمل، لأنهم كانوا يعلمون ان كبيرهم كان ينوء بحملها معهم. كانوا مُعدّين ليفقدوا حياتهم، كما فعل البعض منهم حقيقةً، دون ان يسمحوا بسقوطه.

    انه لأكثر من امتياز- وانا لا استخدم هذه الكلمة بمحض معناها العرفي- ان أكون قد اكتسبت تجربتي في العمل السياسي ومعرفتي بما بين النهرين في ظل قائد بهذه العظمة وصديق بمنتهى الوفاء.

    وعلي أن اسجل شكري وعرفاني لمولانا محمد علي من بعثة العمل الإسلامي لسماحه لي باستعمال ترجمته لمعاني القرآن. لقد استعملت ترجمته مفضلاً إياها على أي ترجمة أخرى، وهي ترجمة مسلم تحظى بتقدير واضح جداً.

                           تي. ايل.

الفصل الأول

المدن المقدّسة لدى المسلمين الشيعة

الحياة في النجف- قصة علي- الرجال “المقدسون”- السنة المتشددون، الشيعة غير المتشددين- تدريب المجتهد وسلطته- المدينة

كم منّا قد سمع في انكلترا عن المدن المقدسة الأربع في بلاد النهرين؟ وكم منّا اخذ في حسبانه تأثير وجودها على الناس الذين نناقشهم بمنتهى العفوية، وكأن الفارق الوحيد بينهم وبين سكان سكوتلندا مثلاً يكمن في لون بشرتهم؟ ولِمَ نصرّ اصراراً يغيظهم في الحقيقة على التدخل في شؤونهم عوضاً عن ان ندعهم لأعمالهم السلمية الخيّرة؟

    تظل الحقيقة ان هذه المدن المقدّسة الأربع (مقدّسة لدى الشيعة) – النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء السمة المميزة الفريدة لما بين النهرين بلا منازع، ومفتاح بواباتها ومفتاح فهم قوة الناس وضعفهم.

السمات الأساس للمدن الأربع تكاد تكون نفسها. سنتناول النجف، ولعلّها هي الأهم، لتمثّل المدن الأربع.

    تقع النجف على مايناهز المئة ميل جنوبي بغداد وستة أميال عن الكوفة، حاضرة الأئمة القديمة ومسقط رأس الإنشقاق الإسلامي الكبير. وإذ نترك اصول هذه الحركة التاريخية لنصفها لاحقاً (في الفصل الثالث) يكفي ان نقول هنا ان الإمام علي (الذي قامت من ضريحه مدينة النجف) كان قد هوجم غدراً وجُرح جرحاً قاتلاً فيما كان يصلي في مسجد الكوفة. في الفوضى التي أعقبت ذلك، تسنّم ظهر جمل وانطلق تحت جنح الظلام إلى الصحراء، تاركاً وراءه وصية بأن يُدفن بدنه في البقعة التي قد يُعثر عليه فيها لاحقاً.

    ولعلّ من الممكن تخيّل الجهد الذي جرى به البحث في اليوم التالي. ولكن، على الرغم من كل الجهود التي بُذلت لم يُكتشف أثر للبدن.

    من الواضح ان شخصية علي كانت اروع واسمى من شخصيات الأئمة جميعاً. كان في وقت وفاته رجلاً مسنّاً معروفاً بحنوّه وورعه، لكن شبابه ومنتصف عمره كانا حافلين بالمآثر المتألقة وشجاعته العسكرية. حاز لقب الأسد من النبي نفسه وولاءه المتين الذي لاينال منه الضعف وتكريسه ذاته كليةً لسيده ومعلمه جعلته الشخصية الأكثر ولاءً والهاماً لدى أي مراقب محايد. واما اغتياله فلم يؤدِّ بطبيعة الحال سوى إلى اعلاء سمعته، وسرعان ما اصبحت الوفاة المحزنة لهذه  الشخصية الورعة وحيدةً في الصحراء محور اساطير خرافية وتقاليد اعجازية. ولتفاصيل تنامي المغالاة في عقيدة حب علي، يجب عليّ ان احيل قرائي إلى كتاب بالإسم ذاته (Cult of Ali) للمبجل ادوارد سيل Edward Sell.

