في ظل تعقيدات المشهد السياسي العراقي، تبرز المحكمة الاتحادية العليا كمؤسسة دستورية تواجه أزمة وجود حقيقية، ليس فقط بسبب استقالات جماعية أربكت عملها، بل نتيجة تصاعد الشكوك حول استقلاليتها وتحوّلها إلى فاعل سياسي أكثر من كونها مرجعية قانونية — في ظل تصاعد التوترات الإقليمية في الشرق الأوسط، وجدت المحكمة الاتحادية العليا في العراق نفسها وسط عاصفة داخلية، سلطت الضوء مجددًا على التساؤلات القديمة حول مدى استقلاليتها ودورها الحقيقي في النظام السياسي العراقي: هل هي مرجعية دستورية عليا أم لاعب سياسي متأثر بالتجاذبات الحزبية؟
وعلى مدى السنوات الأخيرة، اتّسم أداء المحكمة باتخاذ قرارات مفصلية كان لها أثر بالغ على المشهد السياسي، من المصادقة على نتائج انتخابات 2021 المتنازع عليها، إلى إبطال ترشيحات رئاسية وفرض نصاب الثلثين في البرلمان، وصولًا إلى إعلان عدم دستورية قانون النفط والغاز في إقليم كردستان العراق. بل إن المحكمة تدخلت أيضًا في مسائل سياسية مباشرة، كعزل رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، وقرارات متعلقةبتوزيع الموازنة، وصولًا إلى حكمها المثير للجدل بشأن إلغاء تصديق البرلمان على اتفاقية خور عبدالله مع الكويت، ما فجّر أزمة دبلوماسية ,, وأثار مثل هذا الانخراط الكثيف في القضايا السياسية مخاوف جدية من تحوّل المحكمة إلى أداة بيد أطراف نافذة، بدلًا من أن تكون مرجعية مستقلة لتفسير الدستور
يؤمل ان تصحح المحكمة الانحادية مسارها وتفتح ابوابها لعهد جديد في ظل رئاستها الجديدة , على مدى سنوات طويلة خيمت شبهة التسييس على عمل المحكمة الاتحادية العراقية وقراراتها , التخلص من عقدة التسييس التي لازمت عملها على مدى السنوات الأخيرة وأغرقتها في شؤون وقضايا بعيدة عن صميم دورها ومهمتها وأثرت على قراراتها ومست من سمعتها وانتقصت من مصداقيتها, للحدّ من الفوضى التي تسببت بهاالمحكمة والمشاكل التي أوجدتها وطالت المجال السياسي وحتى الاقتصادي والمالي وصولا إلى المساس بعلاقات البلد الخارجية ,, وأصدرت المحكمة برئاستها الجديدة إشارات إيجابية بشأن تصحيح مسارها متعهّدة بالوقوف على مسافة واحدة من جميع الفرقاء السياسيين، ومحدّدة هدفها الأسمى المحافظة على النظام السياسي في العراق واحترام الحقوق الدستورية لكافة مكونات الشعب العراقي , تعهد بعدم تجاوز الصلاحيات وبالوقوف على مسافة واحدة من جميع الفرقاء السياسيين وتطمينات خاصة بشأن الانتخابات البرلمانية المقبلة , وعمّقت من أزمة المصداقية والحياد التي واجهتها المحكمة الاتحادية، الاتهامات الصريحة التي وجهت للعميري خلال الفترة الأخيرة بالتفرد في القرارات الصادرة عن المحكمة وتخطي صلاحياتها ومحاباة قوى سياسية وحزبية معينة مستخدما السلطة الواسعة للمؤسسة التي يرأسها في تفسير القوانين وإصدار فتاوى بما يخدم مصلحة تلك القوى على حساب أخرى
