على ترعة ,ما استطاع الزمان وسلطانه, أن يمد عليها يدا, ليسلبها دربها,ولا شاخ من رحلة منحنى.
لو عدت للعراق لن اثم الثرى, ولن اصيح
لكنني افترش الثرى
واسند الخد على حجارة بشاطيء الفرات
واستظل نخلة
فأستريح
بهذه المقدمة الشعرية للاستاذ الدكتور الشاعر سعيد جاسم الزبيدي من ديوانه “وارى العمر يضيء” التي جعلتها عنوانا لموضوعي , ونحن مسقط رأسنا “المحاويل” ارتأيت ان اكتب هذه المرة عن مدينتي مدينة الحب والذكريات بعيدا عن السياسة وانحطاطها في العراق خاصة والعرب عامة.
كان اسمها قديما (خان المحاويل) وهو محطة للترحال والسفر والراحة ما بين القرى المجاورة لنقل المحاصيل الزراعية الى بقية مدن العراق عن طريق محطة القطار, وهو خان قديم مبني من الطابوق المفخور واللبن – بكسر الباء – وهي تشتهر بانتاج الطابوق المفخور لكثرة معامل الطابوق فيها.
وكانت المدينة تسمى اراضي بابل حينما كانت جزء من المملكة البابلية وهناك آثار بابلية موجودة ضمن حدود الرقعة الجغرافية للمدينة, وظل اسمها هكذا حتى دخول الاسلام الى ارض العراق فتغير اسمها لتقع ضمن (سواد الكوفة) في العصر الراشدي.
استمرت هذه التسمية حتى العصور العباسية حيث تم في عصر العباسيين احياء نهر النيل الذي طمر في عهد الحجاج وسميت المنطقة باسمه وتكاثرت القرى والتجمعات السكانية حوله واخذت المحاويل تسمية “النيليات” ووقعت تحت “مظلة امارة المزيدين” انتهت هذه التسمية بزوال الامارة وسقوط الخلافة العباسية وكانت مسورة بسور لا يخرج منها اي شخص اثناء الليل خصوصا والحرس يتناوب لحراسته والسبب هو الخوف من غزوات القبائل والحفاظ على مديرها من الاعتداء.
وبدخول التترتقلصت التسمية لتطلق فقط على المنطقة المجاورة لنهر ” الملك ” وآثار النيل وكوثى المنطقة المجاورة لتلة ابراهيم (النبي عليه السلام ) والتي تسمى حاليا (الجبلة) وهي ناحية مشروع المسيب الكبير التابعة للمحاويل.
وبعدها ظهرت تسمية المحاويل ونشوءها في الحقبة العثمانية عام 1889 لتفتح على اهلها الثقافة والرقي والتحضر في ابها صورها الاجتماعية , وكان اول مدير لهذه الناحية هو ( امين افندي )….وهناك اسماء اخرى مشابهة لها كمحاويل الفلوجة وهي ترعة زراعية صغيرة تسكنها بعض العوائل المتناثرة وكذلك محاويل البصرة التي غنى لها فؤاد سالم (بين المحاويل ).
أصل التسمية مشتق من (حۆل ) وهي الحذق والمهارة ودقة التصرف ,او من التحويل والاستراحة قرب تحويلة النهراو جاء اسمها الانتساب الى شخص اسمه “محل ” سكن المنطقة وذات يوم زاره احد الخلفاء العثمانيين فقام محل باكرام الخليفة احسن الكرم وطلب من الخليفة ان يحفر له نهرا للسقي فقال للخليفة ( محل ويل ) الذي يعني ان محل اهلكه العطش فشاع الاسم هكذا (محاويل ).
وتاتي ايضا بعض التسميات لبعض المؤرخين والروائيين :
انها المكان التي تتحول فيه الفروع والجداول والترع.
او انها المكان الذي ” يحول ” اي يمر عليه (حول ) فيه الحاصل الزراعي للعام اللاحق.
وتاتي ايضا من تسميتها (المحاييل ) وهي من الحيلة والحذق ودقة التصرف كما اسلفنا وتحول اللفظة فيما بعد من المحاييل الى المحاويل حيث كان الجد الاقدم لاهالي المحاويل هو (دبيس ) الذي كان يربي عنزا اي (صخل ) يرقص اينما ذهب به دبيس.
وتاتي مرة اخرى معنى الحذق والحيلة ودقة التصرف يرتبط بمعناه من التحويل والاستراحة قرب تحويلة النهر وتدل ملامح التسمية قد انتقلت مكانيا لتصبح مرة(خان المحاويل )- مقر الحكم العثماني للمنطقة – مركز القضاء حاليا-
انتقلت المدينة بمراحل متلاحقة ومتداخلة نحو قرية الصباغية لتسمى فيما بعد بمحاويل الصباغية وبيت خستاوي وطالب الكمر وبيت كميل والصوالح من ابرز عوائلها آنذاك, ثم شملت ناحية الامام الحالية لتسمى ايضا بمحاويل الامام لوجود مرقد الامام الحسن فيها.