ليس بودي سوى ان أؤكد هنا، وقد عشت بين ظهرانيهم برهة من الزمن، على انني وجدت التكريس لعلي بين المؤمنين كان اكثر ما يلفت النظر.

    وتمضي القصة بعيدا، فبعد سنين طويلة من اغتياله، كان الخليفة هارون الرشيد في رحلة صيد بالقرب من الكوفة وانفصل عن مرافقيه. وقادته الغزال بعيداً حتى توغل في الصحراء، ثم لجأت أخيراً إلى أكمة. وعندما وصل الخليفة تفاجأ بان حصانه لم يشأ أو لم يقدر على ولوج الأكمة على الرغم من كل جهوده.

    واخيراً اضطُرّ الخليفة إلى أن يترجل عن حصانه ويلج الأكمة راجلاً. لم يجد الغزال، بل وجد بدلها هيكلين عظميين لرجل وجمل.

    لم يبقَ في ذهنه شك بأن الله قد قاده إلى مثوى علي، ووفقاً لوفاة الإمام /// للاسف صفحة رقم 20 من الاصل الاجنبي مفقودة / المترجم …..

                          (صفحة 20 غير موجودة)

حاضرة البذخ الديني والتعصب الأعمى، الخداع والإضطراب، الثروة الغاشمة والفاقة المطهّرة واخلاقيات التجارة وممارسات لاتشبه أياً سواها في العالم.

  يُقدَّر سكان النجف بنحو 45.000 نسمة، وحيث ان محيط الأسوار الخارجي اقل من ثلاثة أميال، فمن الأفضل تخيّل ظروف الإكتظاظ بدلاً من وصفها. وفضلاً عن ذلك، ففي بعض المناسبات الكبرى يدخلها من بواباتها مايربو على 120.000 زائر. ومثل اسفنجة غير صحيّة تتشربهم المدينة وتمتصّهم، وبعد ثلاثة ايام أو اربعة تطلقهم خاليي الجيوب ليتخذوا سبيلهم عائدين، وهم بافضل حال، إلى فارس او الهند او الحجاز أو فلسطين.

    لابد من تقسيم النجفيين إلى طبقتين واضحتين- المتدينون المحترفون والناس العاديون. ولابدّ ان لايغيب عن الذاكرة أن النجف جامعة دينية. والنجفي العادي نصف فارسي ومخلوق وليد بيئته بالكامل. واذ يعيش في جو من التعصب الأعمى، فان النجفي غني عادةً ولكنه ينادي بالفقر، وهو ينظر إلى الزائرين والتجار البدو وكأنهم فريسته المشروعة. انه معزول، لكنه يتلقى كل اخبار العالم التي يسمعها من افواج الزائرين التي تصبّ في المدينة المقدّسة ويحرّفها، انه يمارس دوراً ضاراً ومؤذياً بعيداً عن حدود مدينته، بل والعراق.  

ان عزلة النجفي والمكانة الإجتماعية التي يزعمها على المجبرين على زيارته في ملجأه، تميل إلى جعله مستقلاً وضيّق الصدر بالإصلاحات او التحكّم والسيطرة، ولو انه، بصفته غريباً يخشى العرب طبيعياً. والعرب من ابناء البلاد اكثر استقلاليةً، ولا يثقون في اعماق قلوبهم بالفرس.

    ينتمي تجار النجف إلى عصور خلت حيث كان التجار يسافرون في قوافل عبر مخاطر لايتحملها العقل ولا تُعرف نتيجة المغامرة لسنين، والحد الأدنى للأرباح مئة بالمئة. يقف الزائر الفارسي الثمل بالنكهة الدينية أو البدوي الذي تدهشة رؤية فرس على قدم المساواة تحت رحمة النجفي الذي قد يحتفظ بصفيحة نفط في قبوه ثلاثين عاماً على امل ان يرتفع سعرها بضعة فلسان، ويبدو ان امل التجارة الوحيد في التقدم هو الإستيراد وتأسيس مستعمرة يهودية!

