23 ديسمبر، 2024 4:49 ص

المدركات الذهنية وأثرها على العلاقات العربية -الافريقية

المدركات الذهنية وأثرها على العلاقات العربية -الافريقية

تنطلق الدول في بناء منظومة علاقاتها الدولية من جملة من المعايير والاسس التي تضعها كاطار عام ومحدد لها، ويشكل الادراك الذهني بين الدول احد المعايير الاساسية والرئيسية في هذا المجال. وعلى صعيد العلاقات العربية الافريقية عموما، والعراقية الافريقية على نحو الخصوص كان للإدراك الذهني اثره الواضح في طبيعة هذه العلاقات، فالقارة الافريقية ومنذ فترة ما قبل الاسلام كانت ذا اهمية واضحة على مستوى المحيط العربي، اذ كانت الاسواق الرئيسية في الجزيرة العربية وبلاد الشام تمثل نقطة التقاطع بين تجارتي الشرق والغرب، وبعد الاسلام كانت القارة الافريقية تشكل مجالا حيويا للدولة الاسلامية لذا توجه رجال الدعوة الاسلامية اليها لنشر العقيدة الاسلامية.
شكل القرن الخامس عشر بداية التراجع العربي والاسلامي في القارة الافريقية، اذ بدأت الحركة الاستعمارية الاوربية في القارة تظهر وتتنامى بشكل كبير وسريع حتى باتت القارة الافريقية موضع نزاع وصراع بين الدول الاوربية وهو الصراع الذي حاولت اوربا ايقافه من خلال مؤتمر برلين عام 1884 ــــ 1885 وهو ما يعرف بمؤتمر تقسيم القارة الافريقية. وقد استمر الوجود الاستعماري في القارة الافريقية حتى ظهور الحركات التحررية ونيل الدول الافريقية استقلالها في منتصف القرن العشرين تقريبا.
وبالرغم من حصول الدول الافريقية على استقلالها و( انتهاء عصر الاستعمار ) الا ان الدول الغربية ومن اجل حماية مصالحها في هذه الدول مارست العديد من السياسات التي تمنع من استعادة العرب لوجودهم وتأثيرهم في القارة الافريقية. ابتداءا من محاصرتها للإسلام ومنع انتشاره، مرورا باستبدال الحروف العربية بالحروف الانكليزية في كتابة اللغات الافريقية فاللغة السواحلية ولغة الهوسا من اوسع اللغات الافريقية انتشارا في الشرق والغرب الافريقيين وقد كانت الحروف العربية تمثل اول الحروف التي كتبت بها هاتين اللغتين، الا ان سياسة التحديد والمحاصرة والاستبعاد الاستعمارية للغة العربية اقتضت استبدال لغة الكتابة من العربية الى الانكليزية وكما هو معروف في الوقت الحاضر.
ايضا من السياسات التي مارسها الاستعمار لاستبعاد عودة العلاقات العربية الافريقية هي عملية اعادة رسم وتشكيل الصورة الذهنية لدى الطرفين سواء من خلال الاعلام، او الطروحات الفكرية، او تضخيم بعض الممارسات السلبية وتزييفها احيانا كما في تجارة العبيد، هذه السياسة شهدت تاثيرا نسبيا واضحا في الوسط الاجتماعي والنخبوي الافريقي وانعكست فيما بعد على المواقف الرسمية، فالنخب الثقافية التي ظهرت خلال فترة الاستعمار الغربي للقارة الافريقية، وتأثرها بالثقافة الغربية، انعكس على موقفها من الدول العربية بعد ما اصبحت هذه النخب تمثل الطبقة السياسية في بلدانها وكما هو واضح في موقف الرئيس السنغالي ليبولد سنغور المتأثر بالثقافة الفرنسية والذي شكر فرنسا في كلمته خلال تسلمه شهادة الدكتوراه موضحا ان فرنسا لها دور كبير في معرفتنا لأعدائنا الحقيقيين ( ويقصد بهم العرب ) كما انعكس على تعامل الجنود السنغاليين العاملين مع القوات الفرنسية في الجزائر، بل ان هذه السياسات بدأت بالتأثير على العلاقات الافريقية ـــــ الافريقية من خلال محاولتها الفصل بين افريقيا شمال الصحراء ( افريقيا العربية ) وافريقيا جنوب الصحراء وقد سعت الى وضع جملة من المعايير التي تاثرت بها فيما بعد العديد من النخب السياسية والثقافية، ومن ابرز هذه المعايير:
1- المعيار اللوني فالأفريقي هو الانسان ذو البشرة السوداء حصرا، ومن ثم فان غير الاسود ليس بأفريقي, هذا المعيار تاثر به ليبولد سنغور السنغالي فكريا وعلى اثره صاغ نظريته المعروفة بنظرية الزنوجة والتي صاغها في مقالته التي نشرها في مجلة الطالب في فرنسا عام 1934.
2- المعيار الجغرافي وهو جنوب الصحراء الكبرى فكل من يسكن في هذا الاقليم الجغرافي هو افريقي.
ويلاحظ ان كلا المعيارين بالإمكان نقضهما فالمعيار اللوني لايمكن التمسك نظرا لوجود العديد من الملونين المنتمين إلى اسر افريقية معروفة لايمكن نفيها عنهم باي حال من الاحوال، واما بالنسبة الى المعيار الجغرافي فان بلدان جنوب الصحراء الكبرى اصبحت موطنا للعديد من الجاليات العربية كاللبنانية والمغربية والموريتانية، وهو ما يظهر بوضوح في كل من ساحل العاج والسنغال وغانا ونيجيريا وتنزانيا وكينيا وبروندي وجنوب افريقيا وغيرها من الدول الافريقية.
ان عملية تجاوز هذه السياسات، وتصحيح المدركات بين العرب والافارقة لا تتوقف على الارادة السياسية فقد، وانما يستند ايضا إلى الارادة النخبوية والشعبية، وعملية تصحيح المدركات الذهنية لدى هذه الفئة مهم جدا، خصوصا وان التأثير الفكري والاعلامي للغرب ما يزال يغذي عملية التشويه في الادراك المتبادل بين الطرفين.