المحاويل … قضاء تابع لمحافظة بابل تبعد شمالا عن بغداد حوالي 70 كيلو متر وعن الحلة جنوبا حوالي 20 كيلو متر,
سكانها هادئون طيبون …يمتد جذرهم لحضارة بابل وهم نبطيون يستخرجون الماء وبمعنى انها تمثل حركة الري والزراعة الاصيلة.
عندما يزدهر الحب والتكاتف بين مكونات هذه المدينة التي تحتضن ارضها الطاهرة مكونات كبيرة من السنة والشيعة وعذرا لاستخدام هذا المصطلح الطائفي الذي اوجده الامريكان والصهيونية لتفكيك نسيج البلد الواحد المتوحد.
المدينة الوحيدة في العراق التي لم تمر بحرب طائفية رغم تحاددها مع عشيرة البوعلوان السنية الاصل من الجنوب الغربي للمدينة وهم عشائر اصلاء كرماء ,ومن الغرب تحدها قرية مصطفى الخليل وتسمى قرية البو مصطفى التي سميت باسم المصطفى وهو رجل كريم وعفيف اما حدودها الشمالية فتحدها عشائر الجبور السنية التي تسمى (الكريعات) التي يزعم عشائرها محمد الهندي وحسن الشنيار تجاورهم عشيرة اليسار الشيعية وتسمى (السبطة) التي يدير شؤنها عبيد الهادي الذي يتبع عشائر اليسار وهم من بني طي راسهم في المهناوية كريم الشافي اما غرب المدينة فهم عشائر المعامرة الشيعية…كل هذا التركيب وتراهم متكاتفيت متساندين فيما بعضهم ينبذون الطائفية بكل العصور والازمان والواقع ان في هذا العمل والتصرف له من الحكمة والفلسفة العميقة التي تدل على حضارة وقيم اهل المدينة.
هذا هو ريف المدينة المتحضر فكيف بمركزها الاكثر حضارة وتطور(القصبة القديمة ) الذي يمر فيه نهر المحاويل ويقسمها الى قسمين الصوب الصغير والصوب الكبير والتي كانت يسمى النهر ايام زمان(المچرية ) نسبة الى حفر وكري النهر بين اونة واخرى اي – المكرية – التي كانت جميلات (وخشوف المچرية) يغسلن الاواني والصحون والملابس على ضفافها الجميلة وكان كبار المنطقة وشبابها يحيون الاماسي على ضفاف النهر الجميل التي تؤطرة (المسناية) وهو رصيف من الكونكريت التي بنيت على النهر يقابلها اشهر مقهى للمثقفين وشخصيات ووجهاء المنطقة يديرها الاخوين مجيد وحميد الراضي وهي ملك لاحد اشراف المحاويل هو علوان الطرفة الذي اجر هذه المقهى بسعر رمزي بسيط وحتى بقيت اسعارها برغم ارتفاع الايجارات والجشع لبعض الاغنياء اللذين صاروا بمحض صدفة ..اخلاق علوان هي اخلاق حضارة واهل المحاويل , وفاتني ان اذكر ان هناك مقاهي قديمة تخرج من جلاسها علماء واساتذة منها مقهى حميد المجيد ومقهى على الديوان.
يتوسط الصوب الصغير مقام علوية طاهرة هي (هدية بنت الحسن) يتبرك بها اهل تلك المدينة وتكون تجمعا وماكان للعب واللهو اثناء عيد الفطر وعيد الاضحى يقابلها اقدم مدرسة في المدينة وهي مدرسة المحاويل التي خرجت اجيالا كثيرة صار منهم الاطباء والمهندسين والعلماء ومختلف الاختصاصات العلمية الاخرى.
فيها حسينة وجامع يجتمع فيه قراء القران اخص بالذكر سيد جودة والد مدير البلدية سابقا وعمران الكيف والد الشاعر الكبير محمد المحويلي والرسام حسن الكيف وقريء القران المشهور الحاج علوان.