    لِنَعُد الآن إلى رجال الدين المحترفين. ومع اني قد ميّزت بغية الإيضاح بين المتدينين والعاديين، فان الحياة ككل والنشاط أو التأثير الذي ينبعث من المدينة المقدّسة متخمة بما يجب تسميته ديناً التماساً لمصطلح افضل. فهو ينظّم سايكولوجية الناس ويشكّل افكارهم وتصرفاتهم ويحكمها، فهو التيار التحتي الموجود ابداً في لاوعيهم، ومهما كان الموضوع الذي نبذل جهودنا لتفهمه يبدو في الظاهر بعيداً، فاننا نستطيع ان نسمع- اذا اصغينا- دمدمته في اعماق وجودهم.

    ان النجف، بصفتها اقدس حواضر المسلمين الشيعة، هي حاضرة كبار المجتهدين، وهؤلاء هم الحكّام الحقيقيون، ومن هنا فانهم جديرون بالإيضاح. المجتهد هو من يتمتع بسلطة الإجتهاد، أو “الإستدلال المنطقي”. ويُفسر اصل سلطته كما يأتي “اراد محمد ان يرسل رجلاً يُدعى معاذ إلى اليمن لجباية الزكاة وتوزيعها على الفقراء. فقال له وهو ينتدبه:

“يامعاذ، بِمَ تقضي؟”

“فردّ: اقضي بكتاب الله”.

“فإن جاء أمر ليس بكتاب الله؟”

“سأقضي عندئذٍ بسنّة النبي”

“فإن لم تجد؟”

“سأجتهد عندئذٍ واتصرف بناءً على ذلك”.

“فرفع النبي ذراعيه وقال:

“الحمد لله الذي جعل رسول رسول الله يقضي بما رضي به رسول الله”.

“ويُعَدّ هذا دليلاً على صلاحية الإجتهاد، لأن النبي أقره اقراراً واضحاً.”

    لايمكن لأي انسان، عند السنّة، ان يكون عملياً مجتهداً. ، أما عند الشيعة فان المجتهدين ليسوا موجودين فحسب، بل ويؤثرون تأثيراً هائلاً على العقيدة. يخضع السنّة لتفسيرات الشريعة الإسلامية كما وضعها مؤسسو المدارس الفقهية الأربع الأصلية: الحنبلي والشافعي والحنفي والمالكي، وهي عند السنّة غير قابلة للتغيير. أما الشيعة، من الجهة الأخرى، فانهم يتّبعون الشرائع القرآنية كما فسّرها الأئمة. وقد يُفسّر أو يُعدّل المجتهدون هذه الشرائع أو بعضها مرة أخرى أو عند الضرورة وفق مايرونه مناسباً.

    ويتمتع من يحمل صفة المجتهد الأكبر في وقت ما سلطة مذهلة. وههنا مثال على سلطته ويبيّن في الوقت نفسه الحق بالتفسير.

    يذهب الفقيه الشافعي إلى أن التبغ “مُضرّ” أو محظور والسنة من اتباعه لايدخنون حتى يوم الناس هذا. ولكن القرآن لم يَرِد على ذكر التبغ، ولذلك فان التدخين مباح للشيعة. وحدث ان منحت الحكومة الإيرانية احتكار التبغ لشركة روسيّة. فعدّ المجتهد الأكبر حينها، المرزا حسن الشيرازي المقيم في النجف منح الإحتكار “للكافرين” أو غير المؤمنين “حراماً”. وعليه فقد اصدر فتوى أو وثيقة تحمل عبارة “حكمت”- “قررت” منع استعمال الشيعة في فارس التبغ، وقد احتُرِمَت هذه الفتوى. هذا المثال على الطاعة والإنصياع لكل من يعرف الدور الذي يؤديه التبغ في فارس لايبدو اقل من معجزة! وكانت النتيجة أن الغت الحكومة الإيرانية الإحتكار وعوّضت الشركة الروسية. وعندئذٍ سُحبت الفتوى. ما من عالم سنّي يسعه فعل ذلك.

    من المعلوم تماماً ان الكحول محظور حظراً مطلقاً. ومع ذلك فان المجتهدين قد اصدروا في حالات عدّة فتاوى تبيح ان يستعمله الأشخاص المرضى ممن ليس لهم، برأيهم، أي علاج سواه.

