23 ديسمبر، 2024 5:10 ص

المحكمة الإتحادية العليا … وحرمة الأموال العامة … وواجب حمايتها .

المحكمة الإتحادية العليا … وحرمة الأموال العامة … وواجب حمايتها .

 

نصت المادة ( 27 ) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 ، على :-

أولا- للأموال العامة حرمة ، وحمايتها واجب على كل مواطن .

ثانيا- تنظم بقانون ، الأحكام الخاصة بحفظ أملاك الدولة وإدارتها وشروط التصرف فيها ، والحدود التي لا يجوز فيها النزول عن شيء من هذه الأموال .

في قوانين الدولة العراقية وخاصة القانون المدني العراقي رقم (40) لسنة 1951- المعدل قواعد أحكام رصينة ، تغني عن إصدار أي جديد يخرج عن مضمونها ، بإستثناء حاجة التغيير في الإجراءات المواكبة لمقتضيات التطور ومتطلباته المستجدة ، إلا إن إنتهاك السلطات السياسية لحرمة الأموال العامة عن طريق التشريعات المغالية والمتطرفة في التخصيصات المالية ، سواء كان ذلك على مستوى المكافآت أو الرواتب أو المخصصات أو الإمتيازات ، التي لم تكن على وفق معايير وموازين الإستحقاقات السليمة والعادلة ، أو على وفق ما يتعلق بصرف نفقات المشاريع والخدمات على غير هدى ضوابط الجدوى الإقتصادية أو الإعتبارية لها ، مع عدم ربط الكلفة بضمان حسن الأداء والنوعية ومدة الإنجاز ، التي كانت على رأس الأسباب الرئيسة المؤدية إلى ضياع وهدر المال العام ، وشيوع مظاهر الفساد الإداري والمالي الذي ينخر جسد الوظيفة العامة ، وهتك حرمتها بعد سلب هيبتها بتولي رئاسة دوائرها من لا يفقه في شؤون إدارتها ، وعليه فإن وسائل حفظ أملاك الدولة وإدارتها دون التفريط بأي جزء منها ، لا يتحقق إلا بتوفير قوى الحماية الفاعلة وذات الكفاءة والخبرة العملية والتطبيقية المتخصصة ، المحصنة بالإستقامة والعفة والنزاهة المخلصة ، التي لا تسمح للنفوس المريضة بالتمدد على حساب غيرها وخارج نطاق إستحقاقاتها ، كما لا يجوز للقانون الأساس أن يتعهد بسن قانون يحدد الأحكام التي لا يجوز فيها النزول عن شيء من المال العام ، لأن ذلك يعني وجود النية والقصد بالتنازل عن أشياء دون حدود عدم التنازل عن الأموال التي لا يمتلك أي مسؤول حق التصرف بها ، ولأن من غير الممكن تحديد مديات تلك الفواصل غير المشروعة ، فإن عدم وضوح التمييز بين الأحكام التي يجوز وما لا يجوز فيها النزول عن الأموال العامة ، ستكون قواعد لإجترار المال العام دستوريا .

لقد حدد القانون المدني العراقي ، ما يعتبر أموالا عامة مخصصة للنفع العام ، حيث ( تعتبر أموالا عامة ، العقارات والمنقولات التي للدولة أو للأشخاص المعنوية ، والتي تكون مخصصة لمنفعة عامة بالفعل أو بمقتضى القانون ) حسب نص المادة (71/1) منه ، و( تفقد الأموال العامة صفتها بإنتهاء تخصيصها للمنفعة العامة ، وينتهي التخصيص بمقتضى القانون أو بالفعل أو بإنتهاء الغرض الذي من أجله خصصت تلك الأموال للمنفعة العامة ) حسب نص المادة (72) منه أيضا ، ولضمان إستمرار الأموال العامة في تأدية وظائفها في خدمة النفع العام ، قرر القانون المدني حمايتها مدنيا وجنائيا ، كونها مخصصة للنفع العام ، حيث لا يجوز مدنيا التصرف فيها على أساس النفع الخاص ، ولا يجوز الحجر عليها ، ولا يجوز تملكها بالتقادم ، وتلك أهم وسائل الحماية المدنية للأموال العامة ، حيث يمنع نقل ملكية المال العام إلى واضع اليد عليه ، بمعنى عدم جواز تبرير تملك المال العام بسبب إنفاقه بعد تسلمه ، وإن كان ذلك عن طريق الخطأ في التقديرات أو الإجراءات الإدارية التنفيذية لاكتساب المستحقات ، وعليه فإن استرداد المبالغ المصروفة خطأ ، يقتضي إجراء التسوية المالية بينها وبين المستحق منها فعلا ، أما الإعفاء من المبالغ ، فلا تنطبق عليه قاعدة الإسترداد ، لأن الديون مستحقة الدفع لا يترتب على إلغائها إستحقاق جديد يمكن من خلاله إجراء الموازنة أو التسوية بين الحالتين ، وإن ترتب على ذلك إعادة النظر في استحقاق معين ، فلا تتحمل خزينة الدولة صرف الفروقات المالية المترتبة على ذلك بأثر رجعي ، إلا إذا نص القرار على ذلك وفي حدود النفع العام ، وتصرف الإستحقاقات على وفق النتيجة النهائية لما تقرر اتخاذه بشأنها ، إعتبارا من تأريخ قرار الجهة المختصة باحتسابها ، لعدم إمكانية إعفاء الموظف من إعادة المبالغ المصروفة له عن طريق الخطأ أو الإهمال أو مخالفة التشريعات .

