18 ديسمبر، 2024 6:39 م

المحكمة الاوربية لحقوق الانسان، بين النظرية والتطبيق

المحكمة الاوربية لحقوق الانسان، بين النظرية والتطبيق

ان مفهوم الحريات العامة وتمييزها عن الحريات الخاصة مفهوم واسع، ولو شرعنا بتفسيره فقد نسترشد بالقول المنسوب الى محمد بن عبد الجبار النفري “كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة”، حيث ان الحريات الخاصة هي تلك الحريات التي تتصل بالعلاقات بين الأفراد دون تدخل الدولة مثل حرية ابرام العقود وحرية الزواج او اي تصرف فردي اخر ذا اثر لا يتعدى حدود تعامل الفرد، أما الحريات العامة فهي تلك الحريات التي ترتبط بالعلاقات بين الدولة و الأفراد مثل حرية الرأي او التعبير او المعتقد ..الخ، او كما يعرفها (جان ريفيرو) إن الحريات العامة هي حقوق الإنسان التي حولها الاعتراف بها من طرف الدولة من القانون الطبيعي إلى القانون الوضعي، ولعل الإعلان العالمي لحقوق الانسان وتشكيل المحكمة الاوربية لحقوق الانسان هو بحد ذاته الفاصل او الحدود الواضحة ما بين حرية الفرد وما بين الحدود المسموحة للنظام العام، واقصد هنا الدولة، لتنظيم الحريات الفردية اوو حتى تقييدها، اما عن دور التشريعات، المحلية والدولية، في مجال الحريات العامة فلها المجال الواسع بالاعتراف بها والتأسيس لها وتكريسها ووضع الأليات الكفيلة بحمايتها ويتجلى ذلك في الاعتراف بها في القوانين و التشريعات سواء الأساسية (الدستور) أو التنظيمية (اللوائح) و التي تعبر عن رغبة السلطة في توفير الحماية لهذه الحريات و التي تتجسد أكثر فأكثر من خلال وضع أليات و توفير مؤسسات تكفل ذلك، بالمقابل كان لتلك التشريعات الدور في تقليص الحريات وتقييدها وعلى سبيل المثال تقييد الحرية الاقتصادية لما يؤدي منها إلى الاحتكار فتتدخل الدولة لتنظيم النشاط الإقتصادي تحد من تلك الحرية فضلاً عن قوانين الضريبة وتحديد الدخل ..الخ وكذلك قوانين اخرى مثل قانون الطوارئ عن الكوارث او في الظروف الاستثنائية ..الخ.
جاء في نص المادة (2) من الاعلان العالمي لحقوق الانسان في العاشر من ايلول عام 1948 (لكلِّ إنسان حقُّ التمتُّع بجميع الحقوق والحرِّيات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أيِّ نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدِّين، أو الرأي سياسيًّا وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أيِّ وضع آخر، وفضلاً عن ذلك لا يجوز التمييزُ علي أساس الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو الإقليم الذي ينتمي إليه الشخص، سواء أكان مستقلاًّ أو موضوعًا تحت الوصاية أو غير متمتِّع بالحكم الذاتي أم خاضعًا لأيِّ قيد آخر على سيادته)، فلو بحثنا عن السبب الموجب من تشريع اتفاقية دولية تُلزم الدول بمحو هكذا فوارق بين سكانها او عن القاعدة الام لتلك الاتفاقية نلاحظ جلياً فكرة عدم التمييز على اساس الوضع القانوني او السياسي او الاقتصادي او الديني او المذهبي لكل مواطن هو أساس تمتعه بحريته شريطة ان لا تتعدى حدود تلك الحرية على حدود حريات الغير، او ما ترتأيه الدولة من خلال سن قوانين تارة تحافظ وتحصّن تلك الحريات وتارةً أخرى تقيدها بغية الحفاظ على النظام العام او مؤسساتها او امنها وسيادتها.