    للمجتهد الشيعي ان يفسّر الشريعة، أما السني فليس امامه سوى اتّباع الشريعة كما فُسِّرت له اتباعاً خاضعاً.

    ان فحوى وجود ثلاثة طبقات من المجتهدين، نظرياً على اساس مستوى المعرفة الذي بلغوه. غير أن التقسيم يعتمد عملياً على مالدى المجتهد من قوة تأثير وعلى عدد مقلّديه.

    لايستطيع المجتهد الحصول على اعتراف له بصفته هذه إلاّ بشهادة من المجتهد الأكبر. تمنح هذه الشهادة لمن يتلقى تعليمه لغاية خمسة وعشرون عاماً في النجف مباشرة على يدي المجتهدين الكبار الذين قلما يخضع لهم رجال العائلات الكبيرة. والإمتحانات صعبة صعوبةً استثنائية ومضنية، وفي حدود الشريعة التي تكاد ألاّ يحدّها حدّ. ويذكر المبجل ادوارد سيل المتطلبات الستة الآتية للدرجة الأولى من الإجتهاد:

1. المعرفة بالقرآن وكل ما يتعلّق به: ومعنى ذلك، معرفة تامة بالآداب العربية، ومعرفة عميقة جداً باوامر القرآن وكل تقسيماتها الفرعية، وعلاقة كل منها بالأخر وعلاقاتها بالسنة النبوية. وعلى المرشح ان يعلم متى كُتبت كل آية في القرآن ولماذا، وعليه ان يكون عالماً بكل معنى حرفي لأي كلمة، والمقيد والمطلق في كل عبارة والجمل الناسخة والمنسوخة. وعليه ان يكون قادراً على ايضاح معاني المقاطع الغامضة ، وان يميز بين ماهو حرفي وما هو مجازي، والعام والخاص.
2. يجب ان يكون حافظاً للقرآن عن ظهر قلب، وكل الأحاديث النبوية والتفسيرات.
3. يجب ان تكون لديه معرفة ممتازة بالحديث النبوي أو بثلاثة آلاف حديث في الأقل. وعليه ان يعرف مصادرها وتاريخها واهدافها وعلاقتها بشرائع القرآن. وعليه ان يحفظ عن ظهر قلب اكثرالأحاديث النبوية اهميةً.
4. ان يعيش حياة متقشفة وورعة.
5. معرفة شاملة بكل علوم الشريعة.
6. معرفة تامة ﺒ”المذاهب” او المدارس الفقهية الأربعة.

    هذا هو مستوى المعرفة الذي يُعَدّ، نظرياً، لابدّ منه في النجف لكي يحصل المرء على درجة الإجتهاد الأولى. والإمتحانات تحريرية وشفوية معاً. ووفقاً للشرط الرابع يجب ألاّ تشوب شائبة من فضيحة اجتماعية حياة المرشح اثناء مدة الدراسة. يجب ان تكون حياته، مكشوفة للعامة، ولا تشوبها شائبة وقدوة للآخرين. حقاً لايمكن للحياة الشاقة وحياة العزلة ان تجذب أي رجل من عائلة كبيرة جذباً كافياً ليتخلى عن مزايا بذخ الوفادة ويصبح مجتهداً.

    الخطوة التالية في حياة المجتهد الحاصل على شهادة، عند وفاة مجتهد أكبر، هي ان يجمع حوله رجالاً متعلمين ويبعث بهم إلى شتى أصقاع العالم ليشيعوا شهرته. وتتضخم شهرته، إذا اسعفه الحظ، كما تتضخم كرة الثلج، حتى يُعترف به في نهاية المطاف بتهليل عالمي بصفته احد المجتهدين الكبار. ويُخاطب عندئذٍ بالعنوان الرنان “حجة الإسلام والمسلمين، آية الله في العالمين“. كم يختلف هذا العنون المتفاخر عن عنوان بطريارك المسيحية الغربية “خادم خدّام الرب!”

    ثمة عدد معين من عامة الشيعة المتعلمين الذين يُدعون خطئاً بالمجتهدين. هؤلاء رجال “متدّينون” ديانة صحيحة أو اتقياء، ولهم ان يتلقوا الصدقات وان يسوّوا المسائل البسيطة في الشريعة، لا ان يقرروا الفتوى أو يصدروها.