أما الحماية الجنائية ، فيجرم القانون الإعتداء العمدي على كافة الأموال ، سواء كانت مملوكة للدولة أو للأفراد ، غير إن الأموال العامة تتمتع بحماية جنائية أكبر ، نظرا لتخصيصها للنفع العام ، فيشدد القانون عقوبة الإعتداء عليها ، ليس في حالة الإعتداء العمد فقط ، كالسرقة والإختلاس وتزوير المستندات المالية ، وإنما في حالة الإعتداء باللامبالاة أو الخطأ أو الإهمال الناشئ عن عدم إتخاذ تدابير الحيطة والحذر من مؤثرات العوامل السلبية ، وذلك بتفعيل إجراءات الحماية الأمنية اللازمة لذلك ، كما يضع العقوبات على مخالفة لوائح الضبط المتصلة بتنظيم استعمال الأموال العامة ، المتسببة في الحاق الضرر في خزينة الدولة وهدر المال العام ، نتيجة التشجيع على الإمعان في ارتكاب جرائم التخريب الإقتصادي للبلاد والعباد ، وعليه صدر القرار الذي يقضي بأن :- (1)

أولا- لا يطلق سراح المحكوم عن جريمة إختلاس أو سرقة أموال الدولة ، أو عن أية جريمة عمدية أخرى تقع عليها بعد قضائه مدة الحكم ، ما لم تسترد منه هذه الأموال أو ما تحولت إليه أو أبدلت به أو قيمتها .

ثانيا – يستثنى المحكوم الوارد ذكره في البند (أولا) من أحكام الإفراج الشرطي ، ولا تشمله قوانين العفو العام ولا قرارات تخفيف العقوبة .

ثالثا- تسري أحكام هذا القرار على القضايا التي لا تزال في دور التحقيق أو المحاكمة ، وعلى الأحكام التي إكتسبت الدرجة القطعية .

رابعا- لا يعمل بأي نص في قانون أو قرار يتعارض مع أحكام هذا القرار .