سبق وان أصدرت المحكمة الاوربية لحقوق الانسان قراراً يقضي بعدم تأييد الحكم الصادر من المحاكم البريطانية بمنع صحيفة (سانداي تايمز) من نشر مقال يخبر مواطني دولة بريطانية عامةً بالاضرار التي لحقت ببعض الامهات من جراء استخدامهن لأدوية (الثاليمويد) أثناء الحمل بعد تعرض اطفالهن الى تشوهات جنينية لوحظت بعد الولادة، بالمقابل؛ كان ذلك الدواء مُرخصاً بالشكل القانوني من قبل السلطات المعنية في بريطانيا، واكدت المحكمة الاوربية لحقوق الانسان بأن قرار منع نشر المقال الذي يُعلم الجميع بالضرر الحاصل من الدواء المُرخص ينتهك بذاته احكام المادة (10) من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان عازيةً السبب بأن تدخل السلطات البريطانية بمنع نشر المقال لا يتناسب مع المصالح العامة، بالمقابل نظرت المحاكم البريطانية للقرار الصادر من قبل المحكمة الاوربية لحقوق الانسان بأنه (عصيان للمحكمة) على حد تعبيرها، وهنا نرى بأن للمحاكم البريطانية وجهة نظر يجب تفحصها وتدقيق حيثياتها، حيث ورد في تفاصيل القضية وجود ما يُقارب 389 شكوى من قبل المتضررين من جراء لأدوية (الثاليمويد) ضد مؤسسة دستيلرز حتى نهاية عام ١٩٧٢ وان اول الاضرار قد تم اكتشافها كان ما بين عامي 1958 – 1961، وهنا نمتلك ثلاث ادلة: الدليل الاول ما ورد في فحوى القضية من ان المقال ناقش التسويات التي قدمت للمتضررين إلا انها وصِفَت بالسخيفة ولا تتناسب مع حجم الاعاقة بالإضافة إلى ذلك انتقد المقال من ضمن العديد من الأشياء القانون الإنجليزي المُتعلّق بتسوية وتقييم الأضرار، اما الدليل الثاني فأن تلك القضايا الجنائية لم تُحسم بعد وان بالتأكيد كان السبب اثبات الضرر الذي تسبب بالتشوهات الجنينية من جراء أدوية (الثاليمويد) حيث من البديهي ان المرأة الحامل تخضع لعلاجات عديدة اثناء فترة الحمل وقد يكون ذلك الدواء ليس هو المسبب الأوحد بتلك الاضرار، اما الدليل الثالث فهو سبباً لجأت إليه المحكمة وهو هدف سامي وموثق في اغلب التشريعات الجنائية ألا وهو الغاية المشروعة للحفاظ على موضوعية وحياد القضاء من حيث دعم إمكانية لجوء مؤسسة دستيلرز إلى المحاكم للدفاع عما موجه اليها من تُهم لم يتم اثباتها بالدليل القاطع، وهذا ما تم ذكره في السببين السابقين.
اما بصدد قرار المحكمة الاوربية لحقوق الانسان بكون قراراها قد اعتبر بأنه عصيان للمحكمة البريطانية في الوقت الذي ادعى البعض بأن القانون المُتعلّق بعصيان المحكمة غامض ومُبهم وبأن المبادئ المذكورة في القرار مُستحدثة ولا يُمكن بالتالي اعتبار الأمر بمنع النشر (مفروضاً بالقانون)، حيث جاء التباين التشريعي هنا بكون النص التشريعي الخاص بعصيان المحكمة لاحظتهُ المحكمة بورود كلمة (قانون) في عبارة: (مفروضة بالقانون) لا تشمل التشريع فحسب بل وأيضا القوانين غير المكتوبة، اي ما يتم استنباطه والاستدلال عليه من منطوقه او مفهومه، إلا ان رد المحكمة جاء واضحاً من حيث وجود شرطين يفسران عبارة (مفروضة بالقانون) وهما: الشرط الأول: هو وجوب أن يكون الوصول للقانون مُيسّراً، وهنا يفهم بأن الاستدلال عل ما هو مباح وممنوع بكلمات لا تقبل التأويل او التفسير، اما الشرط الثاني: فهو عدم امكانية اعتبار المعيار بمثابة القانون، وهنا يفهم بحسب ما عرف معجم المعاني كلمة (معيار) وهو: (ما يُؤْخَذ مِقياسًا لِغيره)، أي ان المحكمة رفضت الاخذ بالقياس ما بين المانع والجائز ضمن منطوق قانون عصيان المحكمة لاسيما بعد الذكر صراحةً بأن الافتراضات والتخمينات لا تكفي بل يجب تطبيق كل القواعد القانونية على مُختلف القضايا، كما يجب أن تقع صياغة القوانين بما يكفي من الدقة لتمكين المواطنين من تنظيم سلوكهم وليتمكنوا من التعرف على ما هو معقول وما هي العواقب التي يُمكن أن تنجرّ على أفعالهم، وبذلك نرى بأن قرار المحكمة الاوربية لحقوق الانسان قد خرج من اي احراج قد تفرضه المحكمة الاوربية والتي قد ترتقي لمفهوم محكمة دولية بأثر تشكيلها وفق اتفاقية بين عدة دول وهي دول الاتحاد الاوربي وما بين محكمة داخلية لاحدى الدول الاعضاء ضمن الاتفاقية الخاصة بحقوق الانسان.