وتشمل مهام المحكمة الاتحادية في العراق الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة النافذةوتفسيرنصوص الدستور والفصل في القضايا التي تنشأ عن تطبيق القوانين الاتحادية والقرارات والأنظمة والتعليمات والإجراءات الصادرة عن السلطة الاتحادية والفصل في المنازعات القضائية والإدارية التي تحصل بين الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات والبلديات والإدارات المحلية والفصل في الاتهامات الموجهة إلى رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء والتصديق على النتائج النهائية للانتخابات العامة لعضوية مجلس النواب
وفي مستهل عمل رئاستها الجديدة وإثر اجتماعها التشاوري الأول بحضور كافة أعضائها، أصدرت المحكمة الاتّحادية بيان طمأنة للعراقيين أكّدت فيه التزامها “باختصاصاتها الدستورية وفق ما رسمه لها الدستور في المواد 52 و93 منه والمادة 4 من قانونها رقم 30 لسنة 2005 المعدل بالقانون رقم 25 لسنة 2021 وعدم التوسع في هذهلاختصاصاتوكذلك التأكيد على استقلالية المحكمة في اتخاذ القرارات وعدم السماح بالتدخلات السياسية في عمل المحكمة,, واكد البيان على الالتزام بـ”عدم التدخل في أعمال السلطتين التشريعية والتنفيذية واحترام ما يصدر عنهما من قرارات تدخل في صميم أعمالهما التي منحها لهما الدستور، إلا ما شكل منها خرقا لنصوص الدستور فيمكن التصدي لها بإقامة الدعوى الدستورية بهذا الخصوص، وترسيخ مبدأ الفصل بين السلطات ,, وأفردت المحكمة الانتخابات البرلمانية المقررة في العراق لشهر نوفمبر القادم بتطمين خاص ضمن بيانها نظرا لأهمية المناسبة والمخاوف المثارة حولها مؤكدّة أن دورها “في ما يخص الانتخابات العامة المقبلة لعضوية مجلس النواب هو وفق ما رسمه الدستور في المادة 93 سابعا وأنها لا تتدخل في الصراعات السياسية بخصوص هذا الموضوع
ويرى صفوان الأمين مستشار السياسات العامة في تقرير نشره المجلس الأطلسي أن الحاجة إلى إصلاح بنيوي للمحكمة بات أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى , ويضيف أن العراق، وهو يواجه تحديات تتعلق بالثروات الطبيعية، الفيدرالية، الحقوق المدنية، والعلاقات الدولية، يحتاج إلى محكمة دستورية تتمتع بالشرعية، والاستقلال، والوضوح في الاختصاص، بدلًا من أن تبقى ساحة لصراع الإرادات السياسية المقنّعة,, وتُعد المحكمة الاتحادية العليا في العراق من أهم المؤسسات الدستورية التي تشكل الضامن الأساسي لتطبيق القانون وحماية النظام السياسي من الانزلاق نحو الفوضى , ومنذ إعادة تشكيلها عام 2021، تحولت المحكمة إلى لاعب سياسي تجاوز الإطار الدستوري، مما أضعف من مكانة المحكمة وفتح الباب أمام تساؤلات بشأن مدى قانونية تشكيلها — النظام السياسي العراقي، الذي يعتمد بشكل كبير على التحالفات البرلمانية الواسعة والمتقلبة، يفتقر إلى توازن واضح بين السلطات، ما يجعل المحكمة الاتحادية ملاذًا أخيرًا لحماية الدستور، لكن هذا الدور يتطلب أن تكون المحكمة مستقلة وموثوقة، وهو ما يتعرض اليوم لخطر جدي , ومن هنا تنبع الحاجة الملحة لإعادة النظر في بنية المحكمة واستقلاليتها من خلال عملية شاملة تضم مختلف الأطراف السياسية والقانونية والمجتمعية، لضمان تأسيس مؤسسة قضائية لا تخضع للضغوط السياسية، وتتمتع بالشرعية الدستورية والمهنية اللازمة لتحمل أعباء الحكم الدستوري في العراق .