إلا إن الكارثة التي حلت بالوطن وأهله وأموالهما بعد الإحتلال ، هي أن تصدر المحكمة الإتحادية العليا قرارها المرقم (57) في 3/8/2017 ، وبنص قرار حكمها المتضمن ( بأن محكمة الجنايات في النجف ، حكمت على المدعي في هذه الدعوى بالسجن لمدة سنتين ، وإلزامه بتأديته إلى هيئة الإعمار في النجف مبلغا قدره (171,520,968) مائة وواحد وسبعون مليون وخمسمائة وعشرون ألف وتسعمائة وثمانية وستون دينارا ، عن خطأه المتعمد الذي تسبب في خسارة الهيئة المذكورة بما يعادل هذا المبلغ ، على أن لا يخلى سبيله بعد إنتهاء مدة محكوميته ، إلا بعد تسديده المبلغ عملا بأحكام قرار مجلس قيادة الثورة المنحل رقم (120) لسنة 1994 . فأقام المدعي هذه الدعوى ، طاعنا بعدم دستورية القرار المذكور ، لمخالفته للمواثيق الدولية وللإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، وللمواد الواردة في دستور جمهورية العراق لسنة 2005 المذكورة في عريضة الدعوى ، وتجد المحكمة الإتحادية العليا من قراءة قرار مجلس قيادة الثورة المنحل المرقم (120) لسنة 1994 ، الذي قضى بعدم إطلاق سراح المحكوم عن جريمة إختلاس أو سرقة أموال الدولة ، أو عن أية جريمة عمدية أخرى تقع عليها بعد قضائه مدة الحكم ، ما لم تسترد منه هذه الأموال أو ما تحولت إليه أو أبدلت به أو قيمتها ، ومن الإطلاع على تطبيقات هذا القرار ، وبعد أن يمضي المحكوم عليه عن جريمة من الجرائم المذكورة فيه المدة المحكوم بها ، وجوب بقائه في السجن مدة لها بداية ولا نهاية لها ، والنهاية إذا حلت شرط قد لا يمكن تحققه مع الإعسار ، وهو تسديد مبلغ الضرر الذي أصاب الدولة في مالها العام ، ومن تحليل هذا الموقف ، فإن المركز القانوني للمحكوم عليه الذي أمضى مدة الحكم الجزائي الذي حكم به ، بما يتناسب مع حجم الجريمة التي إرتكبها قد أصبح مدنيا للجهة المتضررة ، وهي إحدى مؤسسات الدولة التي عناها القرار المطعون بعدم دستوريته ، تجد المحكمة الإتحادية العليا ، أن إستحصال هذه المؤسسة ديونها حق كفله القانون لها ، وإستحصال هذا الحق يلزم أن يتم وفق الإجراءات المرسومة في القوانين ، وليس بالتنفيذ على بدن المدين ، بالقدر الذي يؤمن التضييق عليه لإظهار أمواله ، وللمدة التي حددها القانون لا إلى ما لا نهاية له . حيث حدد قانون التنفيذ رقم (45) لسنة 1980 هذه المدة في المادة (43) منه بما لا يزيد على أربعة أشهر ، لإجبار المدين على إظهار أمواله إضافة إلى الطرق الأخرى التي رسمها القانون ، للحصول على تلك الاموال بالحجز عليها ومنع السفر وغيره ، وكذلك ما أورده قانون تحصيل الديون الحكومية رقم (56) لسنة 1977 من أساليب تؤمن الحصول على حقوق الدولة , والقول بغير ذلك وإبقاء المدين موقوفا أو سجينا بدون حدود إذا كان معسرا ، ولم تستطع الدولة بما لها من إمكانات للكشف عن أمواله والحصول على حقوقها منه بالاساليب القانونية ، واللجوء إلى تطبيق أحكام القرار رقم (120) لسنة 1994بابقائه سجينا دون تحديد مدة سجنه . فإن ذلك يتعارض مع المبادئ التي أوردها الدستور في الفصل الثاني من الباب الثاني المتعلق بالحريات المواد (37- 46) ، ومنها ما نصت عليه المادة (37/أولا/أ) (( حرية الإنسان وكرامته مصونة )) ، وما نصت عليه الفقرة (ج) من نفس المادة بتحريم جميع أنواع التعذيب النفسي والجسدي . وكذا ما حرمته المادة (46) منه بعدم جواز تقييد الحقوق والحريات إلا بناء عليه ، وحيث إن المادة (2/ج) من الدستور لم تجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الواردة فيه ، فإن سن مثل هذا القانون أو وجوده أصلا يشكل خرقا لأحكام الدستور ويقتضي الأمر الحكم بعدم دستوريته )) .

لقد أصبت بالغثيان والشعور والإحساس العميقين بالإشمئزاز والنفور ، من شدة دفاع المحكمة الإتحادية عن سارق أموال الدولة التي هي أصلا أموال الشعب ، ولا أدري كيف ترى المحكمة أن إبقاء المحكوم سجينا إلى حين تسديد المبلغ من مجهولية مدة سجنه ؟!، ولا أفهم كيف يعتبر المجرم السارق والمختلس مدينا يستحق النظرة إلى ميسرة ؟!، وهو خارج حدود العلاقة بين الدائن والمدين الشخصية ؟!، لأن قول الله جل شأنه ( وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَة ) ، يختص بالديون الشخصية بين أفراد المجتمع وليس بالجرائم المخلة بالشرف ، ولا أرى القرار يتفق وحماية الأموال العامة التي لا يجوز التصرف بها أو حجزها أو تملكها بالتقادم ، ولكم أيها الشعب المنهوبة أمواله بقرار المحكمة الإتحادية العليا ما ترون فعله ، بعد إطلاعكم على بقية ما تضمنه قرار حماية مرتكبي الجرائم المخلة بالشرف ؟!.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- قرار مجلس قيادة الثورة (المنحل) رقم (120) في 5/9/1994- المنشور في جريدة الوقائع العراقية بالعدد (3526) في 5/9/2994 .