ونرى هنا بأن قرار المحكمة الاوربية لحقوق الانسان برفض قرار المحاكم البريطانية بمنع صحيفة (سانداي تايمز) من نشر المقال الخاص بتشووهات الاطفال والذي كان تحت عنوان (أطفالنا بالثالمولايد: وصمة عار للوطن) والذي نشر في يوم ٢٤ سبتمبر ١٩٧٢ كان يستند صراحةً الى ما جاء في منطوق المادة (10) من الاتفاقية الاوربية لحقوق الانسان ،بالمقابل ما كان بقرار المحاكم البريطانية الا منع نشر المقال والذي لا يتعدى مفهومه سوى التعبير عن الرأي العام، قد يكون ذلك التعبير جاء ساخطاً او ناقماً من السلطات البريطانية او قد يُفهم بانه القرار القاطع للقضية المطروحة بأدانة (مؤسسة دستيلرز)، او قد ترى السلطات البريطانية بأنهُ وبموجب هذا المقال فأن صحيفة (سانداي تايمز) قد صنعت من نفسها المحكمة الجنائية المختصة وكأنها تمتلك الدليل على ادانة (مؤسسة دستيلرز)، لكن وبكل تأكيد فأن المقال قد عرض على صفحات الجريدة وانتشر توزيعها في ذلك اليوم حيث لم يحكم الشعب البريطاني على عنوان مقال فحسب هذا لأنه سيطلع على مضمون المقال ويرى ما بررهُ كاتبه ازاء حادثة التشوهات الخلقية التي لحقت بالاطفال الذين تناول امهاتهم أدوية (الثاليمويد) وبالتالي فأنها وضعت قانوناً لمنع الحرية في قول الانسان ما يريد دون ان يخالف القوانين الداخلية للدولة وبحسب ما نصت الاتفاقية والتي هي بلا شك جاءت متوائمة مع التشريعات الداخلية البريطانية حيث لا يتسنى لأي دولة الانضمام بمعاهدة دولية تخالف احدى بنودها قانوناً او تشريعاُ او اي نظام او تعليمات داخلية قد صدرت من قبل، وهذا لا يعني ان المحكمة الاوربية لحقوق الانسان قد لجأت بقرارها الى نصرة الحرية الفردية للمواطن البريطاني مقابل الاضرار بالامن القومي لبريطانيا او كسر هيبة الدولة والطعن بقرارات سلطاتها سواء كانت القضائية او التحقيقية بشأن القضية، لكننا نرى بأن قرار المحكمة الاوربية القاضي بنشر القرار لا يعني بالمطلق ثبوت ادانة (مؤسسة دستيلرز) من جراء الاصطفاف مع الرأي العام الذي كتب في مقالته بأن “الوطن شريك بقتل الاطفال بعد وصمه بالعار” على حد تعبير الصحيفة الناشرة لاسيما و ان التعبير عن الحريات العامة له تأريخه القديم في بريطانيا، ونستذكر هنا الميثاق العظيم المعروف باسم: ماغنا كارتا (Magna Carta) وهو أول دستور بريطاني مكتوب في التاريخ الحديث والذي كتب عام 1214 ثم صادق عليها الملك جون لاكلاند عام 1215، حيث تنظم وثيقة ماغنا كارتا العلاقة بين القوى الرئيسية الثلاث في إنجلترا، وهي الملك والبارونات والكنيسة وتلزم هذه الوثيقة الملك بالقانون الإقطاعي وبالمحافظة على مصالح النبلاء.
ختاماً، أنا من مؤيدي تصارع الافكار ضمن النظام الواحد او الأنظمة المتعددة، لأنه وبحد ذاته الطريق الضامن للتطور كما نُسِبَ الى الباحث الاجتماعي العراقي الشهير (علي الوردي)، من حيث ان كل نظام فى العالم لابد أن يكون له نقّاده وإن كان بخلاف ذلك فسيحُكم عليه بالجمود والرجعية، لذلك انا مع من يعطى للكل الحق فى قول الكلمة الحرة والنقد المباح، بالمقابل سيظل للسلطة القضائية كلمة الفصل، وان القضية المعروضة مهما كنا بموقفٍ مؤيدٍ او مُعارض فأنها وبلا شك اضافت فكراً جديداً فى حرية التعبير لبريطانيا وللمحكمة الاوربية لحقوق الانسان على حدٍ سواء والتي اقرت ضمن بنودها عدة حقوق مدنية وسياسية ودينية يجب أن يتمتع بها الإنسان، وابرزها حُرية الرأي.