كان اشهر شارع في المدينة هو شارع (البو سبتي) في الجانب الكبير التي تسكن غالبيته من قبيلة خفاجة التي كان يديرها المرحوم حسين علي العباس السبتي ومختار المنطقة جبار المزعل الخفاجي, وسبتي وهو جد خفاجة في المحاويل التي يرجع انتماؤها الي الشيخ منصور السماوي الخفاجي احد قادة ثورة العشرين الذي تقطن منطقة الرارنجية في الحلة..الى جانب خفاجة تسكن عشيرة الدهيم لآل حسون الجواد وبيت هربود وعباس وكريم الحمد التي تنتمي الى عشائر بني حسن في الهندية (طويريج سابقا ) الى جانب بيت خرابة وخليل العسكر وبناي وبريسم وحجي عمرن وحجي علي الحسون وحجي خليل المحياوي وحجي غني وحجي مظلوم ..وكانت المدينة تحتوي على مولدة كبيرة صنعها وبناها الانكليز آنذاك تضم 4 أحواض من الماء وماكنتان عملاقتان تغذي اكثر من 200 بيت بالكهرباء ليل نهار وكان يديرها ملاحظ بسيط هو كاظم منير عباس الخفاجي وعاملين فقط لادارتها .وكانت تسمى من اهل المدينة (المكينة )…..(ولو ظالين عل المكينة مال الانكليز احسلنه)..مارضة بجزة رضة بجزة وخروف…وكانت شوارعها منورة ونظيفة يقوم عمال النظافة بتنظيفها عند الفجر بمكانس الخوص البدائية (والزبلان ) وهو جمع (للزبيل ) وعاء لحمل الاوساخ مصنوع من الخوص ,وكان المختار هو كل شيء يعوض عن المجلس البلدي بكامله.. ومن تلك المسميات الكثيرة الفاشلة التي انشات في زم (الدم..قراطية ) في تحقيق اي انجاز حضاري يذكر..حيث كان المرحوم جاسم العبيس هو المختار والعرضحلجي وفاعل الخير وحلال المشاكل وهو رجل متعلم بسيط انجب الاستاذ سعيد الزبيدي والشاعر وليد والفنان عازف الناي رشيد والمربي صاحب الحضور الثقافي محمد جاسم العبيس وحفيدهم المطرب علي رشيد ..وهكذا والمعذرة لمن يفوتني ذكرهم لان (الميمري) بطاقة الذاكرة قد اصابها الفيروس المعدي واخذت تمسح بعض الذكريات الجميلية في مدينتي مدينة الحب والذكريات…اتذكر مسيحيا رحمه الله يدعى عبد الكريم نورس يدير مديرية البريد لوحده فقط يساعده اثنان من العمال وقد انجب الدكتور الخبير رعد نورس والدكتور احمد الى جانب الدكتور الوحيد في المنطقة هو دكتور اسكندر يفتح بيته ليل نهار لكل المرضى وهو ايضا من اخواننا المسيح يتناوب معه مضمد كبير من اهل الخير يسمى عبيد الطبيب.
كان السقا اهم مميزات المدينة وهو يحمل على كتفية خشبة تتدلى صفيحتين من الماء يعبيها من النهر ويبيعها ماءا للشرب على بيوت المدينة البعيدة نسبيا عن النهر والصفيحة اي (التنكة) بعانة اي اربعة فلوس وتضعها العوائل في اواني فخارية (الحب) بكسر الحاء- ماء جلاب- لا قسطرة ولا قرقرة ولا ايكو ولا تصفية ولا كلور سوى مادة الشب التي تستعمل لتصفية المياه (لا سكر ولا ضغط ولا قولون ولا دوخة راس)..الناس كانوا اصلاء صافين البال متراحمين متواددين فيما بعظهم تجد الغيرة والنخوة والشهامة والفزعة (وبس تكول آه يلتمون عليك للمساعدة) وكنا نتذكر بائع الفرارات وهو يصيح(شندل مندل فرارات) وبائع شعر بنات وبائع الحلاوة صجم رحمه الله وحداد السكاكين ودوار القماش وخياط الفرفوري…الخ من الصنائع التي اندثرت لظهور الخصخصة والكوكبة والعولمة والشفافية …..والله يرحم ايام زمان .