    قد لا يكون من المفاجئ احياناً ان يقال انه في بيئة كهذه وبكل هذه التقاليد وراء المجتهد الشيعي ان يصبح تجسيداً حقيقياً للروحانية وفخر للعالم. ويستتبع عدم طاعة اوامره لعنة ابدية. والمجتهد الشيعي محاط بأسوأ انواع المتملقين الذين يتناقلون فيما بينهم ابسط العبارات التي يتفوه بها بنغمة اعجاب. ويعيش المجتهد الشيعي عيشة متواضعة، وبذلك يقلّد نفس الفضيلة التي انفق حياته المتكبرة كلها في مخالفتها. ويكدس مبالغاً طائلة من الأموال بطرق سنتناولها في فصل لاحق. وهو لايغادر بيته ابداً إلاّ للذهاب إلى المسجد للصلاة، ويعترض سبيله المئات ممن يبذلون جهودهم لتقبيل حاشية ردائه، واذا حالفهم الحظ، فتقبيل يده. ويمنح المحببين اليه قطعة مربعة صغيرة من الورق كُتبت عليها آية من القرآن. وتُخاط قطعة الورق هذه في حافظة جلدية بكل عناية وتُلبس تحت “العرقجين” او غطاء الرأس، أو تُربط على الزند فوق الساعد، وتُعد حماية دائمة من كل هجمات الشيطان والأرواح الشريرة. وتبلغ هذه الوريقة من القوة، كما يرى البعض، ان تحمي من كل المخاطر المادية والروحية كذلك.

    ومع ذلك- ولاحظ هذا جيداً- فليس بالضرورة ان يصلي خلف المجتهد حشد غفير في المسجد. لأن الشيعة يفضلون ان يأتموا في صلواتهم بمن عُرف عنه صدق ورعه وطهارته. وليست للكفاءة الذهنية كبير قيمة في بيت الله. وليس للسلطة المؤقتة والروحية للمجتهد وزن في الأحاديث الشخصية بين الناس. يجب في مَن يؤم الصلاة ان يكون، قدر الإمكان، “معصوما”، أي لا اثم عليه.

    ولكننا سنلاحظ ان اتخاذ موقف الندّ من المجتهد يعني ان يجد المرء نفسه في مواجهة عائق سلطة ذات ابعاد كبيرة وتكاد تكون غير محدودة. وفي الوقت نفسه، يجب ألاّ يتخيّل المرء، ولو للحظة، أن تأثير المجتهد على الجمهور تأثير مباشر. فالجمهور يخضع، حقيقةً، للشرعية وحرفية الشريعة، ويتمسك الجمهور بالمجتهد، بصفته المفسّر الأعلى للشريعة، بخشية تامة، لكن الجمهور لايتردد عن استخدام الندّية والحسد الدينيين بين الأشخاص المتميزين في سبيل مصلحته الخاصة، كاشفاً بذلك عن المسافة الشاسعة في اذهان افراد الجمهور بين احترامهم المنصب وبين الفرد الذي يشغله! وغالباً ماتكون ثمة مناقشات طويلة بين افراد أي فريق لطرح مسألة ما بخصوص مَن يكون من الحكمة طرح المسألة عليه من المجتهدين أو المتدينين، أي مَن سيقرر المسألة لصالحهم بأزهد رشوة. وقد يطول النزاع احياناً حد السأم لأن احد الطرفين، ببساطة، يرفض المثول أمام المجتهد الذي اختاره ندّه. وبالطبع فان الوصول إلى المجتهد الأكبر في قضية واضحة الفساد لن يسمع به احد. بل ويمكن ان تُستخدَم سلطته العليا بدون علمه لقلب ميزان العدالة كما سنرى في الحادثة الآتية.