من اعلام ومفكري وشعراء ورياضي “المحاويل”…..:
الاستاذ الدكتورا العلامة ساهي جواد علامة الرياضيات الذي زاره عبد الكريم قاسم الى بيته الطيني في المحاويل والاستاذ الدكتور سعيد الزبيدي عاشرالجواهري الكبير عندما كان في الغربة ,درس اللغة العربية في اكثر من جامعة عربية – الرسام العالمي جبر علوان وهو اشهر من نار على علم وهو في الغربة – الشاعر الكبير محمد المحاويلي الخفاجي – والفنان المرحوم طالب الفراتي والرسام المبدع حسن الكيف الاديب الكبير اسماعيل ابراهيم الدليمي والمذيعة علية حسن المعيدي الشاعر خضير عباس الدانة والمخرج والممثل مهدي البابلي والاديب عيسى عمران والاديب وصفي الشمري ورياض الدليمي ومحمود عبيد والاديب واللغوي الاستاذ زكي محسن والاستاذ حميد ومحمود محمد الحمزةوساهي حسون والشاعر الشعبي الكبير عبد الرزاق كامل(ابو قمر) والدكتور جواد التونسي كاتب وصحفي عراقي والاستاذ محمد جودة والمطرب الشاب علي رشيد والمونتير ذو الفقار السلطاني والاستاذ غازي الحسين والاستاذ محمود الرشيد والاستاذ تركي اسماعيل والدكتور كريم كامل والدكتور عبد علي المعموري والدكتور جاسب والدكتور حمزة حمودالدهيمي والاستاذ واجد علوان والاستاذ عبد المطلب عبد الجليل والاستاذ عماد ناجي والاستاذ المرحوم عدنان جودة والاستاذ ياسين عباس والاستاذ هادي خضير والدكتور رشيد خضيرالجبوري والاستاذ عبد علي الدليمي والاستاذ شوكت الدليمي…..والاستاذ همام كاظم والاستاذ محمد حمزة سويدان والدكتور عاصم عبود والدكتور حميد الزبيدي والدكتورعصام عبد الحسين والدكتور احمد اللهمود والدكتورمسلم اللهمود والدكتورحسين عبد الله والدكتور عطية دخيل والاستاذ المرحوم شهيد عبيد والاستاذ عدنان علي الديوان والاستاذ حمزة عبد الواحد والاستاذ عبد الله امانة والاستاذ المرحوم كاظم البريسم…والمئات من الشعراء والادباء التي فاتني ذكرهم بسبب ظروف الحياة وفقدان بعض الذاكرة وخاصة حياة الغربة التي عشتها خارج اهلي واحبتي واصدقائي واهلي وما زلت اعاني من تلك الغربة السواداء في حياتي وعذرا لهم جميعا(انا مشتاق وعندي لوعة …ولكن مثلي لا يذاع له سر ).
اما في الرياضة فهناك من اوصلوا الرياضة قمتها في المحاويل وكانو ابطال القطر بكمال الاجسام ومنهم المرحوم حمزة عذاب والمرحوم هاني جزر والمرحوم محمود عودة وعودة جاسم وعبد الحسين فرهود واللاعب الكبير حاتم مجيد (ابو ليلى ) وتحسين جاسم وعبد الامير حسن العيد وصلاح عبد الحسين وهم اللذين اسسوا نادي شباب الطليعة الرياضي ابان الستينيات يضم كل الالعاب الرياضية وبعد غلقه اثناء التقشف بداية سبعينيات القرن الماضي وفتح نادي جديد باسم نادي المحاويل الرياضي الذي اسسه مجموعة من الشباب الرياضي الواعي وحصل على مرتبة متقدمة على العرب بالريشة الطائرة التي اشرف عليها الدكتور ماهر حمزة الحردان وعامر علي والدكتور الذي كان لاعبا صغيرا آنذاك وهو من تلامذتي الذي اعتز به وهو الدكتور وسام صلاح ومن المؤسسين ايضا الاستاذ عباس عبيد والدكتور محمد ورياض جاسم والمشرف التربوي سامي عبد علي واياد محمد وحميد علي ورياض ابراهيم وجواد المنير الذي تبنى زراعة الثيل بمساحة 2500 متر مربع بجهود فردية وبتعاون رياضيين لا يتجاوزون اصابع اليد الواحدة واذكر منهم بالخصوص محمود كرجي ونجم السماوي وحسن فريري وعبد الكريم صاحب وجبار وياس خضير والبطل العالمي بالملاكمة احمد عبد العباس حمود
عندما كنا طلابا صغارا نقلب صفحات التاريخ ونجول باعيننا في مراحل تطور المدن والحضارة وفي تطور البشر منذ عصوره الاولى في كهوفه وبداءته حتى تدرجه في مراتب الرقي الى هذا العصر الذي ازدهرت فيه المدنية والحضارة والحرية..كانت المحاويل بقدمها الحضاري والاخلاقي والجمالي افضل من وجه هذه المدينة التي تطفوا بشوارعها وازقتها المياه الآسنة والقاذورات…وعندما كنا ندرس ذلك التاريخ كنا نبتسم ببلاهة مغتبطين, لاننا من المحظوظين اللذين جاءوا في القرن العشرين, قرن الحضارة والحرية والنور….!
اما الآن وقد تدرج فينا الوعي ونمت سبل المعرفة والادراك وتفجرت الحقائق الرهبية سافرة امام انظار العالم في الفساد والمفسدين وكل مظاهر التخلف والانحطاط بعد 2003, فحري بنا ان نتفجر بعويل يشق السماء,او فلنكن رجالا ونتقدم الصفوف عاملين مكافحين لارجاع مدينتنا المحاويل الى اصلها التاريخي الحضاري الجميل…ومن هنا كما قالها المبدع سعيد الزبيدي….وارى العمر يضيء….المحاويل مدينة الحب والذكريات……!