    ادعى حسن وعلي، وهما تاجران من احدى المدن، حيازة بيت ودافع كل منهما عن حيازته. وعُرضت القضية على المسؤول السياسي للقرار فيها. وكانت الأدلة التي في صالح علي راجحة، ولذلك ظل البيت في حيازته. اتهم حسن علياً باليمين الكاذب، وطالبه بالتوجه إلى كربلاء ليقسم بضريح الحسين على ان وثائقه وادلته الفعلية كانت حقيقية. وكان عليراضياً بفعل ذلك، وكيف له ان يرفض؟ وانطلق في سفرته عشرة ايام تقريباً. وبعد ان اقسم اليمين عاد ليجد ان بيته قد سُرق وسُلب. بدأ حسن فوراً باطلاق شائعة في السوق بان ذلك كان عقوبة انزلها الحسين بعلي، لأن علياً اقسم يميناً كاذباً بضريح الحسين.

    انتشر هذا التفسير الديني كالنار في الهشيم، وفيما كان كل مسلم صالح يذم علياً، تولى اصدقاء حسن حثّه على الذهاب فوراً إلى المجتهد الأكبر وطرح المسألة كلها عليه. وكان هذا مايرومه حسن تماماً، فانطلق بصحبة علي واصدقاء الطرفين. وليس من الضروري ان نضيف ان قداسته حكم لصالح حسن. وُضِع حكم المحكمة المدنية جانباً، وانتُزِعت الحيازة من علي، واصبح حسن، وهو طافح بالطهارة، مالك البيت.

    ان المجتهدين، بعيداً عن خطهم الخاص- الشريعة وكل تشعباتها- اطفال غير معقولين. وقعت الحادثة الآتية (اخبرتني بها جهة لايرقى إليها الشك) منذ زمن ليس بالبعيد. اتي كليدار (امين صندوق) احد الأضرحة المشهورة في فارس لزيارة كربلاء. وكان عليه بمقتضى منصبه ان يستضيف كل زوار كربلاء الذين جاءوا لزيارة هذا الضريح، وتقبّل منهم شكرهم وعرفانهم على ضيافته بطيبة وكرم خلق. وكان من عادة الصوفيين ان يكون لهم شاربان طويلان، ومع انه لم يكن صوفياً، فان طول شاربيه اغرى الطلبة في كربلاء بنشر شائعة بأن مدينتهم المقدسة قد دُنست بحضور هذه الطائفة المكروهة والملعونة. وفي هذا الوقت كان كبير المجتهدين مقيماً في كربلاء، فذهبوا إليه واخبروه بالأنباء المريعة. فكتب فوراً رسالة إلى المنتهِك، الذي لايعرف عنه شيئاً ومنعه منعاً باتاً من الدخول إلى الضريح. ولم يكن غضب الكليدار على هذه الإهانة غير طبيعي فسأل قداسته صراحةً عما يعنيه بالإهانة المقصودة لمن أكرم الالآف من الكربلائيين ليُجازى بهذا التصرف الشائن. اعقبت ذلك رسائل تفسير واعتذار، لكن الطلبة كانوا لايزالون غير هادئين. وعليه، فان المجتهد الأكبر اخبر الكليدار بأنه لن يكون ثمة اعتراض على زيارته الضريح اذا حلق شاربيه أولاً! وكان الجواب “احلق لحيتك اولاً!”

    لقد قلت آنفاً انه من هذه المدن المقدّسة، بصفتها مراكز بالغة الحساسية، تنبعث قوة دينية ناشطة تتغلغل في ابناء القبائل. وقد حاولت ان اصف مركز القوة هذا. غير انه ينبغي ألاّ يغرب عن الأذهان ان المجتهد نفسه قد صبّه الناس في هذا القالب. وقد نال منصبه بالتعلم جزئياً ولكن نصيب الشعبية فيه اكبر، ولابدّ من المحافظة عليه بأي ثمن. وتحرّك السياسة نفسها من يليه في المرتبة مباشرة- العلماء- وهؤلاء رجال مسنّون تفصح اغطية رؤوسهم، العمائم الضخمة، عن درجة قدسيتهم أو اهميتهم. وقد نما إلى علمي – ولدي كل الأسباب كي اصدّق- ان هذه العمائم الضخمة كانت تستخدم في ايام الحكم العثماني مكاناً للمسدسات والذخيرة أو الأسلحة العدوانية الأخرى. يحافظ المجتهد على سلطته من خلال العلماء، وهؤلاء بدورهم يعمّقون تأثيرهم على زبائنهم وهم طلبة علم بالدرجة الأولى، وعامة الناس بالدرجة الثانية. كل المدن المقدسة مراكز تعليم. ولأنها مراكز دينية كذلك، فان السياسة التعليمية تبدأ بالمعرفة الدينية وتنتهي بها. ولا يجري تعليم القراءة والكتابة إلاّ لأنهما يفيدان في المسائل الدينية. على الطالب ان يكون قادراً على قراءة القرآن وان ينسخ أو يكتب نسخاً من نصوص دينية. ويُعدّ الخط الحسن فناً من الفنون الجميلة. وهذا معقول جداً اذ يُفترض ان لغة هؤلاء الناس اللغة الأم لأهل الجنّة! يُكرّس الكثير من الوقت لهذا الموضوع وتتمتع بعض القيادات الدينية بخط يد رائع. ومن هنا يحظون بشهرة واحترام كبيرين.

    النجف أكثر هذه الجامعات اهمية. ثمة مايناهز عشرين كليّة، تضم مايقارب 6.000 طالباً. وانطلاقاً من حقيقة ان للمجتهد الشيعي الحق بوضع تفسيره للشريعة والأحاديث النبوية واقوال الأئمة، فليس لدراسة شريعة الشيعة عملياً أي حدود. انها حقاً دراسة شاملة جداً ومعقدة جداً. تشمل الدراسات الأولية شريعة الطلاق والمواريث والشريعة اللاوية “العين بالعين” و”السن بالسن” وعلى مَن هو برسم ان يصبح مجتهداً ان يسيطر عليها جميعها في مرحلة مبكّرة نسبياً من حياته المهنية. وهذا يشجّع إلى درجة مدهشة حب الجدل في امور تافهة. فالقرآن يقضي مثلاً بقطع يد السارق. ولكن ما اذا كان القطع من البراجم أو الرسغ او المرفق أو الكتف متروك للمجتهد كي يقرره. كان ثمة الكثير من الجدل بصدد هذه المسألة هيأ مادة عدد من المجلّدات التي تجب قرائتها بعناية.

    تتراوح اعمار العدد الكبير من الطلبة في النجف بين الرابعة عشرة والستين سنة بل واكثر ويرجع ذلك إلى المزايا المتعددة المرتبطة بوجودهم هناك. فاولاً، لاتُطلب منهم اجور دراسية، بل ان مبالغاً كافية تُعطى إلى الطلبة من الصدقات للعيش هم وعوائلهم. ومخصصاتهم غير مشروطة بتقدمهم بالدراسة. ونكاد لانصدق حقيقة ان العديد من هؤلاء الطلبة قد استمتعوا بالدخل المريح نسبياً والسكن المجاني لثلاثين أو اربعين سنة من دون ان يتقنوا فن القراءة أو الكتابة!

    ومع ان السكن متوفر في كل الكليات فان عدداً كبيراً جداً من الطلبة يعيشون في المدينة ويحضرون محاضراتهم في النهار. وهكذا فان تأثير الكليات يتغلغل في الجو كله وينبعث إلى المحيط.

    وحتماً فان عدداً ضئيلاً جداً من الطلبة يتسنم موقعاً مهماً في عالم الدين، ومع ان حياةً سهلة كهذه تجذب بوضوح، فانها لاتؤدي إلى أي شيئ يمكن ان تطلق عليه تسمية مهنة. ومن جهة اخرى، فان الطالب المتوسط يُكافأ بطرق عدّة على اجتهاده. فهناك اولاً الموقع الذي يتمتع به في الوسط العائلي وبين اصدقائه الأقل حظاً- وهذا ليس بالقليل في عينيه. والنتيجة الأكثر عمليةً هي “رسائل” معلميه أو العلماء بل حتى من مجتهد التي توصي به بصفته شخصاً مناسباً لتولي الصدقات او استلامها- الوظيفة الأوفر كسباً! – او منحه صلاحية القرار في حسم الخلافات الدينية الصغرى، وهي ذات مزايا مساوية. ولكن ثمة الكثير من اخفقوا في احراز أي تقدم في التعليم، وآخرون تعبوا من طريق التعلّم الطويل والحياة الدينية القاسية. هؤلاء يصبحون قرّاء قرآن.

    ينام في وادي السلام، خارج اسوار المدينة المقدّسة ملوك ووزراء ونبلاء وتجّار، الأغنياء والفقراء، وعلى قبورهم قارئ يقرأ آيات من القرآن ويرتّب الأضوية ليُبعد محبي الظلام. وتكشف زيارة إلى وادي السلام عند مغرب يوم الخميس مايربو على الفين من هؤلاء الرجال منشغلين بتحصيل رزقهم. العطايا ليست مرتفعة، لكنهم بالإضافة إليها مسجلون في قائمة الفقراء المقدسين ويتلقون حصصهم من التوزيع العام للصدقات الذي يجريه المجتهد الأكبر شهرياً.

    انما حاولت فيما سبق ان ابيّن الخطوط العامة للأجواء العقلية المشتركة المسيطرة على كل المدن المقدّسة. وانتقل الآن إلى ظروف المعيشة التي تشكّل شخصية السكّان. ووصف واحدة من المدن المقدسة هنا ايضاً يصحّ عليها كلها.

    تتألف النجف اليوم من بلدة صغيرة ذات شوارع ضيقة وبيوت شبه آيلة للسقوط تحيط بمسجد فخم. ولا يزيد عرض اغلب الشوارع عن ثمانية اقدام، وثمة العديد منها اضيق من هذا بكثير. وكثيراً ما عُصِرت على جدار لأفسح المجال لحمار يحمل قربتي ماء، قربة على كل جانب.

    وتبرز الشناشيل من جوانب البيوت وغالباً ما تتداخل فيما بينها وتحجب كلاً من اشعة الشمس والهواء تماماً. ويؤدي إلى المسجد سوق عريض مسقّف تسقيفاً حسناً يبلغ طوله قرابة ربع ميل. ثمة سمة مميزة لهذه المدينة، ففي كل بيت طبقة واحدة على الأقل من الأقبية. وحيث ان المدينة شُيِّدت على قمة منحدر صخري فليس من حدود لعمق البيوت، ومن الطبيعي ان يلجأ الناس إلى الأقبية هرباً من الحر. وتضم الأبنية الأكبر ثلاثة أو اربعة أو حتى خمسة طبقات من الأقبية، أو “السراديب” كما يسمونها ومفردها “سرداب”. وتتبين فائدتها العملية حين تكون درجة الحرارة على الأرض 125ْ درجة في الظل، فمن المستحسن ان ترتدي معطفاً بعد ان تنزل ثلاث طبقات! وتتصل الكثير من البيوت عبر هذه الأقبية مما يسهّل وسائل الجريمة التي لايسع مخيّلتنا المتمدنة إلاّ ان تبهت امامها. حقاً ان وجود هذه الأقبية قد اسهم إلى مدى بعيد في السمعة التي تستحقّها النجف بصفتها المدينة الأكثر شراً وفساداً في العراق- وهي سمعة يتقبلها حتى الشيعي المخلص.

    وفي كل بيت كذلك بئر يربو عمقه على مئة قدم للماء الذي لايسوغ طعمه ويتسبب بنوع من الدزانتري. ومن الممكن ان تكون للبيت قبة أو اثنتان، والأمور الصحية في اقصى الأحوال البدائية.

    تقوم كل الطرق والأبنية على الأساسات غير الآمنة لهذه الأقبية المتهاوية العفنة التي ترشح فيها نفايات المدينة كلها.

    تحاصر كل هذه الإسفنجة الضخمة المتخمة باوحال الأمراض الهاجعة الأسوار المذكورة آنفاً من كل جانب. ومما يدهش انه لم يضربها مرض فتاك، ولكن يبدو انه لايمكن ان يتأخر ذلك المرض كثيراً.

    هذه اذن لمحة موجزة عن المدينة المقدسة، القوّة الموجهة لحياة الآلاف. لم اطمح إلى أكثر من خطوط عامة، ولذلك فان بمقدور القارئ ان يملأ في اوقات فراغه الفجوات بالتفاصيل التي آملُ ان اصفها تباعاً.            

    Waleedkaisi @yahoo.com